الأربعاء 3 فبراير 1999 العدد – 2025 صحيفة الخرطوم
خريف مترع
تسقط " القراقير " من أيدي الصغار وتدور علي الأرض المبلولة.
في " الجباريك " الصغيرة كانت نسمات الخريف تجادل قناديل " عيش الريف " ولا تفتا تعلن رقصتها مع الرياح ، حين كان الأطفال يتفادون البرك الصغيرة بعرباتهم علي مختلف التصميمات ، تلك العربات المصنوعة من السلوك – عربات السلوك – حين كانوا يفعلون تلك الفرحة مقلدين أصوات العربات ، دخلت السوق الكبير أفواج من النساء المترنمات ورجال بقرون علي رؤوسهم خليط من الجنسين يتحرك مع رقصة " الكمبلا " التي اعتدت فجاءه علي حركة البيع في السوق وجذبت إليها حتى التجار ، تفرقع سياط الراقصين حين تضرب علي الأرض وتكشكش الأقدام التي طوقت بحجول من العلب الصغيرة التي ملئت بالحصى وبأخري من أغطية زجاج " الليمونادة " ، هكذا ، تتدفق النغمات الموسيقية بتركيب ممتع يبدو بسيطا لكنه معقد بما فيه الكفاية ، أن صخب تلك الأقدام علي الأرض وحمحمة الراقصين وغناء المترنمات من النساء مع فرقعت السياط ، كل تلك الأصوات قد تأتيك هكذا- دفعه واحدة – خرجت رقصة " الكمبلا " فجرا من كحليات ووزعت فرحتها علي طول الطريق حتى دخلت سوق " كادوقلي " الكبير.
من واد تحيط به الجبال يدعي " لوفو " تنحدر المياه – شلال عبر الجبال – يمكن أن تلاحظ فعل الماء علي الصخور ، تشكيلات غريبة علي الصخور تؤكد قيمة الزمن وقوة الماء وتحمل الصخور، تنحدر المياه من هذا الشلال ، تلامس الصخور المبعثرة علي الأرض حين يسمع أهالي " قعر الحجر " هدير المياه يعرفون أن خور " كلبي " قد أعلن حضوره ، قد يأتي مبكرا وقد يتأخر لذا دائما ما تتمايز به فصول الخريف إن السحابات التي تبكي علي تلك الجبال قد تتمانع أحيانا وقد تهرب ، خور " كلبي " ينتزع الأرض التي يمر فيها فيقسم الجزء الغربي من المدينة ، يقسم بين حي " الملكية " وحي " الرديف " ويتعذر تماما أن تصل من حي " البانجديد " إلي حي " الموظفين " ومن حي" السوق " إلي حي " الملكية " يطوق خور " كلبي " الجزء الغربي من المدينة منسربا عبر سهول ووديان ، يلتقي بخيران أخرى في مسيرته وتنمحي ملامح تلك الخيران في خور " ابوحبل " الكبير .
عادة ما تعجز العربة التي تنقل طلاب مدرسة كادوقلي الثانوية العليا " تلو " عن أداء مهمتها في توصيل الطلبة الذين هم خارج الداخلية بسبب ذلك الخور الذي يمر بحي " الفقراء " وحي " حجر المك " تراهم يتوجهون في جميع الاتجاهات ، منهم من يحمل حزاءه في يده ومنهم من أحتاط لهذا الأمر فاقتني " شدة " أو جزمه من البلاستيك أو " كبك " أو " باتا " خور " حجر المك " يتمتع بالجزء الشرقي من المدينة ويتركها بعد أن بحي " كليا " و " مرتا " في الجزء الشمالي ، قبل ذلك يداعب حافة الأرض التي عليها قصر الضيافة وسط تلك الحدائق التي تتعانق فيها الأشجار عند مدخل المدينة ، تستطيع أن تسمع هديره وأنت ف موقف اللواري والبصات التي تتجه شمالا أمام منطقة " الغيط " القديمة ، يتجه خور " حجر المك " شمالا كما أتجه رفيقه " خور كلبي " تري هل يلتقيان؟
العائدون في الليالي المقمرة من حيث كانوا لا يملكون سوي مواجهة الطين والمياه المتدفقة ، ليل يمنحه القمر متعة التحكم في الظلال ، قمر يظهر ويختفي بين السحاب ، ضوء شفيف علي جبال خضراء ، أن للأشجار في هذه المنطقة قدرة علي أن تنبت بين الصخور .
