بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-22-2024, 03:28 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-31-2003, 11:52 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث (Re: bayan)




    أدونيس

    بيان الحداثة
    1979- 1992

    ( 1 )

    أبدأ بالكلام على أوهام الحداثة. ذلك أنها أوهام تتداولها الأوساط الشعرية العربية وتكاد. على المستوى الصحفي- الإعلامي. أن تخرج بالحداثة عن مدارها، عدا أنها تفسد الرؤية وتشوه التقييم.
    أوجز هذه الأوهام في خمسة. توهم بثلاثة منها مقتضيات التطور الثقافي، بعامة. أما الاثنان الآخران فتوهم بهما مقتضيات فنية، بخاصة.
    الوهم الأول هو الزمنية. فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر، بالراهن من الوقت، من حيث أنه الإطار المباشر الذي يحتضن حركة التغير والتقدم أو الانفصال عن الزمن القديم. والتقاط هذه الحركة، شعريا، أي رصدها وفهمها والتعبير عنها، دليل كاف بحسب هذا الميل، على الحداثة. ومن الواضح أن هؤلاء ينظرون إلى الزمن على أنه نوع من القفز المتواصل، وعلى أن ما يحدث الآن متقدم على ما حدث غابرا، وعلى أن الغد متقدم على الآن.
    والواقع أن هذه نظرة شكلية تجريدية، تلحق النص الشعري بالزمن، فتؤكد على اللحظة الزمنية لا على النص بذاته، وعلى حضور شخص الشاعر، لا على حضور قوله. وهي، من هنا تؤكد على السطح لا على العمق، وتتضمن القول بأفضلية النص الراهن، إطلاقا، على النص القديم. وخطأ هذه النظرة كامن في تحويل الشعر إلى زي. أعني انه كامن في إغفالها أمرا جوهريا هو أن حداثة الإبداع الشعري غير متساوقة، بالضرورة، مع حداثة الزمن. فإن من الحداثة، ما يكون ضد الزمن، كلحظة راهنة. ومنها ما يستبقه، ومنها ما يتجاوزه أيضا، فحين يهزنا اليوم شعر امرئ القيس، مثلا، أو المتنبي، فليس لأنه ماض عظيم، بل لأنه إبداعيا يمثل لحظة تخترق الأزمنة. فالإبداع حضور دائم. وهو بكونه حضورا دائما، حديث دائما.
    ومعنى ذلك، بالتالي، أن ثمة شعرا كتب في زمن ماض ولا يزال، مع ذلك حديثا، فالشعر لا يكتسب حداثته بالضرورة، من مجرد زمنيته، وإنما الحداثة خصيصة تكمن في بنيته ذاتها. استطرادا، يمكن القول في أفق هذا المنظور، إن امرأ القيس، مثلا، في كثير من شعره أكثر حداثة من شوقي في شعره كله، وإن في شعر أبي تمام، كمثل آخر حساسية حديثة ورؤيا فنية حديثة لا تتوافران عند نازك الملائكة.
    الوهم الثاني هو ما أسميه بوهم المغايرة. ويذهب أصحاب هذا القول إلى أن التغاير مع القديم، موضوعات وأشكالا، هو الحداثة أو الدليل عليها. وينتج عن هذا الوهم القول بآراء حول بنية القصيدة، وحول الوزن ووحدته الإيقاعية، وحول مضموناتها، تغاير آراء النقاد القدامى. ويكفي الشاعر في منظور هذا الوهم أن يصنع قصيدة تغاير، بموضوعها وشكلها، القصيدة الجاهلية أو العباسية، لكي يكون حديثا. وهذه نظرة آلية تقوم على فكرة إنتاج النقيض. وهي، شأن النظرة السابقة. تحيل الإبداع إلى لعبة في التضاد. تلك تضاد الزمن بالزمن، وهذه تضاد النص بالنص. وهكذا يصبح الشعر تموجا ينفي بعضه بعضا، مما يبطل معنى الشعر ومعنى الإبداع، على السواء.
    الوهم الثالث هو ما أسميه بوهم المماثلة ففي رأي بعضهم أن الغرب مصدر الحداثة، اليوم بمستوياتها المادية والفكرية والفنية. وتبعا لهذا الرأي لا تكون الحداثة خارج الغرب، إلا في التماثل معه. ومن هنا ينشأ وهم معياري تصبح فيه مقاييس الحداثة في الغرب، مقاييس للحداثة خارج الغرب.
    وهذه نظرة تصدر عن إقرار مسبق بتفوق الغرب، ولهذا فإن أصحابها والدائرين في فلكها ينعون دائما على الشعر العربي تخلفه وتقصيره عن اللحاق بالشعر الغربي، كما ينعون على الحياة العربية، إجمالا، تخلفها وتقصيرها عن الحياة الغربية.
    لكن، ألا تبدو المماثلة هنا استلابا كاملا- أي ضياعا في الآخر حتى الذوبان؟ والحق أن شعر المماثلة مع الخارج المحتذى ليس إلا الوجه الأكثر إغراقا في ضياع الذات لشعر المماثلة مع الموروث التقليدي المحتذى. فالعربي، اليوم، الذي ينتج شعر المحاكاة للقديم، إنما يعيد إنتاج الوهم الأسطوري- التراثي، ولا يبدع شعر ذاتيته الواقعية الحية. والعربي الذي يكتب اليوم شعر المماثلة مع الآخر الغربي، لا يكتب شعره الخاص، وإنما يعيد إنتاج شعر ذلك الآخر.
    الممارسة هنا وهناك استلاب. لذلك تقتضي الحداثة قطعا مع التأسلف ومع التمغرب في آن. من أجل كتابة الذات الواقعية الحية، وقد وعت فرادتها وخصوصيتها إزاء الآخر، وتمثلت، بنقد جذري إبداعي، أسطورتها التراثية- الأبوية، وتجاوزتها- أي انطلقت، بدءا منها، إلى أبعاد جديدة.
    الوهم الرابع، شأن الوهم الخامس، فنيان يرتبطان عضويا بوهمي المماثلة والمغايرة، أسمّي الأول وهم التشكيل النثري، وأسمي الثاني وهم الاستحداث المضموني. وهذان رائجان، اليوم. وهم النثر استغراق في المغايرة- المماثلة. ووهم المضمون استغراق في الزمنية.
    من الناحية الأولى يرى بعض الذين يمارسون كتابة الشعر نثرا أن الكتابة بالنثر، من حيث هي تماثل كامل مع الكتابة الشعرية الغربية، وتغاير كامل مع الكتابة الشعرية العربية، إنما هي ذروة الحداثة. ويذهبون في رأيهم إلى القول بنفي الوزن، ناظرين إليه كرمز لقديم يناقض الحديث.
    إن هؤلاء لا يؤكدون على الشعر بقدر ما يؤكدون على الأداة. النثر، كالوزن، أداة، ولا يحقق استخدامه، بذاته، الشعر. فكما أننا نعرف كتابة بالوزن لا شعر فيها، فإننا نعرف أيضا كتابة بالنثر لا شعر فيها. بل إن معظم النثر الذي يكتب اليوم على أنه شعر لا يكشف عن رؤية تقليدية وحساسية تقليدية وحسب، وإنما يكشف أيضا عن بنية تعبيرية تقليدية. وهو لذلك ليس شعرا، ولا علاقة له بالحداثة. وهذا ما ينطبق أيضا على معظم الشعر الذي يكتب، اليوم، وزنا.
    ولعلنا نعرف جميعا أن قصيدة النثر، وهو مصطلح أطلقناه "في مجلة" شعر إنما هي، كنوع أدبي- شعري، نتيجة لتطور تعبيري في الكتابة الأدبية الأميركية- الأوروبية.
    ولهذا فإن كتابة قصيدة نثر عربية أصيلة يفترض، بل يحتم الانطلاق من فهم التراث العربي الكتابي، واستيعابه بشكل عميق وشامل، ويحتم من ثم، تجديد النظرة إليه وتأصيله في أعماق خبرتنا الكتابية- اللغوية، وفي ثقافتنا الحاضرة. وهذا ما لم يفعله إلا قلة. حتى أن ما يكتبه هؤلاء القلة لا يزال تجريبيا، فكيف يكون الأمر، والحالة هذه، مع الذين يقتنصون هذا التجريب، ويعرشون عليه، بانقطاع كامل عن لغة الكتابة الشعرية العربية، في عبقريتها الخاصة، وفي نشأتها ونموها وتطوراتها؟
    أخيرا، يزعم بعضهم، انسياقا وراء وهم استحداث المضمون، أن كل نص شعري يتناول إنجازات العصر وقضاياه هو، بالضرورة نص حديث. وهذا زعم متهافت. فقد يتناول الشاعر هذه الإنجازات وهذه القضايا برؤيا تقليدية، ومقاربة فنية تقليدية، كما فعل الزهاوي والرصافي وشوقي، تمثيلا لا حصرا، وكما يفعل اليوم بعض الشعراء، باسم بعض النظرات المذهبية الإيديولوجية. فكما أن حداثة النص الشعري ليست في مجرد زمنيته، أو مجرد تشكيليته، فإنها كذلك ليست في مجرد مضمونيته.



    ( 2 )

    تلك هي، في ما يخيل إلي، أوهام لا يصح الكلام على الحداثة الشعرية العربية إلا بدءا من نقضها وإبطالها. ولا بد، في هذا السياق، من الإشارة إلى ظاهرة شبه مرضية في الوسط الثقافي العربي، هي ظاهرة اتهام الشاعر العربي الحديث بتقليد الحداثة الغربية، وتقليد شعرائها، وبنقل مفهوماتها، والحكم تبعا لذلك على الحداثة الشعرية العربية، بأنها غير "أصيلة" وليست لها قيمة شعرية أو فنية. وغالبا ما يكون هذا الحكم قائما على الاجتزاء، وعلى الجهل بالشعر الغربي، والشعر العربي معا. بودلير، مالارميه: إنهما، نظريا وشعريا، أساس الحداثة في الشعر الفرنسي. لكنهما لم يأخذا مفهوم الحداثة من "التراث" الفرنسي، وإنما أخذاه من الولايات المتحدة- من إدغار ألن بو. أكثر من ذلك: إن مدار آرائهما في الشعر هو نفسه مدار آرائه، حتى أنهما يتبنيان أفكاره نفسها.
    رامبو: أليس شعره مليئا باقتباسات وأفكار وأقوال يأخذها من مصادر متنوعة وفي مقدمتها المصادر المشرقية؟.
    واقرأوا دانتي أو شكسبير أو غوته: ألا تجدون في نتاجهم عبارات وأفكارا وآراء مأخوذة من تراث شعوب مختلفة، ونتاج شعراء مختلفين؟
    كذلك يمكن القول بالنسبة إلى هولديرلن ونرفال وشار وميشو وجوف وسان- جون بيرس، لكي لا نسمي إلا عددا من الكبار.
    وماياكوفسكي؟ هل أخذ مفهوم الحداثة الشعرية من التراث الروسي، أم أنه أخذه، علىالعكس، من بودلير ورامبو ومالارميه؟
    كذلك إليوت: لم يأخذ مفهوم الحداثة من التراث الإنكليزي، وإنما أخذه من بودلير ولافورغ وكوربيير. فهل هناك قارئ/ ناقد يقيم أحدا من هؤلاء بما "أخذه" عن غيره؟ أو يقول عنه إنه خرج على تراثه؟ ثم أليس من المسكنة العقلية، حين نتحدث عن هؤلاء، أن نقف عند فكرة أو عبارة اقتبسوها، ونتهمهم أنهم سارقون مقلدون؟
    وما يصح على هؤلاء، يصح على شعرائنا العرب: أبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء لكي نسمي أيضا غلا عددا من الكبار.
    وما يصح على هؤلاء، يصح على شعرائنا العرب: أبي نواس وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء لكي لا نسمي أيضا إلا عددا من الكبار.
    لقد أدخل هؤلاء ما أخذوه واقتبسوه في نسق مغاير خاص، وصهره كل منهم في نظام من العلاقات متميز وخاص به. وإنه لجهل كامل بالشعر، أن نجتزئ، حين ننقدهم فكرة من هنا وقولا من هناك، داخل نتاجهم ونصدر أحكامنا عليهم، وإنما يجب أن نكتشف النسق العام لهذا النتاج، ونظام علاقاته- ومن ثم نصدر أحكامنا.
    ينبغي على القارئ/ النقاد، إذن أن يواجه في تقييم شاعر ما ثلاثة مستويات، مستوى النظرة أو الرؤيا، مستوى بنية التعبير، مستوى اللغة الشعرية.
    يتصل المستوى الأول بما لدى الشاعر من الخاص المميز الذي يفرده عن غيره من حيث أنه يقدم صورة جديدة للعالم الذي يعيش فيه والعالم ككل. ويتصل المستوى الثاني بما لديه من الخاص المميز أيضا في إعطاء هذه الصورة بنية تعبيرية جديدة، بالقياس إلى موروثة.
    ويتصل المستوى الثالث بما لديه من طاقة خاصة مميزة في أن يؤسس باللغة العامة التي هي ملك الجميع، ، كلاما خاصا به متميزا.
    ويصح الكلام على تقليد حين نجد شاعرا يحول أحد هذه المستويات عند شاعر آخر إلى نمطية يتلبسها ويكررها. وأبسط ما يقال في صاحب هذا التنميط هو أنه ليس لديه ما يقوله، وليست لديه لغة شعرية خاصة، وإن كانت لديه، أحيانا، براعة التنميط.
    لكن ،ما التنميط المقصود هنا؟
    إنه ليس في مجرد الكتابة وزنا أو نثرا، فلو كانت الكتابة بمجرد شكل كتابي سابق تنميطا، أي تقليدا، لكانت كتابتنا اليوم، بالوزن والنثر على السواء، تقليدا، الكتابة بالوزن أو بالنثر ليست بذاتها امتيازا أو خصوصية، وإنما الامتياز والخصوصية في نظام التعبير، أي في عالم العلاقات الذي يبدعه الشاعر. ذلك أن التنميط يمكن أن يكون في الوزن وفي النثر.
    التنميط، إذن هو إعادة إنتاج العلاقات نفسها: علاقة نظرة الشاعر بالعالم والأشياء، وعلاقة لغته بها، وبنية تعبيره الخاصة التي تعطي لهذه العلاقات تشكيلا خاصا.
    أن يكون أبو تمام، مثلا، كتب بنظام الشطرين لا يعني أنه يقلد حسان ابن ثابت وأن يكتب اليوم الشاعر بنظام الشطر الواحد لا يعني أنه يقلد نازك الملائكة أو السياب. كذلك يصح القول نفسه فيما يتصل بالكتابة نثرا،خارج نظام التفعيلة. فأن يكتب شاعر عربي بنظام قصيدة النثر لا يعني أن كتابته "متقدمة" على قصيدة الوزن، أو أنه يقلد بودلير أو رامبو أو سان- جون بيرس. وما ينطبق هنا على "طريقة" الكتابة، وزنا أو نثرا، ينطبق أيضا على "الموضوعات": فليس مجرد الكتابة عن العبث أو الموت أو البعث أو الخراب أو الحب والجنس.. الخ، تقليدا للشعراء الذين كتبوا سابقا حول هذه "الموضوعات".
    ومن هنا نجد تباينا بين شعراء يصدرون عن نظرة واحدة للعالم (مسيحية، مثلا، أو وجودية، أو ماركسية). ويكتبون بطريقة واحدة: وزنا، أو نثرا.
    نقول عن شاعر إنه تنميطي، أي مقلد، حين يكرر العلاقات ذاتها التي ابتكرها شاعر آخر، ولا نقول عنه ذلك لمجرد كتابته بالوزن مثله، أو بالنثر، أو لمجرد التقائه معه في النظرة إلى العالم. فأن يصدر شاعر عربي، مثلا، عن اللاوعي والحلم لا يعني بالضرورة أنه يقلد السوريالية.
    يعني ذلك أن "العناصر" "(النثر، الوزن، الأفكار.. الخ) ليست ابتكارا لشاعر محدد، وإنما هي موجودة، موضوعيا، وجود الأشياء. ولهذا فإن استخدامها لا يكون سرقة أو تقليدا، لكنه، بالمقابل، لا يكون إبداعيا إلا إذا خلق بنية جديدة، ونظاما جديدا من العلاقات.
    ومن هنا لا يمكن الشاعر أن يجدد إذا لم يكن متأصلا في عبقرية لغته (لكي يعرف كيف يصهر العناصر التي يستخدمها، ويحولها إلى طبيعة اللغة التي يكتب بها). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا يقيم الشاعر بنوع كتابته، سواء كان نثرا أو وزنا، أو بفكرة أو أفكار تجتزئها من نتاجه، وإنما يقيم برؤياه ككل، ونظامه الفني ككل، وعالم العلاقات التي يبتكرها.


    ( 3 )

    إذن، ما حقيقة الحداثة؟
    لا أزعم، أن الجواب عن هذا السؤال أمر سهل. فالحداثة في المجتمع العربي إشكالية معقدة، لا من حيث علاقاته بالغرب وحسب، بل من حيث تاريخه الخاص أيضا. بل يبدو لي أن الحداثة هي إشكاليته الرئيسية.
    لكن، مع أن الجواب ليس سهلا، فإنني سأحاول أن أتلمس جوابا ما. من أجل ذلك أود أن أشير أولا إلى أن الحداثة الشعرية العربية لا تقيم إلا بمقاييس مستمدة من إشكالية القديم والمحدث في التراث العربي، ومن التطور الحضاري العربي، ومن العصر العربي الراهن، ومن الصراع المتعدد الوجود والمستويات، الذي يخوضه العرب، اليوم.
    وأود ثانيا، أن ألجأ إلى شيء من التبسيط، فأقسم الحداثة إلى ثلاثة أنواع: الحداثة العلمية، وحداثة التغيرات الثورية- الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، والحداثة الفنية. علميا، تعني الحداثة إعادة النظر المستمرة في معرفة الطبيعة للسيطرة عليها، وتعميق هذه المعرفة وتحسينها باطراد.
    ثوريا، تعني الحداثة نشوء حركات ونظريات وأفكار جديدة، ومؤسسات وأنظمة جديدة تؤدي إلى زوال البني التقليدية القديمة في المجتمع وقيام بني جديدة.
    وتعني الحداثة فنيا، تساؤلا جذريا يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها، وافتتاح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية، وابتكار طرق للتعبير تكون في مستوى هذا التساؤل. وشرط هذا كله الصدور عن نظرة شخصية فريدة للإنسان والكون.
    تشترك مستويات الحداثة هنا، مبدئيا، بأنواعها الثلاثة، في خصيصة أساسية هي أن الحداثة رؤيا جديدة، وهي، جوهريا، رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد. فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع، وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها. غير أن هذه المستويات وإن ائتلفت، مبدئيا، فإنها تختلف وتتفاوت تطبيقيا، وذلك تبعا للصعوبات والمراحل. وبما أن المستويين الأول والثاني يعنيان بتغيير الواقع مباشرة، فإن الصعوبات والمعوقات أمامهما أكثر بكثير منها أمام المستوى الثالث، مستوى الحداثة الفنية، الذي لا يعني بتغيير الواقع، إلا بشكل مداور. ولهذا نرى أن إمكان التغير على هذا المستوى أسهل وأسرع، وليس من الضروري أن يرتبط، عكسا أو طردا، بالمستويين الأولين.
    ما مدى حضور هذه المستويات وما مدى فاعليتها في الحياة العربية؟ إن نظرة تحليلية سريعة تكفي للإجابة. فليس في المجتمع العربي حداثة علمية. وحداثة التغيرات الثورية: الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، هامشية لم تلامس البنى العميقة. لكن، مع ذلك، وتلك هي المفارقة، هناك حداثة شعرية عربية. وتبدو هذه المفارقة كبيرة حين نلاحظ أن الحداثة الشعرية في المجتمع العربي تكاد أن تضارع، في بعض وجوهها الحداثة العشرية الغربية. ومن الطريف أن نلاحظ، في هذا الصدد، أن حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر، بينما نرى، على العكس، أن حداثة الشعر في المجتمع العربي متقدمة على الحداثة العلمية- الثورية. هكذا تبدو الحداثة الشعرية العربية لكثير من العرب كأنها جسم غريب مستعار. وفي هذا ما قد يفسر أسباب عدائهم لها، ورفضهم إياها، ورمي ممثليها بمختلف التهم التي تبدأ بالغموض وتنتهي بتهمة تقليد الغرب مرورا بتهمة هدم التراث أو التنكر له.
    ويصدر هذا الموقف عن إيمان بتساوق النية الفنية والبنية الاقتصادية- الاجتماعية في المجتمع، بحيث تكون الأولى انعكاسا أو في أبعد تقدير مواكبة للثانية. غير أن هذا الموقف تمليه مقتضيات إيديولوجية بحتة، بحجة الوفاء للتراث والارتباط به، حينا، وبحجة الوفاء للجماهير والارتباط بها، حينا آخر.
    غير أن المقتضى الإيديولوجي هنا لا يحجب حركة الواقع أو يشوهها وحسب، وإنما يحجب أيضا حركة الإبداع الشعرية ويشوهها. وهو ينسى أو يتناسى أن الشعر،والفن بعامة، هو جوهريا رؤيا احتجاج وممارسة احتجاج. ومن هنا التفاوت الطبيعي، أي الضروري، بين البنية الاقتصادية- الاجتماعية والبنية الفنية في المجتمع. لا يمكن بمعنى آخر، قياس التطور الفني على التطور الاقتصادي- الاجتماعي. ذلك أن الحدث الاقتصادي- الاجتماعي حدث مراوحة نفي الزمان والمكان يستنفد بغاياته العملية المباشرة، بينما الحدث الشعري حدث تجاوز لا يستنفد. فالإبداع الشعري هو تحديدا، استباق وحيث تنشأ نتاجات شعرية تتآلف مع البنية الاقتصادية- الاجتماعية السائدة وتعكسها، فإن نصيب هذه النتاجات من الإبداعية والفنية يكون سطحيا ضحلا، بحيث تتحول إلى وثائق اجتماعية مكتوبة بتوهم الشعر. هذا هو مثلا مصير ما سمي في تراثنا الشعري بشعر الرثاء والهجاء والمدح، فنحن، اليوم نقرأ فيه الوثيقة الاجتماعية- السياسية أكثر مما نقرأ الكشف الشعري أو الرؤيا الشعرية. وهذا هو نفسه مصير معظم الشعر العربي المعاصر الذي يسمى خطأ بالحديث، والذي يصور أو يعكس وهم الحداثة الثورية، أي وهم التغير الاقتصادي- الاجتماعي- السياسي. فهذا الشعر يكتب خارج الواقع الحي، وخارج اللغة الشعرية.
    لم يعد أحد ينكر الترابط بين ما يسمى بالبنية الفوقية وما يسمى بالبنية التحتية لكن الخلاف لا يزال قائما حول كيفية هذا الترابط. وهو خلاف لم يعد محصورا بين الماركسيين وغير الماركسيين، وإنما أصبح قضية رئيسية للجدل في ما بين الماركسيين أنفسهم.
    لا أذكر اسم العالم الاقتصادي الماركسي الذي يصف الاقتصاد بأنه علم متاخم أو علم المتاخمة. أعني أنه يتصل بعلوم إنسانية متعددة- علم الاجتماع، علم الإنسان (الأنتروبولوجية) التاريخ، التربية، وهو يتصل بالإضافة إلى ذلك، بالثقافة وتاريخها.
    بل يبدو لكثير من علماء الاقتصاد أن من المتعذر فهم أية مشكلة اقتصادية. فهما عميقا محيطا، دون الاستناد إلى هذا الإطار الواسع من العلوم الإنسانية. ذلك أن الاقتصاد ليس معادلات ذهنية أو رياضية. فالاقتصادي السياسي مثلا علم يعنى بالحياة الاجتماعية، وعلى الأخص بجانب من جوانبها الأكثر أهمية: الإبداع الإنساني، وكل تجديد وكل تغيير في القطاع الاقتصادي يكشفان عن إبداع، كالإبداع الفني ذاته. أضف إلى ذلك أن تطور التقنية خلق نوعا عميقا من العلاقة بين النتاج الاقتصادي والنتاج الفني يتمثل، على الأخص، في الشكل. فلقد أصبح الشكل قضية رئيسة في كل نتاج معاصر، بل أصبح قضية رئيسة حتى في الآلة نفسها. هكذا يبدو الاقتصاد شأنا اجتماعيا معقدا، يرتبط بالحياة الإنسانية، ككل، والإبداع في أساس الاقتصاد. وحين أشدد على الإبداع في الاقتصاد أشير إلى ما يؤكده علماء الاقتصاد المعاصرون وفي طليعتهم بعض الماركسيين، من أن القواعد، والوصفات والتعليمات، والحدود، تؤدي إلى خنق الحركية الاقتصادية، أي تؤدي بالتالي إلى كبح التقدم الاجتماعي. إذا كان ما تقدم صحيحا في الاقتصاد نفسه، فبالأحرى أن يكون أكثر صحة في الفن. ومعنى ذلك أنه لا يمكن أن نقيس النتاج الأدبي بمقاييس النتاج المادي، وأن المبادئ التي تحلل بها الظواهر العلمية هي غير التي تحلل بها الظواهر الأدبية.

    ( 4 )

    يبدو في ضوء ما تقدم، أن البحث في الحداثة الشعرية العربية آخذ في دفعنا باتجاه مأزق لا مخرج منه. وهذا صحيح، ظاهريا لكن هذا المأزق سرعان ما يتكشف عن الجادة، حين نعود بالبحث إلى مداره الصحيح. وينهض هذا المدار على جلاء ثلاث قضايا:
    القضية الأولى تتصل بإشكالية نشوء الحداثة في المجتمع العربي.
    والقضية الثاني تتصل بإشكالية التعارض: شرق/غرب.
    والقضية الثالثة تتصل بمعنى الحداثة الشعرية العربية، وبخصوصيتها.
    أما عن القضية الأولى، فلعلنا نعرف أن المحدث الشعري العربي نشأ كخروج على محاكاة النموذج القديم، أي نموذج النظم كما تمثله القصيدة الجاهلية، والذي سمي في المصطلح النقدي بـ: "عمود الشعر" ويتضمن هذا الخروج تمردا على معيارية ترسخت قيميا وفنيا، واتخذت طابعا اجتماعيا- ثقافيا، ذا بعد سلطوي. لكن هذا المحدث نشأ بفعل الضرورة التي فرضتها المرحلة التاريخية- الحضارية، وليس بمجرد الرغبة في معارضة القديم. فهذه المرحلة واجهت الشاعر بمشكلات وأسئلة لم تطرحها المرحلة الجاهلية. وهذا ما فرض عليه أن يعيد النظر في اللغة الشعرية الجاهلية، وطرق التعبير المألوفة، وأن يبتكر طريقته الخاصة، ويستخدم اللغة بشكل جديد.
    يمكن القول إذن إن الحداثة الشعرية العربية نشأت في مناخ أمرين مترابطين: إكتناه اللحظة الحضارية الناشئة، واستخدام اللغة- أي التعبير بطريقة جديدة يتيح تجسيدا حيا وفنيا لهذا الإكتناه.
    ونخلص من هذا إلى مبدأ أساسي هو أن الحديث لا يمكن أن ينشأ إلا بنوع من التعارض مع القديم، من جهة، وبنوع من التفاعل مع روافد من تراث شعب آخر. وهذا ما تنطق به الحضارة العربية، ككل. فهذا الذي نسميه الحضارة أو الثقافة العربية التي نضجت في العصر العباسي، إنما هي في أعمق أبعادها، جسد مغاير للجسد الثقافي الجاهلي. إنه مزيج تأليفي من الجاهلية والإسلام، تراثيا، ومن الآخر- الهند وفارس واليونان، تفاعليا- أي مما كان يشكل النتاج البشري الأكثر حضورا وفاعلية، بالإضافة إلى العناصر الأكثر قدما مما ترسب في الذاكرة التاريخية: سومر، وبابل، وآشور في صورها الآرامية- السريانية.
    وفي هذا أعطت الفاعلية الإبداعية العربية المثل النموذجي الأول: لا يمكن أن تقوم لشعب ما، ثقافة بذاتها ولذاتها، في معزل عن ثقافات الشعوب الأخرى. فثقافة كل شعب حضاري إنما هي تأثر وتأثير، أخذ وعطاء؛ حركة من التفاعل. وتكون الحضارة تأليفا من هذا التفاعل أو لا تكون. كذلك أعطت الفاعلية الإبداعية العربية المثل الآخر وهو أن شرط هذا التفاعل أن يتسم بالإبداعية والخصوصية في آن. وقد نقل العرب هذا المزيج التأليفي الإبداعي الخصوصي، في ذروته العليا، إلى الآخر- وهو هنا الغرب- عبر الأندلس.
    ما الحداثة، في هذا المستوى الذي عرضناه؟ إنها التغاير: الخروج من النمطية والرغبة الدائمة في خلق المغاير. والحداثة، في هذا المستوى، ليست ابتكارا غربيا. لقد عرفها الشعر العربي، منذ القرن الثامن، أي قبل بودلير ومالارميه ورامبو، بحوالي عشرة قرون. وهي، لذلك، ليست "مستوردة"، وليست "فطرا" وإنما هي ظاهرة أصيلة، عميقة في حركة الشعر العربي. ويمكن التأريخ للشعر العربي، بدءا من بشار بن برد، من زاوية الصراع أو "الجدل" بين "القديم" و "المحدث" (وهذان مصطلحان عربيان "قديمان")، وهذا هو، كما أرى، التأريخ الشعري الحقيقي الذي لم يكتب حتى الآن، ويشكل غيابه ظاهرة مهمة للدراسة.
    الحداثة، إذن ملازمة للقدم في كل مجتمع وفي كل مرحلة. ومن الطبيعي أن تختلف أبعادها وأشكالها من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى زمن. إن سياقها ودلالتها عند الشاعر الفرنسي، مثلا هما غيرهما عند الشاعر الإنكليزي أو السوفياتي أو الأميركي. كذلك لسياقها ودلالتها، عند الشاعر العربي خصوصية متميزة. لذلك لا تبحث الحداثة، في المطلق، كمفهوم مطلق. فالحداثة هي دائما حداثة شعر معين في شعب معين في أوضاع تاريخية معينة. والحديث في هذا الشعب ينشأ، بالضرورة، في بعض وجوهه، من القديم فيه. هذا صحيح وبدهي. لكن من الصحيح والبدهي أيضا أنه لا ينشأ إلا كشجرة تمتد غصونها في الاتجاهات كلها. "الأخذ" وحده، فطر لا يلبث أن يموت: لا جذور له، ذلك أنه ليس نتاج الذات، بل نتاج الآخر. لكن القديم إذا لم يتفجر، ويتوالد، ويتجاوز نفسه، لا يلبث هو كذلك أن يفقد نفسه الحي، ويتحجر وتصبح الذات في عزلة عن الآخر، أي تتحول إلى قبر.
    الحداثة، في هذا المنظور، هي الاختلاف في الائتلاف:
    الاختلاف من أجل القدرة على التكيف، وفقا للتغيرات الحضارية، ووفقا للتقدم.
    والائتلاف من أجل التأصل والمقاومة، والخصوصية. الاختلاط المفرط عن تراث اللغة التي يكتب بها الشاعر، هو الموت- أي هو التبخر كالدخان، بالقياس إلى نار هذه وجمرها. الائتلاف المفرط هو الموت أيضا- أي التخثر كالحجر.
    كأن الحداثة أن تخلق النظام فيما تمارس الفوضى. أو كأنها أن تجرح فيما تلأم.
    على هذا المستوى، تبدو الحداثة صراعا دائما. وهي تأخذ في المجتمع طابعا حادا أو هادئا، جذريا أو إصلاحيا، بحسب ظروف هذا المجتمع، وبحسب أوضاعه. ومن هنا تبدو الحداثة كأنها حركة إلى الأمام لا تنتهي في قديم يحاول أن يكون حركة إلى الوراء لا تنتهي.
    لكن يجب أن نلاحظ ونعترف أنه حدث خلل في هذا السياق التاريخي، بدءا من سقوط بغداد تحت سنابك هولاكو. ويتمثل هذا الخلل في قطعين كبيرين: الأول هو القطع العثماني، والثاني هو القطع الغربي. بالقطع العثماني انفصل العرب عن أفق الإبداع الحضاري، وبالقطع الغربي، انفصلوا عن هويتهم الحضارية، وإذا كان خطر القطع الأول يتمثل في تعميم الظلامية وترسيخها، فإن خطر القطع الثاني يتمثل في تعميم نور زائف.
    ومن هنا يبدو ما سميناه بـ"عصر النهضة" كأنه فراغ أو تجويف داخل التاريخ الثقافي العربي. وهو فراغ بوجهين: الوجه الأول هو فراغ القطع مع عناصر الحيوية والتقدم في الماضي العربي، والوجه الثاني هو فراغ القطع مع عناصر الحيوية والتقدم في الحاضر الغربي.
    من الناحية الأولى، ارتماء عشوائي في أحضان الحضارة الغربية. فقد اغترفنا منها معظم نظرياتنا الفلسفية والأدبية والثورية- وبخاصة أفكار القومية والعلمانية والاشتراكية والماركسية والشيوعية والرأسمالية. وغمرتنا هذه الحضارة، فوق ذلك، باقتصادها وأبعادها السياسية الاستعمارية. وبرز العلم بتطبيقاته الاستهلاكية على الأخص، يسيطر علميا على الحياة العربية. وهكذا نقلنا المنجزات ولم نأخذ الموقف العقلي الذي أدى إليها. ومن هنا بدأ المجتمع العربي، بشكل عام، كأنه عربة تتجرجر، مترنحة، في قطار الهيمنة الغربية.
    أما من الناحية الثانية فالتصاق جنيني بالماضي، لكن بمستوياته الأكثر تقليدية والأكثر ارتباطا بالنظام الذي ساد، والذي كانت القوى الحية في المجتمع العربي قد تجاوزته.
    وفوق ذلك، نظر إلى هذا الماضي كأنه حقيقة العرب وشخصيتهم وهويتهم، وكأنه الكامل المطلق. وهكذا أعيد إنتاج أشكاله وأفكاره، اجترارا وتكرارا.
    وفي هذا بدأ الإنسان العربي كأنه كائن غير تاريخي: ضائع بين استحداثية تستلب ذاتيته، واستسلافية تستلب إبداعيته وحضوره في الواقع الحي.
    من الناحية الأولى أخذ يتكلم على الواقع بلغة ليست منه، ومن الناحية الثانية أخذ ينظر إلى العالم نظرة غير تاريخية. وتتوج هذا الضياع بهشاشة البنية العربية التي كشف عنها الاستيطان الصهيوني ومصاحباته الاقتصادية والسياسية، وكشف عنها امتلاك لطاقة بترولية هائلة هو في جوهره تسول هائل. وهذا كله ولد هاوية مأساوية بين الواقع والممكن، وبين الفعل والقول، أدت في الممارسة إلى ما يشبه انهيارا عربيا شبه كامل: على صعيد الأنظمة، انحسار بشكل أو آخر أمام الهجوم الصهيوني أدى إلى ازدياد الهيمنة الإمبريالية على الحياة العربية،وعلى صعيد الشعب، خيبة مريرة ويأس يكاد أن يكون ساحقا.
