|
Re: قراءة نقدية في افلام السينما الرومانية (Re: mohmmed said ahmed)
|
الرئيسية > مسرح وسينما > واقعية اللّمسات الخافتة
واقعية اللّمسات الخافتة فـي فيلم "4 أشهر و3 أسابيع ويومان" محمد سيد أحمد مصطفى DEC 22 2020
لفتت السّينما الرومانية الجديدة الأنظار بعد فوز فيلم قصير في مهرجان كان السينمائي 2004، ثم توالت أفلامٌ شكلتْ موجةً جديدةً لسينما ما بعد سقوط نظام تشاوشيسكو الديكتاتوري، مثل أفلام: "شرق بوخارست East of Bucharest"، و"موت السيد لازاريسكو The Death of Mister Lazarescu"، و"4 أشهر و3 أسابيع ويومان"، وفيلم "التخرج Graduation"، وفيلم "الورقة الزرقاء The Paper Will Be Blue"، وبرزت أسماء رادو مونتين مخرج فيلم الورقة الزرقاء، و(كريستيان مونجيو Cristian Mungiu) مخرج التخرج و4 أشهر و3 أسابيع ويومان، و(كريستي بويو Cristi Puiu) مخرج فيلم موت السيد لازاريسكو. والقاسم المشترك لهذه الأفلام هو أن أحداثها تدور في 24 ساعة، وتعتمد واقعية اجتماعية تصور الأحداث في بيئتها الطبيعية وسط حوارات تشابه الأحداث اليومية، كما في مسرحيات تشيكوف، وتقترب من القضايا السياسية برفق وبطريقة غير مباشرة بالرغم من مواقف المخرجين السياسية المناهضة للنظام الشيوعي، وببصمة خاصة لأسلوب العمل الفني نجد حركة الكاميرا بطيئة مرتكزة على اللقطات المتوسطة، وهي محمولة وسط كادرات طبيعية وديكورات واقعية نادراً ما تلجأ لبناء مواقع تصوير اصطناعية ضخمة.
فيلـم "4 أشهر و3 أسابيع ويومان" للمخرج كريستيان مونجيو، وبطولة آناماريا مارينكا ولورا فاسيلو حاز على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان 2007 Cannes، وعلى جائزة الفيلم الأوروبي وعلى جائزة النقّاد الأمريكيين كأفضل فيلم أجنبي، وصنفه بعض النقاد من ضمن أفضل 10 أفلام في عام 2007.
تدور أحداث الفيلم في عام 1987، أي قبل عامين فقط من سقوط النظام الشيوعي.
حكاية بسيطة يتناولها الفيلم عن فتاة جامعية تبحث عن الإجهاض الممنوع قانونياً.. تقف معها صديقتها في غرفة السكن الجامعي.. تبدأ مشاهد الفيلم بـ غابيتا وهي تقوم بتحضير حقيبتها، تساعدها صديقتها أوتيليا، وفي انتقالات قصيرة يرسل المخرج إشارته عن حياة المجمع السكني الطلابي، ازدحام غرفة السكن تُحوّل بعض الغرف إلى متاجر لبضائع مستوردة من البيرة والسجائر ومستحضرات التجميل من المنتجات الغربية، ومن ثم تبدأ رحلة أوتيليا المبادرة والقائدة لعملية التخلص من الجنين، بالذهاب إلى الفندق لتتفاجأ بعدم وجود حجز، وتضطر للذهاب إلى فندق آخر وتقدم رشوة علبة من سجائر أجنبية للحصول على غرفة بمبلغ أكبر.. تلتقي صديقها آدي وتأخذ منه مبلغاً لإجراء العملية لصديقتها، ثم تعرج على من سيقوم بعملية الإجهاض. ومنذ البداية تجده شخصية عدوانية تعامل معها بجفاء ووبخها على تغير الفندق، وعلى حضورها بديلاً عن صديقتها.. ينتقل معها إلى غرفة الفندق، وفي حضور غابيتا تبدأ حوارات طويلة بعد أن اكتشف أن حمل الفتاة في الشهر الرابع، ويبدأ المساومة برفع سعر المبلغ.. بإيقاع بطيء وبعقلية السمسار يمارس حوار التوبيخ والسخرية والإهانة للفتاتين، ثم يطلق صرخات عالية مهدداً.. يستغل نقص أموالهما. وفي لحظة فارقة وحاسمة تقرر أوتيليا أن تمنحه جسدها في مشهدٍ صُوّر بحساسية عالية، وبعد المساومة تبدأ في خلع حذائها، ثم تلجأ غابيتا إلى الحمام لتحبس نفسها حتى انتهاء الممارسة.. ثم لحظات صمت قاسية تقضيها أوتيليا معبرة عن اشمئزازها لما حدث.
يقوم بإجراء العملية ثم يخرج.. وتخرج أوتيليا لحضور عيد ميلاد والدة حبيبها آدي، ونشهد جلسة مجموعة من أصدقاء والد آدي وزوجاتهم يتفاخرون بوضعهم الاجتماعي ووظائفهم كأطباء، حوار يمتد لأكثر من خمس دقائق يتحدثون عن غلاء في أسعار اللحم، ومعاناة الأبناء في التجنيد الإجباري، ويسخرون من الفتاة عندما تحدثت عن والداها الجندي، أما والداتها ربة المنزل فلم تشارك ولم يشارك صديقها في الحوار واكتفيا بالصمت الاحتجاجي.
تعود إلى الفندق لتجد صديقتها قد تخلصت من الجنين، تأخذه منها وتخرج لترميه في مكب نفايات عمارة.. وعند سؤال الصديقة أين ألقيتي الجنين تقول لها من الأفضل أن لا نتحدث عن هذا.
موضوع الفيلم وإن كان عن عملية الإجهاض إلا أن بؤرة الأحداث انتقلت إلى تماس خفيف مع نقد الأوضاع السياسية، ولم يعبر المخرج عن آراء سياسية مباشرة عن النظام الشيوعي، فلم يذكره ولم يذكر اسم الديكتاتور تشاوشيسكو ولم يذكر اسم جهاز السيكورتاتي الرهيب، ولكنه همس بمشكلات المجتمع في التجارة غير المشروعة للبضائع الغربية في سطوة الشرطة عند تواجدهم في مدخل الفندق، في أحاديث أصدقاء والد آدي عن الغلاء وقسوة فترة التجنيد الإجباري.
أوتيليا كانت بطلة الفيلم بشخصيتها القوية المبادرة، فقد حملت على كاهلها عبء نجدة صديقتها وضحّت بجسدها ودفعت المال الذي استدانته.. في سلوكها استقامة أخلاقية صارمة.. غضبت من صديقتها لكذبها، وقالت إن كنت ستكذبين احذريني، واجهت صديقها عندما فزع من فكرة وقوفها مع صديقتها في محنة الإجهاض، وذكرته بأنها يمكن أن تتعرض لما تعرضت له صديقتها لأنها تقيم معه علاقة جنسية، ويمكن أن يتخلى عنها إذا ما حملت بمولود، كما احتجت على حديث أصدقاء والده وسخريتهم من وضعها الاجتماعي.
في المقابل تبدو شخصة الرجل الذي قام بعملية الإجهاض نموذجاً للشخص الانتهازي الأناني.. وشخصة غابيتا فتاة مسكينة غير قادرة على التصرف لذا تلجأ للكذب للخروج من محنتها.
الأسلوب الفني للمخرج اعتمد البساطة فالديكور هو المكان الطبيعي، وأغلب مشاهد الفيلم جاءت في غرف مغلقة داخل السكن، أو داخل غرفة الفندق حيثُ أجريت العملية، وفي منزل آدي لم تخرج الكاميرا كثيراً على الشارع، ولم تستعرض معالم المدينة التي شهدت الأحداث بحركة كاميرا ثابتة وصلت إلى سبع دقائق كاملة في مشهد حوار الرجل الطبي مع الفتاتين، بدأت بعض المشاهد أقرب إلى الكادر المسرحي الثابت، الكاميرا ثابتة والشخصيات تتحرك، وفي مشهد العشاء ظلت الكاميرا ثابتة على صمت أوتيليا وصديقها والحوارات مستمرة من أصدقاء والد آدي.. وفي مشهد المساومة بين الرجل الطبي ظهرت صورته وصورة أوتيليا مع غياب صورة غابيتا مع أن مضمون الحوار كان ينصب على محنة إجهاضها.
الأحداث التي دارت في 24 ساعة فرضت البقاء بأزياء واحدة لكل الشخصيات طوال الفيلم، أوتيليا بقيت بالقميص الأخضر وبنطلون الجينز.. اختفت الزخارف من مشاهد الفيلم فلا مكياج على أوجه الممثلات ولا أزياء ولا ديكورات اصطناعية، بل إن المؤثرات الصوتية اعتمدت على الأصوات الطبيعية، مثل: مشهد أوتيليا في الليل وهي تحاول التخلص من لفافة الجنين وحولها أصوات سيارات وكلاب تنبح، الإضاءة ظهرت بدورها الاستخدامي فقط ولم تظهر كمحسنات جمالية.. الأداء جاء هادئاً وطبيعياً وبعيداً عن الانفعال، وتفوقت الممثلة آناماريا مارينكا في دور أوتيليا بجمالها الهادي وانفعالها المتزن، ولحظات صمتها العميق المعبر في مشهد ما بعد خروج الرجل الطبي، وفي مشهد الحوار مع صديقتها بعد التخلص من الجنين.
يبدو السؤال وجيهاً إذا ما قلنا كيف لفيلم ابتعد عن الزخارف وابتعد عن استخدام تكنولوجيا إضافية، واعتمد الأداء الطبيعي الواقعي، وارتكز على حوارات بكلمات في غاية البساطة والتلقائية، أن يقدم متعة فنية وجمالية باذخة تشد المشاهد طوال ساعات العرض؟!
إنها شاعرية وسحر الفن ورؤية الفنان وموهبته في صياغة جمالية فكرية عميقة بمساعدة أداء مدهش لممثلين بارعين. هذا الفيلم يمكن وصفه بفيلم اللمسات الخافتة في الطرح السياسي، وتناول القضايا الاجتماعية برفق وفي شاعرية وواقعية البساطة، وفي جماليات المؤثرات الطبيعية الصوتية والضوئية وعبقرية الأداء المبسط المقارب لإيقاع وحركة الحياة اليومية للشخصيات، وفي اقتصاد وتقشف حركة الكاميرا وكف يد المونتاج عن التقطيع وحركة الانتقالات العشوائية.
| |
|
|
|
|
|
|
|