|
اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية
|
أيام حكم نميري ، يقول الراوي أن أحد أهلنا الشوايقة نوى الحج ، و وقفت جموع المودعين على ضفة النيل الغربية يلوحون للمركب التي بها الحاج و هي تشق عباب النيل للضفة الشرقية ، و الزغاريد تلهب الأحاسيس ، و تدغدغ أحاسيس العجائز الذين في نيتهم الحج. و المديح يتردد صداه بين جنبات النيل العظيم. و من وسط جموع المودعين ، إنبرى رجل عجوز و بأعلى صوته قال مخاطبا الزول المسافر للحج: يا محمد ، لما تروح مكة إن شاء الله و تمسك ستاير الكعبة ، أدعو ربك و أسعلو و قول ليهو يا رب ، الدناقلة هني مسكوا البلد ، قيامتك دي راجي ليها شنو ؟ روى لي هذه القصة رجل دنقلاوي و هو يهتز من الضحك. ذكرني بالمصريين ، فالصعايدة أطلقوا عليهم آلاف النكات و ما زالوا، فيستمعون إليها و يشاركونك الضحك، فحمية القبلية و العصبية ماتت عندهم، و صار إنتماءهم لمصر وحدها. تقول للمصري هذا صعيدي دماغو ناشفة و ذاك دمياطي بخيل و هذا إسكندراني هراش و هذا فلاح غتيت ، و الحكاية ماشة و مبلوعة عندهم ( و الزعل مرفوع و العتب ممنوع ). و من كثرة القصص عن الدناقلة التي يؤلفها الشوايقة ( اصحاب الكلمة المنسابة ) من حلوقهم كإنسياب النيل شمالا ، تظن أن الذي بينهم و بين الدناقلة ، كالذي بين كريت و القرض. و لكن للذين لا يعلمون فإن أكثر قبيلتين في السودان تجمع بينهما أواصر النسب و التزاوج هم الدناقلة و الشوايقة ، ناهيك عن إلتقاء التخوم الدنقلاوية مع حدود الشوايقة ( فهو إلتقاء كإلتقاء حرفين مدغمين نتجت عنهما شدة ). و عند الشوايقة كلمات نوبية ما زال الشوايقة يرددونها في كلامهم الزى العسل. فنجد كلمة الكركتي : KORKOTTI و يتم نطق حرفا الأوو الإنجليزية في هذه الكلمة تماما كما في كلمة NOT و هذه الكلمة معناها طين الجروف الجاف على ضفاف النيل ( و الذي تشتهيه النساء المتوحمات ، لذا فربما تسرب الكركتي بما يحمله من جينات و بصمات موحدة إلى كل الأهل القاطنين على ضفاف النيل لأن كل نساءنا هناك يتوحمن عليه ، و يأكلنه بشراهة ، لذا يخرج الجنين و رأسه مضرضر بالطين إياه فتقول الحبوبة : كر ... فترد عليها الحبوبة الثانية : أسكْتي). و تتراشق الحبوبتان بالكلمتين ( كر .. و .. أسكتي ) ثم لكى يفضوا الإشتباك اللفظي بينهما أدغمتْ الكلمتان في بعضهما البعض ، فحذف الحرفان ( الألف و السين ) إرضاءا للحبوبتين ، فصارت الكلمة كركتي. و الله أعلم. هناك كلمات كثيرة في معجم الشايقية تأتي جذورها من اللغة النوبية و لا مجال لذكرها هنا ، و ما إختياري للكلمة المذكورة إلا لأنها مرتبطة بالنيل.
يأخذ الدناقلة و الشوايقة على أهلنا الحلفاويين و السكوت و المحس ، بأنهم عندما دخل الغزاة إلى السودان في كل العصور من البوابة الشمالية ، لم يقاتلوهم أو يحاولوا صدهم ، بل قالوا لهم بلا مبالاة: أنتو ماشين جوة ؟ فضلوا ، بس ما تقعدوا لينا هنا ، شتتوا لاجوة. مما جعل الدناقلة و الشوايقة يتحملون عبء محاربة الغزاة المرتاحين من عدم مناوشة قبائل الشمال لهم و إنهاكهكم. خليل فرح ذاك المبدع ، هو من قلب السكوت و المحس ترنم بكلمات عربية فصحى بحب الوطن و أطلق على الوطن الواحد إسم ( عزة ) و كأنه أخذ حرف العين من عرب و حرف الزاء من زنج و ربطهما بهذه التاء الرابطة و ليست المربوطة. من الذي أرضع الخليل هذه الوطنية ؟ أظن أن لمياه النيل فعل السحر . ( تهراقا و بعانخي ، ملوك سنار. ملوك مروي و نبتة . الإمام المهدي. الخليفة تور شين. الأنصار. شهداء كرري و المهدية. أبو عنجة. النجومي. المك نمر.عثمان دقنة. السلطان علي دينار. مهيرة بت عبود. عبدالفضيل ألماظ. على عبد اللطيف.شهداء الوطن. الجنود المجهولون. ) أسماء تجعل دماء حارة تذخر بالعزة و الشموخ ترتفع إلى أم رأسك. إنه هذا النيل الذي أرضعنا. و لن نفطم منه أبد الآبدين. عندما بدأ التكامل بين مصر و السودان ، إستخرجوا لأهل الشمال بطاقة للدخول و التنقل بين مصر و السودان ، و كان يكتب في خانة الجنسية ( مصرداني ) أى مصري سوداني. فإحتج بعض ( الماعندهم شغلة ) و قالوا ليه ما تكون ( سوصري ) يعني سوداني مصري ، فعلق أستاذنا النحرير ود الريح و قال : يعني ممكن نعمل نشيد : أنا سوصري حر ، و الحرية في دمي سوف نحطم الأغلال مهما كمموا فمي الوحدة في السودان لا تحتاج إلى هذه الأضابير المحمولة جوا و برا من مشاكوس إلى بقية منتجعات كينيا. و لا تحتاج إلى إيقاد ولا دانفورث. مقومات الوحدة موجودة و بزخم هائل. أنا شخصيا فخور جدا بأنني ممتد الإنتماء في هذا الوطن القارة. فأنا من المحس ، ولدت في عطبرة ، و ترعرعت بينها و بين بربر ، و تزوجت بطحانية من أبودليق.، و أهلي ناسبوا الجعليين و الإنقرياب و حلب مدني و الخوالدة و آل المهدي ، فأذكر أن إبن عمي ( و هو من أم إنقريابية ) عندما تقابل مع زميل لي رباطابي ، قال لي و هو يغمز بعينه : لو لاقاك دابي و رباطابي أقتل الرباطابي و خلي الدابي. فقال الرباطابي دون أن يفكر ، و بسرعة بديهة معروفة عند الرباطاب : لو لاقاك الدابي و الإنقريابي ، ما تخلي الإنقريابي يعضي الدابي ، لأنو الدابي حيموت. فقال إبن عمي الإنقريابي : الله يضرك . لسانك مسموم زى الدابي. أما عمنا الذي تزوج حعلية ثم أخرى من حلب مدني ، فقد مازحه أحد الأقارب المتزوجين من إحدى الدول الأفريقية المجاورة قائلا : مرة عرب و مرة حلب. فقال له ذو الزوجتين : أحسن من الجابو الجرب. ( حيث أن تلك الأفريقية سافرت مرة بقطار مواشي في بلدها و أصابها مرض الجرب الجلدي و تعالجت في السودان). السخرية تذيب كثيرا من الفوارق ، بما فيها الفوارق الطبقية إن وجدتْ. رحم الله دكتورنا ( عوض دكام ) ، فقد جعل من سخريته من كلمة ( عب ) في السودان ، جعل منها قبيلة قائمة بذاتها يفتخر كل من ينتسب إليها، قبيلة سنامها شخصيات كالدكتور عوض الذي كان الناس من كل المشارب يودون صداقته ، و بطون هذه القبيلة هي علمه و ثقافته المشهود له بهما ، و فخوذ هذه القبيلة هي سخريته و نوادره التي يعرفها أصدقاؤه و زملاؤه و أهل الحلفاية. الدكتور عوض ، كنا زوار دائمين له في عيادته ، فحكى هذه الرواية و هو يمارس عمله بكل دقة و إتقان : زميلنا الدكتور أمه ( خادم ) ، و بيشتغل في الخليج ، و حالتو المادية حالة السرور. إتقدم لخطبة بت ، و الزول الواسطة قال لي أبو البت : و الله الدكتور دة أبوهو فلان إبن علان ، و رجل تمام ، عندو رغبة يتزوج بتك. فقال ابو البت : معليش . البت ما عاوز أعرس ليها حسع. فقال الواسطة و هو يعرف موطن العلة التي تؤرق أبو البت: و الله زول متدين لدرجة إنو ما بيفوت فريضة ، و دايما هو إمام للمصلين المعاهو. فقال أبو البت بعد أن تضايق من الإلحاح : و الله لو بقى إمام الحرم المكي الشريف ما بديهو البت. هذه الكلمة تضايق الكثيرين ، و لكنها لعمري لا تخرج إلا من جاهل غرير يعاني من نقص في مفهومه لمعنى الإنسانية. و هي كلمة باطل أريد بها باطل. و لا تستقيم دينا أو أخلاقا.
أحد الزملاء ، هاجر إلى أمريكا ، و رجع بشهادة ( ضخمة ) و هو يتأبط ذراع زوجته الأمريكية الزنجية و كانت تشبه ( مريم ماكيبا في آخر أيامها ). فقالت خالته التي لا تنبل في خشمها فولة : سجمنا ، ولدنا دة كان في أمريكا ولا في الموردة ؟ . السخرية ، هي كالمتفاءل الذي يقول لك بأن نصف الكوب مليء ، بعكس المتشاءم ، الذي يغوص داخل منغصات حياته و يقول لك بأن نصف الكوب فارغ. أنظروا لهذه القصة المترعة بالسخرية و حسن الإجابة و الذكاء و الدهاء: جلس العمدة في إحدى قرانا و أسلم رأسه لأحد ( عبيده ) أيام هذه الكلمة تطلق على شريحة من الناس بعفوية مقبولة دون النظر إليها ككلمة إنقاص لآدمية المخاطب ، قولا و فعلا، و أيام كانت الحلاقة بشفرة كالسكين قبل إكتشاف أمواس ناسيت و جيليت. و بعد أن عطن (العبد) ذقن العمدة حتى حنجرته بالصابون و الموس تنزلق على حلق العمدة بإنسيابية ، قال له و كان مخمورا بالعرقي نوعا ما : أنتو مالكم ما بتعرسوا لينا بناتكم ؟ ففطن العمدة للمأزق و شك بأن يكون ( العبد ) يقصد شرا و الموس في يده و كمان سكران ، فقال بسرعة : أنتو جيتو و نحن أبيناكم ؟
أحد تجار الشمالية ، يأتي مع اللوري الذي يملكه كل شهر للخرطوم للتبضع و بيع محاصيله ، فوجد ذات مرة صبيا جنوبيا في السادسة من عمره يهيم في ميدان الأمم المتحدة. فأخذه إلى مطعم ، و بعد ونسة معه ، عرف منه أنه لا يعرف أين ذويه ، و أنه يبيت في المجارير مع النشالين و معتادي الإجرام. أخذه الرجل إلى نقطة البوليس ، و أفاد بأنه سيأخذه معه للشمال لتبنيه كإبن. و ذهب معه للشمال ، و هناك ، دخل الولد المدرسة ، و تعلم اللهجة المحسية تماما كلغته الدينكاوية التي لم ينسها. و شب الولد عن الطوق و هو ينادي التاجر بأبوى ( رحم الله ذاك التاجر) و صار الولد فارع الطول قوي البنية. و نقل الولد لأبيه التاجر رغبته في الإلتحاق بالجيش ، فوافق الأب ، و سافر الولد للخرطوم و إلتحق بالجيش ، ثم ترك الجندية و إشترى تاكسي بمساعدة أبيه التاجر. في يوم ، ركبت معه عدة نسوة و قالن له : الكلاكلة بالله يا أسطى. و يبدو أنهن لا يعرفن غير طريق واحد للبيت الذي يقصدنه ، فعندما إختصر السائق الطريق بشوارع مجهولة لديهن ، صارن يقلن في قلق باللهجة المحسية : العبد دة الظاهر خطفنا و ماشي يغتصبنا. حقو نفتح الباب و ننط. و صرن يتناقشن في كيفية التصرف. و هو ساكت ينظر إليهن في المراية و فاهم كل كلمة. و عندما تراءى لهن الشارع الذي يقصدنه ، هدأ خوفهن ، و عند باب المنزل ، مدت له إحداهن بالمبلغ فقال لهن باللهجة المحسية التي أتقنها : بالله دي أشكال يخطفوها ، تفووو عليكن يا شينات يا قبيحات. واحدة فيهن ما وقفت. تقول إحداهن بالمنزل و هي تلهث من ( الخلعة ) : بالله أنا قايلاهو مشغل كلامو دة في شريط المسجل. ما مصدقة دينكاوي يتكلم رطانتنا.
كما هو معروف بأن الدينكا طوال القامة في الغالب الأعم. عندما كنا في عطبرة ، عمل معنا دينكاوي طويل ( جدا ) كزميل في المدرسة ، و إلى أن نجد له مسكنا ، سكن مع أسرة معلم زميل من بربر ( أطال الله عمره ). و كلما ذهبنا إلى مناسبة زواج أخذناه معنا. و كعادة المعلمين ، نتخاطف لحمة ( الضلعة ) في عبث و لهو، و الدينكاوي كان خجولا ، فلا يشاركنا عبث خطف اللحم ، فيخرج صفر اليدين ، فقال له الأستاذ الذي يسكن معه : شوف يا ماجوك ، لو بقيت مسكين كدة حتموت من الجوع. أخطف زينا. فوضع ماجوك نصيحة زميلنا نصب عينيه و يبدو أنها إختمرت تماما في رأسه . و في مناسبة عرس ، وجدت الدينكاوي مبتسما بفعل ( زجاجة شري و كم زجاجة بيرة ) كتحها في بار ( سكوتلس ). و عندما جاءت الصينية و اللحمة بي فوق و رائحتها تطرب الأنوف ، وقف ماجوك ، و إختطف اللحمة بكاملها و وقف على تربيزة السفرة و صار ( يقطع في اللحمة و يبلع دون مضغ و هو يقول : كان أنتو رجال هسلوني.). فقال له أحد الزملاء : إنت يا ماجوك في الواطة ما بنحصلك ، كمان طالع في التربيزة ؟ و نزل ماجوك بعد أن جعل فخذ الخروف ( أثرا بعد عين ).
أنا أعلم علم اليقين ، بأن ما ذكرته هنا هو غيض من ( فيض يملكه أفراد قبيلة سودانيز أون لاين ) ، و أن ما ذكرته هو كالذي تأخذه إبرة معلوماتي المغموسة في بحر بعض الجهابذة هنا في هذا الوطن الثاني. و الداء لا يبرأ بالنظر إليه و ( غطغطة ) ورمه و بالتغاضي و الكتمان و التوجس و حمل الضغائن، و لكن الجروح تبرأ بالضغط عليها و معرفة كمية ألمها و من ثم عصر ترياق الوضوح و السخرية من مسببات الداء ، ثم من الداء ، ثم من حاملي الداء. فلكل أهل السودان العتبى حتى يرضوا.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-22-03, 01:35 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | rummana | 07-22-03, 02:10 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-22-03, 02:24 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | aboalkonfod | 07-22-03, 02:32 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-22-03, 02:58 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | HOPELESS | 07-22-03, 03:26 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-22-03, 03:38 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | shawgi badri | 07-22-03, 03:57 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | noura | 07-22-03, 03:45 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-22-03, 03:57 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-22-03, 04:08 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | نادر | 07-22-03, 04:07 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-22-03, 04:23 PM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | abuguta | 07-23-03, 01:19 AM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | bayan | 07-23-03, 03:10 AM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-23-03, 08:27 AM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-23-03, 08:31 AM |
Re: اللوحة السيريالية .. في الشعر الناعم و الأنوف الزنجية | ابو جهينة | 07-23-03, 08:31 AM |
|
|
|