السؤال الذى عنون به الصحفى النابه الاستاذ عثمان ميرغنى مقالته المنشورة فى صحيفة الراكوبة بتاريخ 5/6/ 2016، وهو يعلق على ندوة قدمها العالم والخبير العالمى والقانونى واخى الأكبر د. سلمان محمد احمد، يعكس فعلا ازمة اتخاذ القرارات وصنع وتصميم وتقييم السياسات العامة، ليس فقط فى السودان ولكن فى كثير من الدول العربية والافريقية وغيرها من دول العالم الثالث المنكوبة. ولكن واقع الأزمة من العمق والتجذر فى سوداننا بحيث أنها تقودنا من كارثة فادحة الى كارثة افدح ان جاز التعبير. والحق يقال ان الأزمة فى السودان لم تبدأ بمجىء الانقاذ ولكنها تعمقت واستفحلت بالعشوائية والجربندية التى تميز بها صانع السياسات الانقاذى. عملية صنع السياسات وتصميمها تقييمها واتخاذ القرارات فيها اصبحت علما بذاته تمنح فيه مختلف الدرجات العلمية وتخصصا مهنيا مرغوبا فى دول العالم المتقدم التى افردت لمتخصصيه مواقع استشارية قيادية فى الجهاز السياسى والجهاز الادارى. واصبح التخصص بما يوفره من فرص وظيفية لطلابه تخصصا جاذبا للطلاب فى جامعات الدول المتقدمة. بل ان بعض هذه الجامعات أنشأت له كليات خاصة مستقلة بعد ان كان يدرس تحت مظلة اقسام الاقتصاد والسياسة والادارة العامة. ولو تصفحت مناهج كثير من الجامعات العربية والسودانية فانك لن تجد أثرا لهذا التخصص الا فى بعض الكورسات اليتيمة المهمشة تحت مسمى "السياسات العامة" وهى كورسات ابعد ما تكون من محتوى هذا التخصص. اضافة الى ذلك فان حكومة الانقاذ تفردت باسناد وظائف الاستشارات للسياسات لاصحاب الحظوة والولاء الذين لا يتمتعون بأى خبرة فى مجال الاستشارة دع عنك تمتعهم بأى خلفية علمية تغطى على ضعف الخبرة والمحتوى. فكان ما يقدمونه من استشارات، اذا كان فعلا يطلب منهم تقديم استشارة، هى مجرد انفعالات جربندية تتماشى مع ما انفعالات الجريندى الكبير ورغائبه. تخصص تحليل الساسات يسعى لعقلنة عملية صنع السياسات ومتابعة تنفيذها وتقييم أثارها وتعديلها على حسب نتائج التقييم وذلك بتفكيك المشكلة ومعرفة ارتباطاتها بالمشاكل الاخرى وذلك لأن مشاكل السياسات العامة تتميز بدرجة كبيرة من الاعتمادية (Interdependence) بمعنى ان مشاكل البيئة والطاقة تؤثر على قطاعات التوظيف والصحة والمياه والتعليم وهلم جرا. ولذلك السياسات التى تقدم لحل مشكلة معينة يكون لها أثار جانبية (side effects) ايجابية او سلبية على القطاعات الاخرى مما يتطلب مفاضلة بين البدائل المقترحة لحل المشكلةعلى حسب المعايير المهمة (criteria) التى تعبر عن المصلحة العامة. كل المشاكل التى يعانى منها السودان حاليا هى نتيجة لتدعيات سياسات غير مدروسة فى كل المجالات. على اننا يجب ان نذكر هنا ان علم تحليل السياسات علم مجائد يمكن ان يخدم الديكاتور كما يخدم الديمقراطى المصلح بيد أنه لا يمكن أن يحقق عقلنة عملية صنع السياسات العامة الا فى اطار ديمقراطى حر يتيح النقاش المفتوح للمشاكل العامة تحت مراقبة الصحافة الحرة والاراء السياسية المتصارعة التى تخضع تصرفات الحكام للرقابة الصارمة. بغير ذلك فانها ستكون أداة لتبرير الفساد والشمولية كما حدث فى الاتحاد السوفيتى الذى استخدم التخطيط العلمى لانتاج افسد نظام شمولى عرفه العالم. الرؤساء الامريكيون والحكام فى دول الغرب ليس من ذوى الخبرة فى ادارة شئؤون الحكم والادارة ولكنهم يحيطون انفسهم بمتخصصين فى شتى مجالات السياسة العامة يسترشدون بدراساتهم فى شتى المجالات من الارهاب وحتى نظافة المدن. ولذلك لا يمكن ان تجد وزارة او بلدية او حتى مؤسسة عامة دون وجود قسم تحت مسميات مختلفة ليقدم الدراسات من مشاكل نزع السلاح والارهاب والبئية وحتى نظافة المدن وجمع النفايات. ليس ذلك فحسب بل ان دولة مثل دولة الامارات، التى ظهرت للوجود فى ديسمير 1971، باستخدام هذا الأسلوب العقلانى من جملة اساليب اخرى ان تتحول من دولة فقيرة الى دولة يعيش مواطنيها فى مستوى لا نجده فى كثير من الدول المتقدمة (فمثلا اشترك الكاتب فى تطوير دليل لصنع الساسات العامة لامارة ابوظبى كلف الاف الدراهم). واستقدمت الامارات خبراء عالميين فى صنع السياسات والتخطيط الاستراتيجى مكنها من تطوير رؤى استراتيجية لاماراتها منفردة ولحكومتها الاتحادية. فهى الان تملك رؤية استراتيجية لحكومتها الاتحادية حتى عام 2220 تسعى من خلال عقلنة سياساتها الى تحقيق مستويات من التنمية والرفاه ما لا نحلم بتحقيقه نحن فى السودان بعد 200 سنة كما ذكر بحق رئيس البرلمان السابق. ان هذا الاسلوب العقلانى هو السر فى ادمان النجاح فى الامارات وغيابه هو السر فى انتاج الفشل فى السودان. وهذه هى الاجابة على تساؤل الاستاذ عثمان الذى تفضل هو نفسه بالاجابة عليه بصورة تكشف معرفته يسبب الداء. وقد يقول قائل أن الامارات تملك ثروة بترولية ضخمة ولذا كان سهلا عليها ان تحقق ما حققت. ولو كان هذا الحديث صحيحا لحققت ليبيا القذافى اضعاف ما حققته الامارات لجودة بترولها ووفرته وقربه من الأسواق العالمية. ولو كانت الموارد تتحرك من نفسها لكنا نحن أغنى دول العالم لأننا نملك من الموارد ما لا يتوفر للامارات ولكننا ندير هذه الموارد بصورة يصدق عليها المثل السودانى (دفن الليل ابكراعا برة). مع تحياتى للاستاذ عثمان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة