بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 09:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-31-2003, 12:00 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث (Re: bayan)

    .

    ( 6 )
    لنفصل، قليلا، هذه الأفكار العامة.
    على المستوي الحضاري العام، نلاحظ أولا أن الحضارة الغربية هي بمعنى ما استجابة عالية للتحدي الذي طرحته الحضارة العربية- الإسلامية على أوروبا، بدءا من الدفعة التأسيسية في العالم المتوسطي- المشرقي: ما بين النهرين، ووادي النيل، وحوض المتوسط الشرقي، وهي دفعة أعطاها الإسلام طابعها الأخير، وأكملها بل إن الحضارة اليونانية كانت استجابة أوروبية أولى لهذا التحدي. ومعنى ذلك أن الإبداعات الإنسانية هي، جوهريا، شراكة إنسانية.
    نلاحظ ثانيا، أن العالم كله اليوم يعيش في مناخ حضارة كونية واحدة. ليس هناك اليوم حضارة فرنسية، مثلا بالمعنى الحصري القومي الدقيق، أو حضارة روسية أو ألمانية أو صينية، وإنما هناك، ضمن هذه الحضارة الكونية الواحدة، خصوصيات واضحة أو غامضة، لا تبعا لدرجة العراقة التاريخية لدى الشعوب، بل تبعا لدرجة حضورها الإبداعي وهذا يعني أن الحداثة هي، بدورها، مناخ عالمي- مناخ أفكار وأشكال كونية، وليست مجرد حالة خاصة بشعب معين. إنها حركة عامة وشاملة. وفي هذه الحركة تشارك جميع الشعوب، بشكل أو آخر، قليلا أو كثيرا،والمشاركة تعني التقاء وإئتلافا، كما تعني الافتراق والاختلاف. والمسالة إذن هي مسألة الإبداع والخصوصية في هذا المناخ العام، وليست مسالة رفضه أو الانفصال عنه.
    وفي هذا الإطار يحسن أن نذكر بما يراه اختصاصي في مباحث الحضارة، هو المفكر الفرنسي هنري دولا باستيد، إذ يقول: "لقد انتهى مفهوم الحضارة العربية. وما من رؤيا للمستقبل تكون لها قيمة، من الآن فصاعدا، إلا إذا تضمنت قيم الحضارات الخمس الكبرى في العالم: الأوروبية (الفكر) العربية (اللغة)، الهندية (الحركة)، الصينية - اليابانية (الإشارة)، الإفريقية (الإيقاع) وهؤلاء الذين سيشحنون الكلام أو الريشة بالفاعلية والتأثير الأكثر عمقا سيكونون الخلاقين الذين أمضوا قسطا من حياتهم في اختيار القيم الأصيلة لهذه الحضارات المختلفة.
    ولعل هذا الرأي أن يجد ما يتممه في رأي آخر للفيلسوف الفرنسي بول ريكور يحدد خصائص هذه الحضارة الكونية، ويوجزها في خمس:


    العلم (الذي يكشف عن وحدة البشر، عقليا، من حيث المبدأ).
    التقنية (من حيث أنها تطوير للأدوات التقليدية، انطلاقا من ممارسة العلم الواحد، ومن حيث أنها اختراع تكشف كذلك عن وحدة البشر، عقليا).
    العقلانية السياسية (التي تتجلى في نشوء الدولة الحديثة، كتقنية سياسية واحدة، عبر تعددية الأنظمة السياسية وتباينها).
    العقلانية الاقتصادية (التي تتجلى في نشوء تقنية اقتصادية واحدة، فيما وراء التباين بين الرأسمالية والاشتراكية).
    عقلانية الطراز الحياتي (ويتجلى هذا الطراز في توحيد الشكل، شكل الملبس والمسكن، على الأخص، وتتجلى هذه العقلانية في تقنية الإنتاج والمواصلات والعلاقات، والرفاهية، وأوقات الفراغ، والراحة. بتعبير آخر إن نشوء ثقافة استهلاكية ذات طابع عالمي يؤدي إلى نشوء طراز حياتي عالمي واحد).
    لنلاحظ، ثالثا، في ضوء ما تقدم- أي في ضوء الماضي والحاضر، أن التعارض شرق/ غرب. وبتحديد أخص: شرق عربي- إسلامي/ غرب أوروبي أميركي، ليس تعارضا من طبيعة حضارية، خصوصا أن في الغرب أنواعا كثيرة من الغرب أكثر انحطاطا من أي انحطاط مشرقي، وأن في الشرق أنواعا كثيرة من الشرق أكثر تقدما من أي تقدم غربي.
    الإسلام نفسه في طليعة ما يؤكد لنا ذلك. فهو في جوهره، أو كما أفهمه على الأقل، ليس شرقيا ولا غربيا، وإنما هو كوني، والمسلم إذن لا يجزئ العالم إلى شرق وغرب، شمال وجنوب، في ممارسة الإسلام دينا وثقافة، وإنما يتجه إلى الكون كله، إلى البشر جميعا كوحدة إنسانية.
    يؤكد ذلك أيضا الفن بعامة، في الغرب، والشعر بخاصة. فالشعر الغربي الحديث في ذرواته العليا هو نوع من الكفاح لتجاوز الغرب- أي نوع من الانتماء إلى الشرق، أو نوع من شرقنة الغرب. إن شعرية الشعر الغربي العظيم تتصل بخصائص مشرقية: النبوة، الرؤيا، الحلم، السحر، العجابية، التخييل، اللانهاية، الباطن أو ما وراء الواقع. الإنخطاف، الإشراق، الشطح، الكشف..الخ.
    بودلير، مثلا، من صانعي الرؤيا الشعرية الغربية الحديثة. إن فنة الشعري يقوم في أجمل مناحيه، على المطابقات وهي أصل مشرقي- صوفي.
    رامبو كمثل آخر. إن أعمق ما في شعره هو صراخه بحنجرة الشرق في وجه الغرب بدءا من قوله: الذات شخص آخر، والتي هي تنويع على القول الصوفي: أنا لا أنا. مرورا بتقاليد الأسرار وطقوسها، وبإشراقاته، رجاء الإنخطاف وتحرير النفس من الجسد.
    نوفاليس، كمثل آخر، في قوله إن الشاعر يرى مالا يرى ويحس بما فوق المحسوس، مالارميه- في الكهانة والنرجسية والملائكية.
    ونستطيع أن نضيف أيضا الكوكبة الشعرية التي توجه الحساسية الإبداعية في الغرب هولديرلن، نرفال، لوتريامون، بروتون بسرياليته التي هي،عمقيا، تجربة صوفية.
    هذا دون أن نسمي الرسامين الذين أسسوا للرسم الغربي الحديث. بدءا من كاندينسكي، مرورا بباول كلي، وانتهاء ببيكاسو وبراك وميرو، لكي لا نسمى غير بعض الكبار.
    لنلاحظ أخيرا أن الغرب، اليوم، هو تقنية/ تقدم- أي بقاء في حدود الظاهر، وأن الشرق هو هذا الهاجس الذي لا يرى الظاهر إلا عتبة للباطن- الباطن الذي هو موطن الحقيقة، أي موطن الإنسان. والشرق اليوم هو مناخ التجربة الشعرية، بامتياز: التطلع إلى المطلق، والتطلع في الوقت نفسه إلى المجهول- أي لبلوغ ما يستعصي على التعبير، أو للتعبير عما لا يعبر عنه. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان في الغرب ما يجدد الشرق، تقنيا. فإن في الشرق ما يجدد الغرب، كيانيا- على مستوى الرؤيا الأكثر عمقا، والتجربة الأكثر شمولا، أي الأكثر إنسانية. بعبارة أخرى: إذا كان الغرب يتقدم في معرفة الشيء فإن الشرق يتقدم في معرفة الذات. وكلاهما الآن يسبحان، حضاريا، في ماء واحد - ماء البحث عن أفق جديد. ذلك أن الاستغراق في الشيء قتل للإنسان، والاستغراق في الذات قتل للطبيعة.

    ( 7 )

    نصل الآن إلى القضية الثالثة. وفي الكلام عليها ينبغي أن نسارع أولا إلى التوكيد على التعارض شرق/غرب، حدث عارض، وأنه من مستوى إيديولوجي- استعماري، وأننا حين نرفض الغرب اليوم لا يجوز أن نرفضه إلا على هذا المستوى. أما إبداعاته الحضارية فيمكن أن نأخذها، بخصوصيتنا الحضارية، تماما كما فعل هو، بالنسبة إلى ما أخذه عنا سابقا.
    وانطلاقا من ذلك، يجب أن نعترف أن ما أنتجه أسلافنا في الماضي ليس كله قادرا على الإجابة عن مشكلاتنا الراهنة، أو إفادتنا في التغلب عليها- بل من الخطأ افتراض هذه الإجابة أن هذه الإفادة. كذلك يجب أن نعترف أن في الغرب إبداعات تجيبنا عن كثير من مشكلاتنا، وأن ما ينقله إلينا ليس كله خاليا من الحق. دون هذا الوعي، قد ينقلب هذا التعارض الإيديولوجي السياسي، إلى تعارض ثقافي- حضاري. وليست إرادة الوصول إلى هذا التعارض الأخير، سواء جاءت من جهة الغرب أو من جهة الشرق، قصدا أو عفوا. إلا إرادة المحافظة على استمرار مقولة "التفوق الغربي" أي استمرار الثنائية الزائفة: غرب متحضر- شرق متخلف، واستمرار مشكلية ثقافية زائفة تهيمن علينا، فتأسر حركتنا وفكرنا، وتفسدهما مسبقا. وفي أفق هذا الوعي، يصح أن نقول إن الحداثة، مبدئيا، ليست غربية أكثر مما هي عربية، وإذا كان ثمة تفاوت بين الغرب والشرق في ممارستها التطبيقية، فإنه فرق في الكم لا في النوع.وظني أن هذا التفاوت هو ما ينبغي أن يدفعنا أساسيا إلى أن نعيد النظر، بشكل نقدي شامل وجذري، في ماضينا المعرفي وحاضرنا على السواء.
    هل يمكن أحدنا اليوم أن يعرف عالمه الذي يعيش فيه بالمعرفة التي أنتجها الغزالي أو ابن سينا مثلا؟ أو هل يمكنه أن يقارب الأشياء والأفكار المقاربة نفسها التي نراها عند زهير بن أبي سلمى أو أبي العتاهية؟ ولا يتضمن السؤال هنا إنكارا لقيمة هؤلاء في تاريخية إنتاج المعرفة العربية أو مشكليتها، وإنما يتضمن التوكيد على أننا اليوم، رغم أن عالما ثقافيا- لغويا واحدا لا يزال يجمعنا، نعني بأشياء وموضوعات لم يعنوا بها، ولهذا فإن من المحتم علينا إن كنا خلاقين بالفعل، أن نقاربها بطرق مغايرة لطرقهم، خصوصا في المناخ الهائل لانفجار المعرفة، وانفجار طرقها، تعددا وتنوعا وتخصصا. وهو انفجار لا يقتصر على ميدان ما نسميه بالعلوم الإنسانية وحدها، وإنما يشمل أيضا ما نسميه بالعلوم الدقيقة أو البحتة. ماذا يعني إذن البقاء في أشكال المعرفة والمقاربات الماضية؟ إنه ببساطة. يعني الخروج من التاريخ. لكن التخلي عن تلك الأشكال لا يعني تنكرا لتاريخنا أو أصالتنا. ذلك أن الأصالة ليست نقطة أو موقعا في الماضي تجب العودة إليه لنثبت تراثيتنا. وإنما هي بالأحرى الطاقة الدائمة على الحركة والتجاوز في اتجاه المستقبل- أي في اتجاه عالم يتمثل الماضي فيما يستشرف مستقبلا أجمل وأغنى. على العكس، إن ما ينبغي أن نتعلمه ممن أنتجوا لنا المعرفة الماضية، إنما هو ضرورة إنتاج رؤيا جديدة ونظام جديد من المقاربة والمعرفة. هو أن نكملهم، لا بتكرارهم، بل باللهب الذي حركهم، لهب السؤال والبحث، واكتناه العالم والإنسان، وهذا يقتضي سؤالهم ومواجهتهم، إذ دون ذلك لا نقدر أن ننتج معرفة عربية تترابط في سياق تاريخي واحد.
    هكذا يكون إنتاج المعرفة تجاوزا، أي تكون الحداثة في إنتاج المعرفة من مستلزمات القديم، جوهريا. بل تكون الحداثة، جوهريا، ضمان القديم- لحظة كونها تعارضا معه. وفي هذا المستوى لا يمكن الشاعر العربي أن يكون حديثا حقا ما لم يتمثل القديم، أي ما لم يختبره كيانيا.
    هكذا نصل إلى تخطيط أولي لمعنى الحداثة الشعرية العربية وخصوصيتها. إنها على الصعيد النظري العام، طرح الأسئلة من ضمن إشكالية الرؤيا العربية- الإسلامية حول كل شيء، لكن من أجل استخراج الأجوبة من حركة الواقع نفسه، لا من الأجوبة الماضية. وهي على الصعيد الشعري الخاص، الكتابة التي تضع العالم موضع تساؤل مستمر، وتضه الكتابة نفسها موضع تساؤل مستمر.
    هكذا تنبثق الحداثة العربية من قديم عربي هي، في الوقت نفسه، في تعارض معه. فأن تكون شاعرا عربيا حديثا هو أن تتلألأ كأنك لهب خارج من نار القديم، وكأنك في الوقت نفسه شيء آخر يغاير القديم مغايرة تامة. وينطوي معنى الحداثة هنا على تغيير النظرة للممارسة الكتابية الشعرية، وتقييما جديدا لمقوماتها. وتحديدا لقوانين التعامل معها، وللقوانين التي تكونها. وعلى هذا، أكرر ما أشرت إليه آنفا من أن حداثة الشعر العربي لا يصح أن تبحث إلا استنادا إلى اللغة العربية ذاتها، وإلي شعريتها، وخصائصها الإيقاعية-التشكيلية، وإلى العالم الشعري الذي نتج عنها، وعبقريتها الخاصة في هذا كله. وذلك ما يطرح مسألية نقد الحداثة، أو الحداثة النقدية التي لا تنفصل عن الحداثة الشعرية. وهو ما أختتم به.


    ( 8 )

    طبيعي أن الدعوة إلى انقلاب في فهم الحداثة الشعرية العربية تقتضي الدعوة إلى انقلاب مماثل في نقد هذه الحداثة. وأود هنا أن أكتفي بإيجاز المبادئ الأساسية لهذا النقد الحديث، كما تبدو لي. وأوجزها في خمسة:


    المبدأ الأول الذي يجب أن ينطلق منه النقد الحديث في تقويم الشعر الحديث هو أن مفهوم الممارسة الكتابية الحديثة يختلف جذريا عن المفهوم الذي استقر تراثيا- تاريخيا. وتبعا لذلك، تنبغي الملاحظة أن نظرية الكتابة الشعرية الجديدة هي التي تغير هذا المفهوم تغييرا كاملا، بحيث يصبح للشعر نفسه مفهوم مغاير للمفهومات الموروثة: يتغير معناه، ويتغير دوره.
    بدءا من هذا المفهوم، ينبغي النظر إلى القصيدة الحديثة كنص يدرس ببنيته الخاصة، أي ضمن العلاقات التي تقيمها لغة النص: تراكيب،وصورا، ورموزا. وليست اللغة التي نقصدها هنا مجرد صوتية، قائمة بذاتها، وإنما هي أكثر من ذلك: إنها الكلمات- العلاقات. وفي هذا تنفصل القصيدة كنص عن تاريخية الموروث الشعري- النقدي. ويعني هذا الانفصال أن القصيدة لا تحيل إلى معلوم شائع أو موروث، شأن القصيدة التقليدية، وإنما تحيل إلى مجهول، حاضر أو محتمل- ومهمة النقد أن يحاول اكتشافه.
    الممارسة الكتابية الحديثة ممارسة استباقية. ولهذه الاستباقية وجهان: سلبي، وإيجابي. يعني الأول قطعا مع إيديولوجية الكتابة السائدة على مستوى النظام الثقافي السائد. ويعني الثاني اندفاعا في معانقة المجهول- رؤىّ وطرق تعبير. ومن هنا تتغير النظرة إلى المفهومات الإيديولوجية التي تستند إليها الكتابة الشعرية التقليدية، كالأصالة، والجذور، والتراث، والإحياء، والانبعاث، والهوية.. الخ، ويصبح الارتباط بما يمثل الحركة في اتجاه المستقبل هو الارتباط المهيمن والموجه- أي أن الكتابة تؤسس تاريخها على الرغبة والإنخطاف والرؤيا والكشف، أي على ما يخرق العادة. وبدلا من مفهومات: المترابط، المتسلسل، الواحد المكتمل- المنتهي، التي توجه النقد التقليدي، تنشأ مفهومات أخرى: كالمنقطع، والمتشابك، والكثير واللامنتهي، لكي توجه النقد الحديث.
    القصيدة- النص، إذن، لا تعود مجرد خيط نفسي، أو فكري، أو مجرد سطح انفعالي، وإنما تصبح نسيجا حضاريا، شبكة/ فضاء، يتداخل فيها إيقاع الذات وإيقاع العالم، وتحتضن الزمان الثقافي الخلاق.
    النقد الحديث هو نقد هذا الفضاء في إيقاعه الشامل. ويقوم هذا الإيقاع على حركة مزدوجة، أو على جدلية الهدم البناء، في حركة مستمرة من الاستشراف والتجاوز. ومن هنا نقول أن هذا الإيقاع الإبداعي هو جوهريا وبالضرورة في اتجاه التغير الشامل، أي في بؤرة الممارسة الثورية الشاملة.
    ( 9 )

    بعد إيضاح الحداثة العربية ومشكليتها، ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة. فالحداثة انتقال نحو سمة. رؤية ما. حساسية ما. تشكيل ما، ليست الغاية وليست في حد ذاتها، ولذاتها قيمة، بالضرورة. الأساسي هو الإبداع من أجل مزيد من الإضاءة، من الكشف عن الإنسان والعالم.
    الإبداع لا عمر له، لا يشيخ، لذلك لا يقيم الشعر بحداثته، بل بإبداعيته. إذ ليست كل حداثة إبداعا. أما الإبداع فهو أبديا حديث.


    (بيروت، 1979)



    (.. بعد ثلاث عشرة سنة)
    ( 1 )

