|
Re: قصاصة من دفتر ذكريات السجن المُهمل ومركو� (Re: محمد الجزولي)
|
وبعد ان تسلحف الوقت كما يشاء ، فُتح باب القسم ، الذي هو بمثابة باب الحياة والاحباط لنا ، بفتحه تدخل ناس وتخرج ناس اما للحياة الخارجية اما لمعتقلات اخرى او زيارات او عيادات ،وتاتي منه الاخبار الطيبة والاخبار التي لا تسر ، اطل الشاويش "استيف" براسه وانتصب عسكرياً في وقفته ينظر لنا اول ما رآنا ننظر له جمعاً في ترقب ، قال بلكنته المحببة لقلوبنا " مافي شي ناس زيارات يلا ارح " .. وبداء ينادي في الأسماء من الورقة التي يحملها ،
فخرجنا من القسم سبعتنا العليهم كشف الزيارة اليوم ، في مقدمتنا الشاويش " استيف " يمشي بزيه العسكري وجسمه المفروع القامة كما انه يقود كتيبة عسكرية ، ونحن خلفه تاره نرفع ايادينا بالسلام لبعض حبيسين الزنازين المنتشرة في قسم الورشة الملاصق لقسمنا ، ويشغالونا ونشاغلهم بماهو طيب ، وتاره نسلم بالايادي على بعض العساكر الذين يمرون من امامنا ، ولا ننسى في سلامنا هذا ان نعطي منه نصيب مقدر لعمنا الشايقي - كهذا كنا نناديه - الشاويش الذي يحرس زنازين المنتظرين الاعدام ، كان طيباً ودوداً تحس بأنه اباك او خالك او عمك ، وتحسه مرات اقرب اليك من حبل الوريد ، وهو الرجل المناسب في المكان المناسب ليخفف على المساجين المنتظرين الموت بحنيته وطيب معدنه فهو انسان بحق وحقيقة ، .. ومن ثم دلفنا الى قسم السراية - في وسط السجن - وهو من اهم واخطر الاقسام في السجن ، فهو خليط بين عتاولة الاجرام ، في سرقة ونهب والاغتصاب والدعارة وتجارة المخدرات بانواعها ، وبه صنوف من البشر من مختلف الاعمار والاقاليم يقبعون في زنازين على ثلاثة طوابق ، يصيحون لنا بالأيادي من نوافذها وهم يرددون الاناشيد التي يسمعونا ننشدها في استقبال معتقلين او ترحيل معتقلين او اطلاق سراح "وهذا نادر ما كان يحدث" ، او انتقال معتقل الى الرفيق الاعلى ، وحفظوها عن ظهر قلب فنبادلهم التحايا بالتلويح ، ولغة الايادي والاصابع ،.. وهنا تحايا خاصة نتوقف لنلقيها للمسجون جمال "دقلش" وكان دائم الجلوس الصباحي بجوار المسرح على سجادة كبيرة وتبدو عليه ملامح ومظاهر التدين الشديدة ،، نلقي عليه السلام ويدعو لنا .. فتعودانا في ذهابنا للعيادة او مقابلة الظباط ان نمر نسلم عليه ونتجاذب معه بعض من ما تيسر من حديث بما يجود به مزاج الشاويش ، وكنا من المبهورين بقصصه فترة صبانا ، وجمال من المحتالين الذين اثاروا الجدل في مطلع الثمانينات ، وكان جُل اهتمامه في الاحتيال متركز في دائرة الشرطة والجيش ، فذاع صيته ، وكانت قصصه حديث المدن ، منها الصحيح ومنها المنسوج من وحي الخيال وكان ما يميزه بانه فارع طويل ووسيماً كوسامة ممثلين هوليود . وتم القبض عليه اخيراً بعد ان ( دَوُخ ) الشرطة بلغة الشارع لفترة طويلة جداً من الزمن ، وحُكم عليه بالمؤبد داخل سجن كوبر .
وبين الحد الفاصل من مبنى قسم السراية وحتى البوابة الضخمة والتي لا تستطيع عبورها الا من مخرج صغير تنحني ! لتخرج منه ،، يُطبق عليك صمت وتفكير لا إرادي ومتلاحق في كيف سنرى اهلنا !! ! وما هي الاخبار التي سنسمعها ! ، ومن سيأتي في الزيارة ! فمنا من يتوقع اخوه او خاله ، واخر زوجته واطفاله من الرنك ، واخر تعتبر ثاني زيارة له في سنتين يتوقع غالباً زوجته وابناءه واخته وزوجها وشقيقه ، واخر سيرى والدته واخوانه من عطبرة ، واخر سوف يرى زوجته بعد ستة شهور بعد اعتقاله من جوارها في ليلة الزفاف ! وانا احلم ان اشوف امي واخواتي وعيالهم اطفالي الحلوين واصحابي والاهل وناس الحِلة من جم ، خطواتنا كانت تسابق نبضات القلوب المتشوقة وعطشانة لرؤية الأهل والاحباب ، ولم نكترث حتى للإنحناءة المهينة لعبور البوابة التي كانت كباب جنة اللقياء لأرواحنا الغائبة عنا .
يتبع >>>>>>
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قصاصة من دفتر ذكريات السجن المُهمل ومركو� (Re: محمد الجزولي)
|
دلفنا الى القسم عائدين ، والكل هنا في ترقب للأحداث والأحوال في الخارج ويمنون انفسهم بسمع اخبار عن ذويهم وحال البلد والشعب تطفي عطش سجنهم ولياليهم الجامدة وباردة ، ويتسألون ويستمعون ، ونشط بعضهم يحللون وشرع بعض في تحضير الطعام واخر للعب الكتشينة واخرين يتسامرون وانشغل بعض في التحضير لبروفات عمل ثقافي مسائي ، وبعض ذهب للاستمتاع بتدخين السجائر الذي كان من اصعب ما يواجه المدخنين داخل السجن لقلته ، .. ومنهم من اقلع بسبب هذا ومنهم من لجأ "للتمباك" كبديل .. وانشغلت انا في ترتيب مكان لشتلتي الخضراء ، واخير صنعت لها مكاناً على نافذة الشباك القضيبي المغطى بالخيش جوار سريري ، فحلت بيننا ضيف عزيز وغالي ، ووجدت الاهتمام من الكل .
وتدور عجلات الزمن .. وظلت ونيستي وشغلتني بالعناية بها كما انني ارعى صغاري المُهدينها لي ، اسقيها ، انظفها ، وكانت مصدر وطاقة دينمو محرك لإلهامي ، وارى فيها وجوه صغاري واشتم فيها رائحة بيتي والحِلة ، كنت اناجيها ونتسامر سوياً وتعلقت بها جداً جداً ، وكنت لا أطيق ان اكون بعيد عنها لذا تجدني طيلة الوقت لا اود ان أبرح العنبر ، ظلت تلك العلاقة بيني وبين شتلتي الخضراء تنمو وتزدهر وظلت هي تنمو وتزدهر واوراق فروعها اكتست بالاخضر اللامع ، تارة تتصور في نظري بنوتة حليوة بتكبر وتحلو ، وتارة اراها ولد حلو ومقدم ،
الا ان جاء يوم رأيتها تزبل وتصفر جوانب اوراقها ، فتوارت لي كاحد اطفالي او كلهم/ن يتلوا/ن الماً ويتمكن منهم/ن المرض العضال وهم/ن لا يقون على شئ وينظروا/ن لي يطلبون/ن المساعدة ، هرولت في الحال مسرعاً الى الرفيق والخبير الزراعي رفسنجاني لأجد عنده الخلاص والحل ، فجاء معي من عنبره الملاصق لعنبرنا ، وتفحصها ، وقال لي ان هذه النوع من الشتول لا ينتظر طويلاً في ( الاصيص ) وعليه نقل الشتلة الى الارض فوراً ! والا ستُذبل وتموت لان (الاصيص) ضيق على جزورها التي بددت تمتد وتطول ، كسرت هذه الكلمات حُلمي بانني سأراعيها واكبرها وارجع بها لأطفالي نشتلها من جديد على ارض البيت ! ، كيف هذا ولم يخطر ببالي ابداً انها ستغرس على ارض سجن ! وتظل الى الابد حبيسة داخله ! ، وربما اخرج انا وتبقي هي لا حول ولا قوة لها ويا عالم ماذا سيحدث لها داخل هذا السجن اللعين ، فنحن البني ادمين نبغضه فما بالك بالزرع ! . لكن انت تريد وانا اريد والله يفعل ما يريد .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قصاصة من دفتر ذكريات السجن المُهمل ومركو� (Re: محمد الجزولي)
|
في دقائق معدودة كان خبر غرس شتلة اطفالي كالنار في هشيم القسم والكل يتحدث عن الشتلة ما بين ، مداعباً ، ومحللاً ، ومتأسفاً لكونها حا تختفي من العنبر والشباك ، وبين مؤيد لغرسها قبل ان تموت ، وهناك من لا يهتم بالامر شئيا ويعتقد هذه برجوازية "ساي" ! ، لكن هناك من كان متضامناً بشكل عظيم ، وعمل بسرعة ماكوكية انتج عن موكب مشهود تحرك في تمام الثالثة عصراً من خلف عنبر "المجانين" من جهة الشمال مروراً بعنبر "الفنانين" غرباً ويحازيه ليشق ميدان الطائرة الفاصل بين المطبخ وعنبر "اللوردات" وعنبر المجانين والفنانين ، وكان في مقدمته شتلة اطفالي اراها تنظر الي في سعادة وعتاب ، فسعادتها بأدي المناضلين التي تحملها ، تلك الايادي الشريف الصلبة والتي لم يُدس فيها مال حرام بل هي من دست مال حلال لكثير من المحتاجين والارامل والايتام ، وعتابها اننا لا ندري حين شُتلت بأي ارض ستغرس !! ..
مشهد الختام .. بعد ان نُزلت في الارض بعناية ، وسُويَّت جنباتها برفق كان منظرها في غاية البهاء برغم اطراف اوراقها الصفراء ، وذبول محياها ، وكنت احس بأن جذورها الان تمدد ساقيها الى الامام وتصدر ذلك الصوت الذي نصدره عندما نستلقى على سرير بعد يوم جهيد . فالجذور في راحتها لا تفرق بين ارض السجن والبستان .
ووقفنا حولها بهيبة حضور وصدق صوت جهور نردد انشودة الرائع ميرغني شقلبان .. شعب مسافر شعب مسافر زي موجات النيل الدافر رسم الصورة ونحت اللوحة سقى ميلاد البذرة السمحة قامت نخلة وشجرة طلحة ومن بيناتم طلعت قمحة شعب مسافر شعب مسافر زي موجات النيل الدافر
ودار الزمن .. وظللت ازورها واقف على الاهتمام بها وسقياها والنظر لها ومناجاتها وكلمات الاسف تندفع من قلبي لها برغم انها ايعنت وفرهدت اوراقها واخضرت ، الا ان غرسها داخل سجن كان يشعرني بالاسى والمظلمة ، وتم اطلاق سراحي بعد شهور من غرس شتلة اطفالي داخل سجن كوبر ، فكانت اخر ما وقعت عليه عيناي وانا مغادر القسم .
ويسدل الستار . محمد الجزولي بيت السوق ( امدرمان ) ——————-
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قصاصة من دفتر ذكريات السجن المُهمل ومركو� (Re: ahmad almalik)
|
Quote: قصة جميلة ذات ابعاد انسانية عميقة، اضافة لتوثيقها لفترة مظلمة من تاريخ بلادنا، وليتك تحاول اصدارها في كتاب مع مزيد من التوثيق والشهادات عن تلك الفترة. لك التحية |
اخي ahmad almalik
لك التحية على حضورك الجميل ومعك ندعوا الله عز وجل ان نراه كما تريده يا عزيزي .. هذه الفترة برغم ظلامها ومظالمها ، ووثقوا الرفاق جزء منها اعتبره ضئيل جداً لما تحمله ، لكن بنفس المستوى ، كان هناك جوانب " سمحة " وانسانية وطريفة حد الضحك المدمع وهذا هو الجانب الذي اتمنى ان يخرجه الرفاق من حُكى ، هناك رفاق وثقوا لهذه الجماليات لكنها ليست بالقدر الكافي ، في وجهة نظري تسلم كتير وشكراً ليك المرور والتشجيع والدعم
تقديري واحترامي
| |
|
|
|
|
|
|
|