امتلكت البرجوازية الفرنسية الحافز لتوجهاتها الإمبريالية عبر مفاهيم التنوير، واثر الثورة الصناعية في بريطانيا؛ تم تحرير العبيد والمرأة وتقليص العقوبات البدنية في توجه نحو تدجين الشعوب لخدمة الرأسمالية، عبر وسائل العمليات الإعلامية النفسية والضغط والحصار الاقتصادي وأدوات "التهميش الذكي" للمقاومين. ظل شعار الليبرتاريين -أي الحرية والحكومة المحدودة- هو دافعهم للاستمرار، وحصلوا على التحفيز القوي بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية وانتصار الشمال الرأسمالي الكاسح على الجنوب الاقطاعي التقليدي. وبدأت عقود أخرى من الزحف نحو تكوين حكومة عالمية من بشر يخلون من عقائدهم الكلاسيكية كالاشتراكية والدين ومن خصوصياتهم الثقافية، وموت الإله (الأخلاق الأرثوذوكسية المازوخية) بحيث ينتهي الحال ب(الفرد) متمركزاً حول نفسه، في مواجهة المؤسسات المالية الكبرى بدون دروع تحميه إلا إن كان الإنسان السوبر (البقاء للأقوى والأذكى). فهل سينجح الليبرتاريون في تحقيق غرضهم النهائي وإنهاء التاريخ البشري المؤسس على الدكتاتوريات والأسرة والقبيلة والخصوصيات الثقافية والدين، وتدمير معاقل التاريخ في الصين وروسيا والحضارة العربية والإسلامية؟ هل سنشاهد ماضينا في المستقبل في أفلام وثائقية تثير سخريتنا من أنفسنا عندما كنا بدائيين؟ لا يمكنني الجزم بأي احتمالين: انتصار التدجين الليبرتاري الغربي، أو هزيمته وعودتنا إلى الماضي القريب. كل شيء محتمل. لكن غالباً ما تنتصر الطبيعة الإنسانية على التدجين الصناعي، وخلافاً لما ذهب إليه هانتنجتون في كتابه الموجة الثالثة -وهو يعلم ذلك- فليست الكونفيشوسية ولا الإسلام ولا الأنظمة العسكرية هي التي تهدد مظهر الليبرتارية الرئيسي وهو الدموقراطية، بل إن المهدد لها حقاً هو الجوع. أو بشكل عام أي خطر يجبر الإنسان على العودة إلى غريزة البقاء، كما رأينا في بداية أزمة كورونا حينما أصيب الأوروبيون والأمريكيون بالهلع وبدأت عمليات نهب للمتاجر وشراء الأغذية بكميات هائلة تفوق حاجتهم. ففي حالات الكوارث -كما رأينا ونرى دائماً- بحيث يتهدد الإنسان خطر وجودي، فإنه يتخلص من غسيل المخ الذي تعرض له لعقود أو قرون ليعود حيواناً شرساً يدافع عن بقائه بلا هوادة ولا تفاوض. نعم قد تنتصر الليبرتارية وتظل صامدة لعقود أو حتى قرون، غير أن صمودها مرهون بالرفاهية والأمن من الخطر. فالشعور بالأخطار المحدقة هو الذي أنشأ الكثير من المفاهيم والقيم كالدين ومساعدة الضعفاء والإرتكان إلى الجماعات Communities والمجتمعات Societies ذات التقاربات الثقافية والجينينية لتحقيق التعاضد الأمني في مواجهة الأخطار، وكذلك فإن الشعور بالخطر لا يعيد الفرد إلى حواضنه الكلاسيكية بل أيضاً -وفي حالات المدنية المفرطة- يعيده إلى البربرية والهمجية. وهكذا يعيد الإنسان اكتشاف حقيقته داخل تلك الأنماط، واكتشاف اصطناعية النمط الليبرتاري القديم. إن الحكومة العالمية الآن تبدو بعيدة المنال في ظل وجود مجتمعات قديمة يصعب تفكيكها كما في الصين وروسيا والدول العربية وأمريكا اللاتينية، ولو أننا قمنا بعملية إحصائية بسيطة فسنكتشف أن الدموقرطية كمظهر تحرري لا زالت قزمة في مواجهة الواقع التقليدي القديم. مع ذلك فحتى في حالة تمددها إلا أنها لن تتمكن من البقاء في ظل التوجهات القومية والتحيزات الثقافية التي تدفع بالعديد من الشعوب لطلب الانفصال وتقرير مصيرها لتحمي تلك الذاتية والخصوصية. إن ما تقوم به المجموعات الليبرتارية مثل "حلة الضغط" التي تبقى البخار في الداخل ولكنها في لحظة ما يجب أن تتنفسه وإلا انفجرت كقنبلة قاتلة.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق August, 15 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة