يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) سورة الأنفال (25).
ليس من مستغرب الحديثِ القولَ أن الفتنة متلازمة عصرية يكاد لا يخلو منها زمان أو مكان. تمشى الفتنة بين الناس في خيلاء وتجوب شوارع واقعنا العربي بلا حياء، فيقع صريع سهامها الضعفاء الذين لم يحصنهم الدين الذي يدعو إلى درء الفتنة وتحكيم صوت العقل والحكمة.
صبر سيدنا يوسف على مكر إخوته حينما ألقوا به في غيابت الجب فعوضه الله ملكاً وعزاً وقوة، ثم أُبتلي بالمحنة الأعظم حينما راودته التي هو في بيتها عن نفسه فاستعصم. فصبره على المحنة الأولى صبر إضطرار لا يمكنه الفرار منه، أما صبره على المراودة فهو أعظم أجراً لأنه صبر إختبار، إذ كان له الخيرة في أن يستجيب للنداء ولكنه إستمسك بدينه ومخافة خالقه فكان له الجزاء.
وجدت نفسي أميل إلى المقاربة بين محنة سيدنا يوسف مع إخوته وما يحدث اليوم من شقاق بين إخوة يجمعهم الدين واللسان العربي المبين، حيث إجتمعت عدة دول خليجية ومعها دويلات أخرى فقذفوا بقطر في بئر العزلة التي لا أحد يعلم كم ستبقى داخلها وإلى متى ستصمد تلك الإمارة الصغيرة في ظلام تلك البئر؟
لم تتخذ تلك الدول قرارها بمقاطعة قطر بين عشية وضحاها، إذ غلقتِ الأبواب وقدمت مطالبها لقطر التي تمنعت وأدارت ظهرها لتلك المطالب فقُد أَمنُها من دُبُرٍ واستحكم حصارها!
نجد العذر لدول المقاطعة، الكبرى منها والصغرى، فلديها مبرراتها وحججها وبراهينها، رغم نفي دولة قطر لتلك الأسباب والمسوغات، بل وأكدت مشاركتها في حلف مكافحة الأرهاب الذي أصبح يشكل بعبعاً عالمياً وهاجساً يؤرق الحكومات، ولكننا نتساءل إستغراباً عن تلك المواقف القوية إزاء الإرهاب الأمريكي الذي رمى بآلاف الأطنان من القنابل على أرض العراق فدمرها وقتل أهلها بحججٍ أثبتت الأيام بطلانها؟ أين الموقف العربي والإسلامي من الإرهاب الأمريكي في سجن أبوغريب، حيث أمتهنت كرامة أبناء جلدتنا وسيقوا كالكلاب على أرجلهم وأيديهم حفاة عراة! أين الصرخة العربية الإسلامية الموحدة من جريمة القهر الأمريكية وهي تشيد ذلك السجن المشؤوم في خليج قوانتانامو وتذج في غياهبه أناساً ولدتهم أمهاتهم أحراراً ولكن إستعبدهم الصلف والجبروت الأمريكي! أليست إسرائيل هي ربيبة أمريكا وتمارس بمباركتها القتل والتعذيب في أبناء أمتنا العربية الإسلامية ويحميها في ذلك الفيتو الأمريكي البغيض! أين مواقف الساسة العرب "الشرفاء" عندما دكت صواريخ كروز الأمريكية مصنعاً للدواء بالخرطوم بناءً على معلومات خاطئة لا صحيح فيها سوى غطرسة أمريكا التي يحاضر رئيسها قادة الشعوب العربية والإسلامية عن الإسلام وتطرفه وإرهابه!
