|
Re: عن الفارس المزيف الذي سرق عذرية الفتاة! (Re: ابو جهينة)
|
عن لقاء الغريمين الأول!
أذكر أول يوم رأيت فيه جمال جعفر بُعيد وصولي إلى وينبيك. لم يتعرّف هو عليّ. وإن خاطبني بعد أن قدّمني إليه عمر الخزين، قائلاً: "اسمك أليف". سرعان ما حوّل تركيز بصره ذاك عني. وانزلق يكمل حكايته. كنت أنا الرفيق حامد عثمان ملك العادة السريّة السابق أعيش على أيام تواجده في القاهرة في قاع لا يصل إليه ذلك الخيال المترف لأمثاله. هل أكل جمال جعفر خلسة من بقايا طعام يضعها جار مثل الحاج إبراهيم العربي في كيس أمام باب الشقة في إنتظار الزبّال؟
هكذا، ما إن وقعت عليه عيناي، بدا على الفور كما لو أن الأيام الرحيمة تقتصّ منه على ما قد فعل بحلم حياتي ذاك المسمّى:
"مها الخاتم، أو حبي"!!
لم يتبقَ هناك على رأس الوغد من شعر سوى القليل. غدا أكثر نحافة. ثمة رعشة خفيفة وفدت إلى أصابع يديه اللتين كان يحرّك بهما الكلمات في الهواء بينما يعتلي منابر تلك الندوات السياسيّة الجامعة. الشيء الوحيد الذي تبقى منه من أيام القاهرة كان "براعة الحديث، في كل شيء، عدا السياسة". لقد بدا في منفاه الكنديّ هذا أقرب إلى شخصية نديم في مجالس "بني أميّة".
أجل، قدّمني إليه عمر.
وتوارى تالياً في صمته.
يتحدث عمر بالكاد في مجلس يضمّ معه أكثر من فرد. مع أنّه أستاذ سابق. لماذا عليَّ أن أهتم بأدق ما يحدث؟ كأن تخاطب جمهوراً وتنطوي على نفسك في مجلس خاصّ. الحياة تحدث الأغلب دون الحاجة إلى ما يبررها. قال: "هذا أنت إذن"؟ قلت: "نعم". قال: "لم نكن نلتقي في القاهرة". قلت: "كنت أراك معتلياً المنابر بينما أتابعك من على المقاعد الخلفية".
...
كان جمال يجلس لحظة تعارفنا بُعيد منتصف ذلك النهار إلى مائدة من موائد المجمع التجاريّ الذي يدعى "بورتيج بليس"، صحبة آخرين. بدا أمامه كوب من القهوة الإنجليزية شأن موضة المنفيين تلك في وينبيك. بدا كما لو أن حضورنا أنا وعمر قطع عليه حبل الحديث. كنت أفكر في صورته القديمة، حين رأيته يومها خارجاً رفقة مها الخاتم سعيد من مطعم لبناني ناحية الميرلاند بضاحية مصر الجديدة في القاهرة؛ عندما سأله أحد المتحلّقين من حوله، قائلاً: "بعدين ماذا حدث يا جمال"؟ قال مستعيداً براعته القديمة كمتحدث: "طبعا كان الرجل متناقضاً هنا تماماً". أخذ يتبين لي شيئاً من بعد شيء أن جمال جعفر يتحدث عن رجل ما باكستاني يجيد اللغة العربية نوعاً ما. قال جمال مواصلاً "كلما رآني أتناول شيئا من دجاج سويس شاليه، يستنكر عليَّ ذلك، قائلاً: هذا هرام، ولا يجوز شرعاً، يا أخ الإسلام جمال".