    قلت: "ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة "(بيان الحداثة" 1979) في فاتحة لنهايات القرن، دار العودة، بيروت 1980)، وهو قول يبدو الآن أكثر صحة وضرورة منه في أي وقت مضى، خصوصا أن مفهوم الحداثة يزداد التباسا، وأن الكلام عليها يكاد أن يصبح لغوا. و ها هي الكتابة التي تقوم على "قصيدة النثر" تكاد أن تسقط في الآلية والاتباعية كما كان الشأن في القصيدة الوزنية التقليدية. والحق أن النظر إلى ظاهرة الخروج على الوزن والقافية كما لو أنها تنطوي بحد ذاتها على الحداثة هو في أساس ذلك الالتباس وهذا اللغو.
    هكذا أصبح من الضروري، في الكلام على مسألة الحداثة في الكتابة العربية، أن نؤكد على ثلاثة مبادئ: الأول، هو أننا قبل أن نصف شاعرا أو كاتبا بأنه حديث، يجب أن نتأكد من أنه ليس أي منتج بالكلام الذي يتشبه بالشعر أو بالأدب، وإنما يجب أن يكون كاتبا أو شاعرا،حقا: أعني أنه يمتهن الكتابة الأدبية- الفنية، ويعبر عن نفسه وعن علاقته بالآخرين والعالم، بلغة أدبية- فنية، وبطريقة خاصة تميزه.
    الثاني، أن نعرف هذا الذي يطلق عليه اسم القديم معرفة عميقة ومحيطة. وأن ندرك أن صفة القدامة لا تعني بالضرورة التناقض مع ما يطلق عليه اسم الحديث.
    الثالث، وهو تتمة للثاني، أن ندرك أن صفة الحداثة ليست حكما بأفضلية الحديث على القديم، وإنما هي مجرد وصف، وأن هذا الوصف قد يقع على نص يكون في الوقت ذاته نصا عاديا أو رديئا. الحداثة بتعبير آخر، سمة فرق لا سمة قيمة.
    قد تبدو هذه المبادئ الثلاثة بدهية، في النظر. غير أنها ليست كذلك في الواقع وفي الممارسة. فثمة، من ناحية، استقطاب في حياتنا الأدبية بين الحديث والقديم، بحيث أن الأول أيا كان يشير غالبا عند بعضهم إلى التقدم. وأن الثاني، أيا كان يشير إلى التخلف، فيما يعنيان عند بعض آخر شيئا آخر مناقضا. وهناك من ناحية ثانية، تضخم في النتاج الكتابي: كل يدعي الكتابة الأدبية الفنية، وكل يدعي النقد والتقويم. والنتيجة هي فوضى وتخبط في الإنتاج الكلامي يؤديان إلى أن تتساوى النصوص كلها، وإلى أن يغيب التمييز بين الجيد والرديء. وبين المتفرد والمبتذل.
    وتعكس كلتا الناحيتين فقر النظرة، وضحالة الثقافة، وما هو أخطر من ذلك الجهل بالنفس، وبحقائق الأشياء.


    ( 2 )

    لا أظن أن أحدا يمكن أن يقول أن رينه شار، مثلا، أو سان- جون بيرس، أو ميشو، أو جوف، أو بونج، أو بريتون، أو بونفوا، أو دوبوشيه أكثر حداثة من هيراقليطس أو نيتشه أو هولدرلين أو غوته أو رامبو أو بودلير أو مالارميه أو لوتريامون إلا بالمعنى الزمني.
    هذا الذي أقوله في ما يتعلق بالكتابة الشعرية الفرنسية (وأقوله قصديا، لأن هذه الكتابة هي مرجعيتنا الحداثية الأولى) ينطبق تماما على الكتابة الشعرية العربية. فليس أبو نواس أو أبو تمام أو المتنبي أو المعري أو النفري أكثر حداثة من جلقامش أو امرئ القيس، إلا بالمعنى الزمني. وليس السياب أو حاوي أو الخال أو عبد الصبور (لكي لا أسمّي إلا الذين فقدناهم) أكثر حداثة ممن أشرنا إليهم، إلا بالمعنى الزمني.
    هذا مما يوضح، فيما يتعلق بي شخصيا، أنني حين أصف نصا بأنه حديث لا أضمر تفضيله بشكل مطلق على النصوص التي تقدمته في الزمان، بل أضمر، بالأحرى، شيئا آخر يتجاوز الإطار الزمني للنص إلى إطار آخر يتصل بالرؤية التي يصدر عنها، ببنيته، وبأبعاده.
    ما هذه الرؤية؟ ما تلك البنية؟ وما تلك الأبعاد؟ تلك هي المسألة.
    وهي، ويا للمفارقة، المسألة الوحيدة التي ينساها معظم الذين يتكلمون على الحداثة في الكتابة العربية.
    استطرادا، وإمعانا في التوضيح والتحديد، أحب أن أشير، بدئيا إلى أنني عندما أتكلم على الحداثة في المجتمع العربي، لا أشير إلى علم، أو تقنية، أو فلسفة.. وإنما أقصد، حصرا، الفنون والآداب. وفي هذا ما يشير، بدوره إلى المفارقات والتصدعات في المجتمع العربي، وغلى أن البحث فيها ضروري ملح، وإلى أنها تطرح أسئلة كثيرة يولدها هذا السؤال: كيف تنشأ حداثة أدبية في مجتمع يقوم، في بناه الأساسية، على التقليد، في مختلف الميادين الأخرى غير الأدبية؟
    أحب كذلك أن أشير إلى أننا أخطأنا، منذ البداية، في فهم حداثة الغرب. لم ننظر إليها في ارتباطها العضوي بالحضارة الغربية، بأسسها العقلانية خصوصا، وإنما نظرنا إليها بوصفها أبنية وتشكيلات لغوية. رأينا تجليات الحداثة في ميدان الفنون والآداب، دون أن نرى الأسس النظرية والمبادئ العقلية الكامنة وراءها. ومن هنا غابت عنا دلالتها العميقة في الكتابة وفي الحياة على السواء.


    ( 3 )

    الحداثة في إطار الموروث العربي- الإسلامي، تحديدا، وبالقياس إلى الماضي، وبوصفها إبداعية، إنما هي حركة، ودلالتها الغالبة إذن كامنة في التغيير والفروقات، لذلك لا يمكن أن تكون نظرية محددة، أو قواعد وقوانين محددة. إنها كمثل أفق يهيمن بأضوائه وبأبعاده، على فضاء الحاضر دون أن يمحو فضاء الماضي. فمع أنها قطيعة معه بالضرورة فهي استمرار له، بالضرورة. ذلك أن كل ابتكار لجمال جديد في اللغة، لا يمكن إلا أن يستند إلى قديمها الجمالي. فاللغة كيان ولا نقدر أن نجدده إلا من داخله، من داخل عبقريته، وجماليته، وخصوصيته. إن كنت حديثا حقا، فأنت تحيا داخل هذا الكيان- لا إلى جواره، أو خارجه، أو على هامشه، - أي أنك تحيا في بهاء القديم وفي طاقاته الفنية التي لا تستنفد. وكل كلام على الحداثة ينبغي أن يتم في إطار هذه الإحاطة وهذه الكلية وهذه الرؤيا الشاملة.
    نقول، بتنويع آخر، إن المحدث في دلالته العربية الأصلية هو "ما لم يكن معروفا في كتاب، ولا سنة، ولا إجماع" هذه الكلمة هي أصلا، دينية، ثم أصبحت وصفا يطلق على الشعر الذي يخالف الشعر القديم، الشعر المعروف، والذي ينعقد عليه الإجماع، هذا الشعر "المخالف" هو ما سمي "المحدث" و "المولد". هكذا يمكن أن نقول أن الحداثة سمة للأقوال والأشياء غير المعروفة من قبل. وبهذا المعنى، لكل عصر حداثته.
    وفي هذا ما يوضح عدم إمكان تحديد الحداثة الشعرية بوصفها خصائص محددة، ثابتة، كما أكدت، سابقا، ويوضح أنها، بالأحرى، حركة تاريخية وأنها بوصفها كذلك لا تنفصل عما قبلها وعما بعدها، وأنها نوع من الانقطاع- التواصل.
    ولئن كانت الحداثة لا تحدد، فمن الممكن القول إنها كانت دائما حاضرة في تاريخ الإنسان- ممارسة، أو إشارة ودلالة.


    ( 4 )

    في هذا الأفق، يبدو الكلام على قطيعة جذرية وشاملة مع التراث أو الماضي، كلاما لا ينهض على أي أساس شعري أو معرفي.
    صحيح أنني شخصيا تحدثت عن القطيعة والرفض- لكن في سياق آخر يختلف كليا، وعلى مستوى آخر مغاير كليا. كنت اقصد في حديثي هذا أن أقول أن الشاعر العربي مهما كان عظيما، لا يجسد في نتاجه اللغة العربية- فهي أوسع منه، وأن أقول. تبعا لذلك، إن على الشاعر الجديد أن يرتبط باللغة الأم، لا بنتاجها. ولئن كان يولد من الرحم الواحدة أبناء يتناقضون في كل شيء. فبالأحرى أن يكون في اللغة أبناء لها يتناقضون كتابيا، في كل شيء. فهذا التناقض دليل غني- وهو لا يعني القطيعة أو الرفض في أية حال. فهذان لا يتمان إلا في حال واحدة: أن نرفض الأم ذاتها، أي أن نرفض اللغة التي نكتب بها.
    دون هذا الوعي، دون هذه الإحاطة النظرية سوف تتعثر الحداثة الفنية- الأدبية في اللغة العربية، وهذا مما بدأت ملامحه بالظهور. وهذا مما يفرض على الشعراء الشبان، وبينهم مواهب شعرية كبيرة، أن يتعمقوا في فهم الحداثة ومشكلاتها، فيما وراء التشكيلات، وفيما وراء النثر والوزن.
    إن عليهم أن يدركوا أن الذين أسسوا الحداثة الغربية، كمثل رامبو وبودلير ومالارميه، كانوا كلاسيكيين- أعني أنهم لم يخلقوا الحديث إلا بفضل ارتباطهم العضوي العميق بالقديم.
    وقد يقول بعضهم اتهاما: الشعراء العرب الحديثون ينقلون أشكال الشعراء في الغرب. هذا كلام باطل. الذين يعرفون اللغة الشعرية، يعرفون أن الشكل لا يؤخذ، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد في ذاته- معزولا، كشكل لوعاء ما، أو كشكل لآلة ما. الشكل للقصيدة كمثل الجسم للإنسان: لا يستعار. فالشكل هو دائما شكل جسد معين، قصيدة معينة، ثم إن تشكيل اللغة العربية يختلف، لاختلاف مادته- الموسيقية خصوصا، عن التشكيل في اللغات الأخرى. لذلك لا تمكن استعارة أو نقل شكل قصية أجنبية لقصيدة عربية إلا في حالة واحدة: حين تكون هذه الأخيرة مصنوعة كما تصنع آلة جامدة.
    اللغة كما قلت كيان- لا يقبل زراعة أعضاء غريبة عنه، لا يقبل إلا ما ينبثق منه.
    لا يقبل ما يكون لصقا.
    ولئن كان الإبداع فيما وراء القدامة والحداثة فلا يمكن أن تكون قطيعة بين الحداثة والقدامة، عمقيا، وإنما يكون بينهما فرق، يتجلى هذا الفرق من ناحية في استخدام عناصر قديمة استخداما حديثا، ومن ناحية في المناخ المرتبط بالعصر- سياسة، وثقافة، وقضايا، ومن ناحية أخرى، في الرؤية والرؤيا على السواء. ومن هنا لا نرى في إطلاق اسم الشعر على بعض النصوص المكتوبة بغير الوزن، قطيعة مع اللغة العربية- بل مع البحور الخليلية. أضيف أن هذه التسمية تستأنس بالإشارات التي وردت عند العرب القدامى حول إمكان تسمية النثر، في بعض الحالات، شعرا. والإشارة الأكثر دلالة، في هذا الصدد هي وصف العرب النص القرآن بأنه شعر- مع أنه غير موزون وغير مقفى.
                  

العنوان الكاتب Date
بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث bayan10-31-03, 11:48 AM
  Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث bayan10-31-03, 11:52 AM
    Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث bayan10-31-03, 12:00 PM
      Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث ادونيس bayan10-31-03, 12:01 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de