هناك عدة سيناريوهات يمكن الخروج بها حتى الآن من مجمل هذه الأحداث: أولاً: أن يصل الجميع إلى مرحلة التهدئة بعد أن تهدأ النفوس ويحتكم الناس إلى صوت العقل والحكمة ولاسيما بعد دخول الطرف الأمريكي كعامل حاسم لجلوس جميع الأطراف على طاولة المفاوضات بعد أن تعذر ذلك، فيما يبدو، من وسيطٍ عربي إسلامي. ثانياً: أن يستمر التصعيد والضغط على قطر وخنق أنفاسها تدريجياً من خلال حصارها براً وبحراً وجواً قبل أن تطلق نداء إستغاثة لتنقذ نفسها من موت محتم. وفي هذه الحالة فقط يمكن فرض الوصاية عليها وإخضاعها لكل الشروط المطلوبة. ثالثاً: أن ينفجر الوضع تماماً وتدق طبول الحرب في سماء الخليج الذي يرقد على ملايين الأطنان من الزيت الأسود ويحتاج فقط إلى عود ثقابٍ صغير لكى يشتعل الخليج بأكمله. إذا لاحت نذر الحرب، سوف لن تقف إيران موقف المتفرج ولربما أنتهزت الفرصة لترد الصاع صاعين لخصمها اللدود السعودية ولا سيما بعد إتهامها لهذه الأخيرة بأنها وراء الهجمات التي تعرضت لها مؤخراً. أما تركيا، فقد سارعت بتمرير مشروع يتيح لها إرسال جنود إلى قطر وهذا يتيح لها فرصة التواجد على الأرض والوقوف بجانب حليفتها إذا إستدعى الأمر. في هذه الحالة، لا قدر الله، على شعوب المنطقة أن تتحسب لصيفٍ خليجي قائظ بعد أن جربت شعوبٌ أخرى ربيعاً عربياً دامياً أطاح بأنظمتها السياسية وحقنها بجرثومة الفوضى وعدم الإستقرار. على قادة دول الخليج وحكمائها تفويت الفرصة لسنين عجاف يمكن أن تأكل كل خيرات المنطقة لأزمنة عديدة، فالمتربصون بالصيد الخليجي يسيل لعابهم الآن في إنتظار سقوط الفريسة!
كتبت قبل يومين مقالاً بعنوان "طائرُ الشؤم الأمريكي ينثر فضلاته على رمال الخليج البيضاء" ذكرت فيه أن الوضع في الخليج لا ينبئ بخير ما لم يتم تداركه قبل أن يستفحل وأشرت فيه إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية في صناعة الأزمة وأنها ستراقب الموقف قبل أن تعرض وساطتها على الفرقاء! وبالفعل خاطب الرئيس ترامب الأمير الشاب وعرض عليه الوساطة من خلال إجتماع في واشنطون إذا لزم الأمر، حسبما ذكر البيت الأبيض.
لا أجد نفسي مطمئناً لهذه الوساطة الإبتزازية الأمريكية، فكيف نثق بمن صب الزيت في النار؟ أليس من البديهي أن من يعرض الوساطة يذهب بنفسه إلى الفرقاء؟ أخشى أن تكون هذه الدعوة بمثابة مصيدة للشيخ تميم لإخراجه من وطنه بسلام، ليس من أجل عيني الأمير، وإنما ليتسنى لمن يسعون إلى قلب نظام الحكم في قطر إلى تنفيذ مخططهم بهدوء ودون إراقة دماء في ظل غياب رأس الدولة عن مسرح الأحداث. إذا كان الرئيس ترامب جاداً في وساطة "نزيهة" لنزع فتيل الأزمة في منطقة الخليج، فما عليه إلا أن يصعد سلم ال (Air Force 1) متوجهاً بها هذه المرة نحو الدوحة ليعرض وساطته المقدسة على الأمير تميم وهويحتسي معه فنجان قهوة عربية حتى يُخرس أصوات طبول الحرب والفتنة وليعلم الجميع أن قطر يٌشد إليها الرحال أيضاً وأن وجود الرئيس الأمريكي بنفسه على أرضٍ ما كفيلٌ بأن يجعلها منيعة على رصاص الأعداء. بعد ذلك يمكنه أن يهبط في مطار الرياض ليجتمع بجلالة الملك سلمان والقيادتين السعودية والإماراتية للوصول بالأزمة إلى شاطئ الأمان. في كلا الحالتين، على الرئيس الأمريكي أن يذهب وحده دون مرافقة زوجته "ميلانيا" حتى لا تتشتت "الأنظار" إلى إتجاهاتٍ أخرى، أما المستشار كوشنير فسوف يرافق حماه دون شك ولكن من غير "إيفانكا" حتى لا ينصرف الجميع عن صلب الموضوع!
مجدي مكي المرضي الخرطوم 13 رمضان 1438 هجرية الخميس 8 يونيو 2017 ميلادية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة