في ليلٍ باردٍ، تسرّب ضوء القمر من بين ستائر الشرفة الضيقة، يلامس وجهه الشاحب كأنّه يُذكّره بأنّ شيئًا ما ما زال ناقصًا. جلس على الكرسي الخشبي، يضمّ دفتراً صغيرًا لا يعرف لماذا اشتراه، ولا ما الذي يدفعه لفتحه كلّ مساء كأنّه ينتظر أن ينبض بين صفحاته قلب. صوتُ طرقٍ خافتٍ على الباب. نهض، بخطواتٍ مترددة، وفتح. لا أحد. لكنّ على الأرض كتابٌ قديم، بلا عنوان، أوراقه صفراء تفوح منها رائحة زمنٍ لم يَعِشه. التقطه، فتح الصفحة الأولى… فإذا بجملةٍ مكتوبةٍ بحبرٍ باهتٍ:
"ليست كلّ الغيابات رحيلًا… أحيانًا، هي تمهيدٌ للظهور في صورةٍ أخرى."
تصفّح الكتاب، فوجد رسائل بخطّ أنثويٍّ دافئ، بلا توقيع، كأنّها كُتبت له وحده:
"كنتُ أبحث عنك… قبل أن تولد." "حين أحببتُ، لم أطلب مقابلاً… لكنّني أُرهقت." "كلّ من أحبّني، جاء متأخرًا."
أغلق الكتاب ببطءٍ، والارتجاف في يده يُشبه ارتجاف قلبٍ يُدرك فجأة أنّه ليس وحيدًا كما ظنّ. رفع رأسه نحو المرآة المقابلة له، فرأى ظلّ امرأةٍ يقف خلفه. ابتسمت… ثم اختفت كأنّها لم تكن. في الصباح التالي، لم يذهب إلى عمله. كتب استقالته على ورقةٍ صغيرة، وتركها فوق مكتبه القديم. لكنّ الورقة لم تكن استقالةً فحسب، بل اعترافًا أخيرًا:
"ربّما لم تكن هنا. وربّما لم تغادري أصلًا. وربّما… كنتِ أنتِ، دائمًا، أحلام."
غادر المكتب دون أن يلتفت. وفي الخارج، تساقطت أولى قطرات المطر، تشبه أصوات الوداع حين لا يقولها أحد. رفع وجهه نحو السماء، وأغمض عينيه، فأحسّ أنّها تمرّ بجانبه، تهمس بصوتٍ يعرفه: "أنا لم أغب… كنتُ أنتَ، حين حلمت." ابتسم أخيرًا. ثم مشى في المطر، يترك خلفه كلّ ما يشبه النهاية… ويذهب نحو حُلمٍ لم يمت.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة