ربما الإذاعة الوحيدة التي بها نشرة للوفيات في العالم هي إذاعة أمدرمان. لا اعرف من أين ابتدعت إذاعة امدرمان هذه النشرة، حتى باتت أهم نشرة. فكان الجميع بنصتون لها عند نهاية الأخبار. وحينما يضيف المذيع حرف الواو:(واااا توفيت بمدينة الصقيلاب ريفي عركوش) يعرف المستمعون أن هذا هو المتوفي الأخير. شيء عجيب.. كيف فكرت إذاعة أم درمان في أن تخصص في نهاية الأخبار نشرة للوفيات؟ ولماذا وجدت كل ذلك الاهتمام من الشعب؟ في الواقع كانت الاتصالات ضعيفة جداً في السودان، وكان الناس في المدن يعرفون موتاهم في الأقاليم عبر وسائل بطيئة، من أهمها نشرة الاخبار، فالصقيلاب (منطقة من خيالي فقط) قد تكون قرية مُلقاة على أطراف الأرض الجرداء الشاسعة، لا خضرة ولا ماء ولا وجه حسن، ولا اتصالات ولا حتى طريق معبد. كنت حين أسافر بالباص إلى الأقاليم أشاهد تلك القرى المنبوذة في قلب الصحراء وهي بالكاد تتنفس، وأسأل نفسي كيف يعيش هؤلاء، ولماذا هنا؟ اليوم أصبح الناس اكثر تقارباً، تتحدث مع قريبك في أمريكا بالصوت والصورة. لقد قال فرح ود تكتوك بأنه في آخر الزمان سيتكلم الناس بالخيوط، لكن الزمان تجاوز نبوءة فرح ود تكتوك وأصبحوا يتحدثون من غير أسلاك، كما لو كانوا يتخاطرون بأذهانهم. لهذا لم تعد لنشرة الميتين ذات أهميتها قبل عشرين عاماً. ليس هذا فقط، بل لأن خبر الموت نفسه لم يعد شيئاً استثنائياً وصادماً. لذلك لم تنته أهمية نشرة الميتين وحدها، بل حتى الصحف برمتها باتت تعاني، مع تدفق الأخبار في التو واللحظة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الانترنت. اقتربت الصقيلاب منا أكثر وأكثر، وفقد الموت تأثيره الحزين، وانشغل الناس فرادى بأنفسهم أكثر من ذي قبل. فوسائل التواصل أدت إلى التفاصل، وحددت علاقاتنا المقبولة لنا نفسيا ومزاجياً أكثر. أنت تعرف من هو الأقرب إليك من خلال ملاحظة عدد التفاعلات بينك وبينه. عمليات الحظر في العالم الافتراضي، حددت علاقاتنا في العالم الواقعي، وزجاج الشاشة الذي يحمينا كشف خصال البشر الحقيقيين بدل أن يمنحهم قناعاً، بل نزع عنهم الأقنعة، فعرفنا ما بداخل نفوسهم. اللغة نفسها أضحت محل تحليل نفسي: ماذا يقصد؟ هل هذا تنمر أم ظرف، نصيحة أم حقد وحسد؟ أفرغت وسائل التواصل ما بأحشاء الناس من خَبَث كان من قبل مندساً في العمق. فأدت إلى التفاصل والمفارقة والحظر وعدم الرد، وعدم إظهار حالة الإتصال..الخ. هكذا لم تعد نشرة الميتين مهمة، اللهم إلا في القرى شديدة النأي عن أقرب برج اتصالات. وهذه القرى ليست قليلة، فحتى في شمال كردفان ستجد قرى بلا اتصالات. لقد قدمنا طلبا لبعض شركات الاتصالات مثل زين لعمل أبراج في تلك القرى، لكن شركة زين تحججت بأن اعداد السكان فيها قليلة: باختصار غير مربحة للشركة إذا قورن ذلك بالتكاليف والأعباء. ومع تخلي الدولة عن دورها في الانشطة الاقتصادية، ظلت هناك قرى تحتاج لسماع نشرة الميتين عبر المذياع.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق November, 25 2022