أولاً، لابد من الفصل بين مدلول وتعريف القوى السياسية وفرزه من مصطلح قوى الثورة، فالقوى السياسية هي الأحزاب والتنظيمات السياسية والحركات المسلحة، أما قوى الثورة فهي حراك شعبي تلقائي عريض يحتوي على كل الفئات السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية، فالسياسيون موجودون وقديمون قدم الدولة، أما الثوار فيولدون تحت ظروف القهر والظلم والبطش الذي يتلقونه من زبانية الحكومات الدكتاتورية، أو من قبل عملاء الاستعمار الامبريالي الذي غزا معظم بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فالثائر ليس بالضرورة أن يكون سياسياً، فكم من طبيب أو محامٍ او ضابط بالجيش – الملازم أول محمد صديق والنقيب حامد – ألهمه شعبه فانتفض متمرداً على سلطان دولته الظالمة، وفي مثل حالتنا السودانية من بعد إسقاط البشير واستلام البرهان، نجد أن الدولة العميقة قد وأدت بذرة الثورة بالتعاون مع بعض السياسيين، فانتهت التجربة الأولى لحكومة الثوار الانتقالية إلى إنقلاب عسكري، نفّذه الشخص الخطأ الذي أتى به السياسيون، الشخص الذي أضاف عبئاً ثقيلاً على كاهل الثوار، فاضطرهم لأن يعيدوا الكرّة مرة أخرى، لينهوا وبالطريقة السيريلانكية سطوة الثورة المضادة المسنودة بضباط عسكريين وأمنيين مدجّنين إسلاموياً، فعندما قال ماوتسي تونج أن من يقوم بنصف ثورة كمن يسعى لحتفه بظلفه كان محقاً، ومقولته تلك عبّرت بصدق لا مثيل له عن حال ثورتنا غير المكتملة التي أجهز عليها البرهان. إنّ مستشاري البرهان انفسهم كانوا سدنة للنظام (البائد) وحارقي بخور للدكتاتور (البائد)، لم يتغيّروا بيد أنهم لم يعودوا يعملون مثل ذي قبل تحت أشعة شمس الظهيرة، فهم اليوم يسدون النصح من وراء حجاب، لم يغيّرهم الزمان ولم تبدلهم المحن والإحن، وما أدل على هذا غير قرارات البرهان الأخيرة القاضية بتعيين عسكريين في السلك الدبلوماسي، السلك الذي حُوّرت وحُوّلت مهامه إلى مهام جهاز مخابرات دوره أن يقوم بملاحقة الوطنيين الشرفاء من أبناء البلد في المهجر ومطاردتهم والتضييق عليهم، إنّهم نفس الجوقة التي خدمت أجندة الدكتاتور التي انتقلت لكابينة القيادة الجديدة تمسح البلاط وتزيّن الباطل للدكتاتور الجديد، واستفادت من الطرائق والأساليب التي كان يتبعها الدكتاتور في ترغيب وترهيب القوى السياسية، فطبّقتها بحذافيرها على نفس القوى السياسية الضعيفة الهشّة المهرولة المتهالكة، والمستعجلة للتناغم مع أي خطاب دكتاتوري يدغدغ المشاعر المتلهّفة لامتطاء الكرسي، فاستدرج البرهان ورهطه هذه القوى الحزبية وأوقعوها في فخ اجتماع بيت السفير ليحدثوا قطيعة بينها وبين قوى الثورة، وقد (حدث ما حدث)، وجرفت الأمواج العاتية لتسونامي اليوم الختامي لشهر يونيو الماضي كل الأوساخ، وقذفت بها داخل مكب نفايات التاريخ، وندم كل من بشّر بمخرجات لقاء بيت السفير وبغض وكره اليوم الذي جعله يخطو خطواته المتجاوزة لعتبة باب ذلك المنزل ولوجاً. البرهان يتذاكى على القوى السياسية مستغلاً طبعها الفاسد، لكنه لا ولن يقدر على ترويض قوى الثورة الذكيّة المستخدمة لبديهيات الذكاء الفطري واالطبيعي وآليات تكنلوجيا الذكاء الصناعي، هذه هي الفواصل الحقيقية الفارزة للخطين والفاصلة بين القويين، فشارع الثورة وخط السياسة منفصلان لا يجتمعان إلّا في حال انحياز الخط السياسي للشارع الثوري بصورة كاملة لا رياء فيها، فالسياسيون كما قال أحد الفلاسفة مثل حفّاظات الأطفال يجب تغييرهم باستمرار، وقد صدق هذا الفيلسوف، إنّ السياسي إذا لم يتم تغييره في الوقت المناسب سوف يتعفن، وحينها لن يجدي الثوار تمييزهم بين الرائحة الذكية للخير والحق والجمال من بين الروائح الكريهة للفساد والإنتهازية والابتذال. سوف تفشل هذه القوى السياسية المتنازعة الأهواء والمختلفة الآراء – اختلافاً غير صحّيّاً – وسيذهب زبدها جفاء ، ويبقى ما ينفع الناس من نتائج تمسك قوى الثورة الحيّة بشعارها الثلاثي الأبعاد - الحرية والسلام والعدالة، واستمساكها بلاءاتها الثلاث الموجهة بصورة حصرية للإنقلابيين وأنصارهم – لا تفاوض لا شراكة لا مساومة، فطريق الثورة محفوف بمخاطر الموت وفقدان النفس العزيزة، وكل من لا يستوعب هذا المعنى القيمي العادل فالأفضل له أن لا يتحدث كثيراً عن الثورة والثوار، فالثورة كما وصفها أيقونة النضال والكفاح الثائر العالمي تشي جيفارا (قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن).