|
ذون النون بشرى .."الرحيل المبكر" قراءة في دفتر ذكريات أ.د حسن اسماعيل عبيد-توجد صورة
|
لم تحل حرارة الشمس الحارقو ارتال من الناس..كبارا وشبابا،وشيوخا من التدافع والتسابق لحمل جثمان أحد أبناء السودان لمثواه الأخير..كان وقع الصدمة ماثلا في العيون الدامعة والوجوه التي كساها الحزن الأسيف .. سارواخلف النعش المحمول في الطريق إلى حيث اللاعودة ..وما هي إلا لحظات حتى توارى الجسدالذي أنهكه المرض ليتوسد تراب أمدرمان .. ارتحل ذون النون بشرى مبكرا ليخلف تركة وإرثا من الذكريات المحفورة في ذاكرة الناس .. كل الناس .. ةكأن تصاريف الزمان تسوق المبدعين قسرا لملاقاة مصيرهم المحتوم ولكن قبل الأوان ..طلبا للخلاص. تلاقينا عاما في ردهات الإذاعة في منتصف التسعينات،والإذاعة ترفل في في ثوب جديد من تطريز صلاح الدين الفاضل وكوكبة من المبدعين رفقاء الدرب .. في لحظة صفاء تذكرنا شلة الأنس في قسم الإخراج حيث تفجرت أعمال درامية لن تنسى ،كان ذا النون يملأ المكان حراكا وتألقا.. كان دائما يحمل قلما وقرطاساليكتب شيئا ما ..يجذبك بصوته المخملي،وشفافيته المفرطة،خطه الجميل،وعباراته الجزلة،كان ذا النون كاتبامن الطراز الأول .. فاجأني برسالة مطولة بعد أن غادرت مسافرا ..سأتعرض إليها لاحقا دعاني للمشاركة في برنامج (مع رواد الأغنية السودانية) سجلنا نحو (20) حلقة بدأ بالكاشف مبتكر الأغنية الحديثة.. كان ذا النون أكثر ميلا إلى توثيق الأعمال العملاقة ذهبنا معا إلى أحمد المصطفى ..قبل رحيله جلسنا لساعات في داره العامرة وسجلنا حلقة تاريخية مع العميد..وبعد أيام جمعنا لقاء في منزل الراحل عثمان حسين بجوار حديقة القرشي وواصلنا زيارة التاج مصطفى،وإبراهيم عوض .. الذين لبوا دعوة ذا النون للمشاركة من داخل الاستديوفي برنامج (مع رواد أغنية أمدرمان ومع أنني لم أكمل المشوار بسبب سفري إلا أن جهود ذا النون بشرى ،ومحمد آدم وأميقو(عبدالله إبراهيم)(عليه الرحم) تواصلت ، وأثق أن الإذاعة ما زالت تحتفظ بهذا الإرث الفني المستوحى من فكر ذا النون بشرى .. والذي أرجو أن يتم تفريغه وبثه من جديد في الذكرى الأربعينية للراحل المقيم ذا النون بشرى .. عمل ذا النون منذ تخرجه من الأحفاد طوال أربعة عقود بالإذاعة .. كان عاشقا للميكرفون ومحبا للإبداع ،وولعا بجماليات الأشياء ..مترف الذوق ويحمل في جسده المنهك أشجانا وآمالا وآلاما مبرحة،وأحزانا يحاول تجاوزها بالتسامي والاستعلاء .. في رسالته كتب لي :" شهور الضياع تطاولت كاشباح الخطيئة، وهاهي بقايا أيامي تكاد تبتلعها صحراء الزمن" ويضيف:" أكتب إليك بيد ممدودة ومحروقة بنيران الفشل"ولعله الفشل الكلوي .. أو الفشل المجرد.. ثم يكتب :" حالي كالجرذان البيضاء التي يتعين عليها مبارحة المكان قبل اندلاق البركان .. نحن البشر علينا أن نستعد لملاقاة مصائرنا قبل وقوع الكارثة.. ويقول:" نحن نحترق كل يوم وهذا هو حال المبدع .. نسعد الآخرين ونشقى وقد يتذكرنا الناس ولكن بعد فوات الأوان". رديت عليه : أخي ذا النون أكاد لا أصدق نفسي بعد قراءة رسالتك أن إنسانا مبدعا وخلاقا يناجي حظا عاثرا في هذا الزمن العبثي .. يحمل في دواخله جرحا نازفا .. يجاهد للإبحار في قارب مثقوب طلبا للخلاص .. كانت رسالة ذا النون والتي ما زلت أحتفظ بها مليئة بالشجو .. مشحونة بالشجن مع إحساس استبطاني بالألم الدفين في أغوار النفس .. نفس أعياها السقام .. أحب ذا النون الناس فبادلوه حبا بحب .. أحب وأعطى وسكب عصارة نفسه ألقا وإبداعا .. ذاب ذالنون في وجدان عشق إذاعة أمدرمان .. من ذا الذي لا يعرف ذالنون ذو الصوت المخملي الممتليْْ عمقا ورهافة وشفافية.. الصوت المسكون بالألم المشحون بالأسف الجميل. لقد أسعد الناس وهم أحياء ورحل عنا ذا النون هكذا في غفلة من الزمان .. ونحن قوم نبكي ملء محاجرنا على موتانا في لحظات الرحيل .. ولكن ينتهي كل شيء بعد لحظات الوداع الأخير !!
هل بعد من ذكرى ؟؟ رحمك الله يا ذاالنون وأفاض الله عليك من نفحات رحمته الواسعة.
د.حسن إسماعيل عبيد أبوظبي
|
|
|
|
|
|
|
|
|