"لا عزاء للضحايا"، فكرتُ خطفاً، بينما أتابع حديث جمال جعفر ذاك، والأريحية تشع من كيانه كله، كما لو أنّه لم يطبع حياة مها الخاتم على الجانب الآخر من المحيط بالأسى حتى الممات. كان الباكستاني يعمل (يا رفاق) في توصيل الطلبات من مطعم سويس شاليه بسيارته الخاصَّة إلى المنازل. بدا أن حجج جمال جعفر الفقهيّة لم تقنع الباكستاني وقتها في شيء. قال جمال موضحاً بالبراعة المعتادة نفسها في شد انتباه الناس "قلت لهذا الباكستاني، يا هذا، لحم الدجاج وغيره، يا هداك الله، يصير حلالاً، حتى لو ذُبح على غير الشريعة، بمجرد أن تمد يدك إليه قائلاً بسم الله الرحمن الرحيم. لم يتزحزح الباكستاني عن موقفه المتشدد شبراً واحداً. إلى أن صادف أول رمضان لي مع الباكستاني ورأيت إبن الزانية يشعل سيجارة داخل سيارته بينما يغادر المطعم حاملاً بعض الطلبات، في منتصف النهار". قال جمال جعفر في نهاية ذلك المجلس، مخاطباً عمر الخزين: "أيها الكينيّ، دع لي هذا المصريّ الآن". كان يقصدني. بدأنا المشي تالياً أنا وغريمي هذا. قال متسائلاً خارج بورتيج بليس "كيف حال القاهرة، الآن، يا حامد". كنت متأكداً أن سكة السؤال الأكثر عمومية عن القاهرة لا بد أن تنتهي في نهاية المطاف إلى زقاق معتم صغير يدعى "مها الخاتم". أليس جميعنا يهفو إلى متابعة ما غرس من بذور في تربة الماضي؟ قلت بخبث مباغت أدهشني بدءا "هل تسأل هنا عن القاهرة، أم عن مها الخاتم"؟ أقسم بالله العظيم ثلاثاً توقف قلبه أثناء السير. قال بعد مرور دقائق بدت كدهر:
"دعنا نجلس هناك قليلا، يا حامد".
كان يشير إلى كنبة خالية داخل محطة زجاجية صغيرة لسيارات النقل العام قبالة بورتيج بليس. هناك، قال بما بدا الحيرة "ماذا قلت للتو، يا حامد"؟ قلت "أسمع الناس يرددون عنك ذلك، في القاهرة". قال "هل أخبرت أحداً ما من الرفاق السودانيين هنا"؟ كان يحاول لا بدّ امتصاص أثر الصدمة. لا أحد هناك أسرع من جمال في إفشاء سرّ جمال. مع ذلك، وجدتني أقول: "هذه مسألة تعتمد يا جمال على طبيعة علاقتنا أنا وأنت مستقبلاً هنا". أخيراً، رفع الوغد رأسه. أخذ يتمعن في وجهي هذه المرة برويّة. كما لو أنه يعيد تقييميّ. لم يطرف لي جفن. قال بما بدا الحيرة التامّة: "لماذا تواصل الكلام معي، يا رفيق حامد عثمان، بمثل هذا العداء، ولم نجلس معا أنا وأنت على نحو خاصّ سوى الآن"؟ لا يزال الوغد يلقي بنظرته الصامتة المتمعنة تلك على وجهي. هززت كتفي، قائلاً بلا معنى "لا أدري، لكنك تدري". كنّا لا نزال نطالع بعضنا البعض بوقاحةِ بدويين اختلفا على ثمن ديّة، حين ابتسم، قائلاً بمخزون خبرته العتيق كوغد لا كسياسي سابق:
"وراءك سر ما! هل ضاجعتَ مها بدورك"؟
كان المنفى أكسبني مناعة ضد المفاجآت. ببرود: "هل مها قحبة كما ظلّ يُردد هناك، في القاهرة، نقلا عنك، يا جمال"؟ أطرق الوغد. كان لا يزال غارقاً في الصمت المطبق نفسه، لما قلت رافعاً وتيرة التحديّ: "ماذا حدث بالضبط بينكما، في القاهرة"؟ نهض. غادرني. لم يُلقِ عليَّ حتى مجرد نظرة أخرى خاطفة. لا أدري لِمَ سألته ذلك السؤال وأنا أعلم بدقة من مها نفسها بما حدث بينه وبينها. مها الخاتم سعيد. حلم حياتي المؤود على سرير جمال الملوكي.. السرير المجرّد عن أي مجد، أو شرف الإبقاء على وعد. إلا أنني أخذت أشعر بعد أن ألقيت عليه السؤال كما لو أن جبلاً من سلسلة جبال حقدي عليه قد بدأ ينزح مبتعداً عن صدري. لم نعد تالياً نتحدث كغريمين لدودين عنها مطلقاً. مع ذلك، كانت مها الخاتم دائماً ماثلة بيننا هناك، حتى في قلب الصمت، كما رائحة ذكرى مشينة. إلى أن عاد جمال جعفر بنفسه مجدداً وطرح في أثناء ذلك الاحتفال بعيد ميلادي الخامس والثلاثين من دون مناسبة ذلك السؤال "هل تعرف مها الخاتم"؟
ألقى سؤاله هكذا، علناً.
لم يزد عليه، أو يضف.
لعله قد وقع ببصره وقتها على هيئتي المتأهبة تلك فامتنع عن بثّ المزيد من الهراء عنها. لا لم يمتنع تماماً. وقد أضاف الوغد شيئا آخر عنها. لقد أضاف وصفاً شاعريّاً متسماً بالدقة لجمالها الخارجيّ القديم، الذي طالعني لحظة أن قابلتها لأول مرة، في مكتب الأمم المتحدة، فضلاً عن عبارة بدت هزيلة أخذت تبث وسط أولئك السكارى موجات أخرى من الضحك: "مها الخاتم مناضلة عظيمة حقا"! رفع كأسه تلك تحيةً لها في الهواء. ثم تبعه آخرون وهم يرددون وراءه: "مها الخاتم مناضلة عظيمة حقا"! كما لو أن الحياة وهم على مسرح. كما لو أن الوهم حياة على مسرح. وهل توجد هناك أصلاً فتاة تدعى "مها الخاتم"؟ ظللتُ طوال ما تبقى من الليلة أقاوم رغبة ملحة لا تقاوم في اقتحام غرفته مجدداً ثم العودة بصورتهما تلك معاً هو ومها الخاتم أمام قلعة صلاح الدين في القاهرة من داخل دولاب ملابسه. كان السُّكر يدفعني مع مرور الوقت في اتجاه. وكان الأمل في لقاء الغد مع عمر وزائرتيه الثملتين يدفعني في اتجاه. ولا أدري كيف وجدتني بعدها واقفاً مع جمال على البلكونة بينما تتناهى إلينا ضجة المحتفلين بعيد ميلادي من داخل الصالة. ما أذكره أن جمال ارتعب، وجحظت عيناه، وبدا كتمثال مُجْسِّدٍ للخوف والهلع؛ حين قلت له بجدية "يمكن أن أقذف بك الآن إلى فروع هذه الشجرة القريبة وأنت وحظّك". هاتفني قبيل حضور عمر وجيسكا وأماندا إلى شقتي في مساء اليوم التالي، متسائلاً ما بين شك ويقين، قائلاً: "بالمناسبة، يا رفيق حامد عثمان، ماذا حدث أمبارح في البلكونة بيننا". أجبته ضاحكاً:
"إنها تخاريف الويسكي يا رفيق"!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن الفارس المزيف الذي سرق عذرية الفتاة! (Re: عبد الحميد البرنس)
|
الله أبا جهينة! راقتني هذه الإضافة كثيراً إلى ما يمكن تسميته "أدبيات العرقي". وهي إضافة لا تقل روعة عن إضافتك المحذوفة تلك المتعلقة بست العرقي في مواجهة السلطة. هذا الشراب كان هناك دوماً ضمن نسيج مكونات منفى القاهرة. كان منتشراً في التسعينيات مع تزايد أعداد الهاربين من جحيم الحكم في الخرطوم ما ظل يعرف باسم بيوت العرقي. كتبت عن هذا في سياق غرفة التقدمي الأخير من خلال شخصيتي أم خميس وأشوك على وجه الخصوص.
| |
|
|
|
|
|
|
|