يميز المسترخون ف منازلهم من الأصوات التي تسري عبر هذا الليل المميز بالمطر والقمر يميزون صوت " بكري " ذلك الشفيف الملقب بـ " أوهو " وهو يترنم بأغنية " هوج الرياح " للجابري :-
" الليل ، الليل
الليل ، الليل ..يهود بي "
عادة حين يقترب " أوهو " من تلك الربوة العالية عند مدخل " الملكية " يتخلى عن تلك الأغنية ليضم شفتيه ويصفر ذلك النغم الذي يستعذبه جدا ، صفارة " الكابوي " وكأنه حين يعتلي تلك الربوة يتقمص أحي أدوار " جون واين " أو " فرانكونيرو " " أوهو " يأتي دائما من السينما ، لا يفارقها أبدا ، كان الخريف يعتدي علي مزاجه ويحرض شجنه وحنينه إلي عوالم أخرى – هناك – بعيدا ، حيث أنها ليست هنا ، يضحك علي طريقة أبطال الأفلام ، يحزن ويبكي متمثلا تلك الصراعات التراجيدية النقية ، يمشي كما يمشون داخل ذلك الحائط الأبيض المستطيل ، يحلم بمدن وشوارع وبنساء جميلات ، بخيول مجنحة في الفراغ ، كم تمني ان يمتلك حصانا ، يصيح في أولئك الذين يضايقونه بهذرهم الصافي النية ، يصيح ولا ينسي أن يقطب جبينه علي طريقة " تشارلس برونسون " :- " شط اب " يملك حصيلة من مفردات اللغة الإنجليزية ما يمكنه من التعبير بها ، يرتدي قبعة من السعف يميلها قليلا إلي الأمام بحيث تغطي جزءا من الوجه فيبدو غامضا .
حين حصل " أوهو " علي ذلك البالطو ، جرب أن يصعد الجبل ويأتي نازلا وفي ذهنه تضج تلك الموسيقي التصويرية التي تكثف دخول " دجانقو " إلي المدينة ، ينزل " أوهو" من الجيل ببطء ، تضايق حين لاحظ أن قدميه تفقدان تلك الجزمة التي عليها النجمة من الخلف ، كان يرتد شبشبا مصنوعا من لستك العربات – " تموت تخلي " – أهتزت الشخصية ، تجاوز " أوهو " معضلة الجزمة تسامي عليها ، أحتفظ بمشية الكابوي ، إنبعثت في داخله تلك الموسيقي ، انفجر منسجما معها في صفير ممتع ، حين نزل " أوهو " من اليل ، قرر أن يقطع " خور كلبي " متجها إلي نادي " الموردة " أن يقطع الخور من " الملكية " إلي " الرديف " حيث أن نادي " الموردة " علي ضفة الخور الأخرى ، كان الخور في قمة اندفاعه وكانت تلك الموسيقي التي في داخله مع صفيره العذب تهون من أمر اندفاع المياه ، أقتحم " أوهو " المياه ببط الوايق ، لم يتخلى عن صفيره يقاوم المياه بإصرار أبطال السينما ، حين وصل إلي منتصف الخور ، وقف ، مواجها عنف التيار ، المياه وصلت إلي وسطه ، وقف ينظر إلي هنا وهناك مستمعا بالصراع ، يصفر منتشيا ، حين مر به أحد أولئك السكارى ، صاح في " أوهو " :- " يا زول الخور ده بشيلك " .
نظر إليه " اوهو " وقطب جبينه وتخلي عن صفيره مرغما ليصرخ في وجه هذا السكير : - " قيراوت" .
بعد أن خرج " أوهو " من خور " كلبي " وأتجه نحو نادي " الموردة " لم يكن نادي " الموردة " في ذهنه سوى بار من بارات مدينة تكساس ، الحضور داخل النادي يتوزع علي ألعاب الكوتشينة بمختلف أساليبها والضمنه وبعضهم يتأنسون ، انتبه ذلك الحضور في لحظة واحده حيت دفع " أوهو " باب النادي ، دفعه بعنف ونظر إليه ، كان متاكدا من أن الباب تتأرجح منه الضلفتان رغم أن باب النادي كان بضلفة واحده .
ضحك الحضور ، كان " أوهو " مبتلا ، يرتد ذلكالبالطو ، القبعة السعفية تغطي جزءا من الوجه ، يقف مباعدا بين ساقيه حتى أنك تستطيع أن تجزم حين تراه واقفا هكذا أنه يرتدي حزاما يتدلي منه مسدسان ، نظر إلي الحضور ، أستطاع أحد الأشقياء أن يعيده إلي الواقع حين صرخ مرحبا به : " أوهو " .
حينها خرجت شخصية الكابوي من داخله وبحضور سريع رد علي ذلك الصائح بأسمه : " بطنك فيها بابو " وضحك الحضور ضحكة مجلجلة تردد صداها علي ذلك الجبل القريب ، من بين تلك الضحكة التقط " أوهو " عذاب " دلوكه " كانت تحاول أن تتمرد علي ذلك الليل ، مست دواخله الشفيفه أصوات البنات في حي " الرديف " :
" قصدك قصدك
مشتاقين ما لقو
قصدي فوق السجاير
ولع لي نحرقو "
كم يجذبه الغناء ، لذلك خرج " أوهو " من النادي متجها إلي حيث الغناء وقرر أن يرقص هذه الليلة كصعلوك نبيل .
يمر عام ويأتي عام ويمارس خور " كلبي " حضوره الموسمي بنسبية مختلفة ، لكن حين جاء " كلبي " هذا العام الذي تلي وقفة " اوهو " بين مياهه المندفعة ، جاء خور " كلبي " وكان " أوهو " قد ذهب إلي حيث لا رجعه ، وجدوه مستلقيا وبهدوء كان أحد الأزرار الحديدية في شبشبه الذي يرتديه " تموت تخلي " قد أصابها الصدأ فجرحت قدمه فمات بالتيتانوس وبقربه كانت هناك نجمتان من الحديد " وبوت " قديم مهترئ من ذلك النوع الذي يرتديه العساكر .