    نخلص من ذلك إلى أن هذا الخلل لا يجوز أن يحجب عنا كون الحداثة إشكالية عربية قبل أن تكون غربية. فهي تعود إلى بداية القرن السابع، أي قبل حوالي تسعة قرون من نشوئها في الغرب. نضيف إلى ذلك أنها نشأت في الغرب بتأثير من مسأليتها في الحضارة العربية. إن استدعاء هذا الواقع التاريخي الذي يتناساه معظم الذين يتكلمون على الحداثة العربية، وبخاصة الشعرية، يتيح لنا أن نطرح مسألة الحداثة الشعرية العربية، بعيدا عن هيمنة الآراء والنظريات المشتقة من قضايا الحداثة الغربية، بحيث نقيمها استنادا إلى مقاييس مستمدة من إشكالية القديم والمحدث في التراث العربي نفسه.


    ( 5 )

    نأتي الآن إلى القضية الثانية، قضية التعارض: شرق/غرب.
    ففي الأصل لا "غرب" لا "شرق". في الأصل الإنسان، سائلا، باحثا. بدأ السؤال والبحث، وجودا ومصيرا، في حوض المتوسط الشرقي، ومن ضمنه سومر/بابل. ثم أصبحا نظاما فكريا، ومشروع أجوبة، متكاملة وشاملة في أثينا.
    من هذا الحوض كذلك، جاءت الرؤيا الدينية: اليهودية وبعدها المسيحية- مشروع أجوبة أخرى. وهيمن الجواب المسيحي، و "غزا" ما وراء المتوسط: "الغرب".
    ثم جاء الإسلام بأجوبته التي تحتضن ما تقدمها، وتكملها.
    أوروبا نفسها "تسمية" مشرقية- فينيقية: أي أنها "اكتشاف" أو "ابتكار" مشرقي، - (أليس اسمها هو نفسه اسم الإلهة الفينيقية" أوروب "كما تقول الأسطورة- أي كما يقول الخيال/الواقع؟).
    الانفصال إلى "شرق" و "غرب" في الشكل الراهن، معنى: صورته "التدين"، وأساسه التسيس- التعيش، أي "الاستعمار". ومنذ الحروب الصليبية، ثم الانفصال، وبدأ يأخذ شكله الإمبريالي- الرأسمالي مع توسعات "النهضة" الأوروبية.
    كان، في أثناء ذلك، يتم على المستوى الحضاري، انفصال آخر بين "العقل" و "القلب" اختارت أوروبا العقل، بل "ألهته"- ارتباطا بأثينا أرسطو. وبالغت في توحيده "فوصلت إلى التقنية.
    الإبداع، أساسا، ليس تقنية. ذلك أن التقنية تطبيق. إعادة إنتاج فهي لا تحقق شيئا إلا بتحويل مادة معطاة، وإلا استنادا إلى مخطط- نموذج التقنية مشروطة بالنموذج، الموجود، أوليا، قبل التطبيق. الإبداع هو التحقيق دون نموذج. الإبداع نموذج ذاته. وفي حين تستند التقنية إلى شيئا إلا بتحويل مادة معطاة، وإلا استنادا إلى مخطط- نموذج التقنية مشروطة بالنموذج الموجود، أوليا، قبل التطبيق.
    الإبداع هو التحقيق دون نموذج. الإبداع نموذج ذاته. وفي حين تستند التقنية إلى تحليل الواقع، وتجزئته، أي الفصل بين النموذج والواقع، فإن الإبداع يفترض، أوليا، عدم الفصل بين النموذج والواقع، المادة والشكل.
    التقنية "تقدم" في إعادة إنتاج النموذج. الإبداع ليس تقدما تقنيا أو نموذجيا، إنه انبثاق- اكتشاف للأصل لا نهاية له.
    إبداعيا، أعني على مستوى الحضارة بمعناها الأكثر عمقا وإنسانية ليس في الغرب "شيء" لم يأخذه من الشرق. الدين، الفلسفة، الشعر (الفن، بعامة) "شرقية كلها. ويمكنكم أن تستأنسوا بأسماء المبدعين في هذه الحقول، بدءا من دانتي حتى اليوم.
    فخصوصية "الغرب" هي التقنية، لا الإبداع. لذلك يمكن القول إن الغرب، حضاريا، هو ابن للشرق. لكنه، تقنيا، "لقيط": انحراف- استغلال، هيمنة، استعمار، إمبريالية، إنه، في دلالة أخرى، تمرد على الأب. وهو الآن لم يعد يكتفي بمجرد التمرد، وإنما يريد أن يقتل الأب.
    لا وسيط في الإبداع، بين العدم والاسم. أن تولد وأن تسمي فعل واحد. الإبداع كلمة/ فعل، فعل/ كلمة. إنه سديم يتمرأى، يتصور ذاته. إنه تأسيس على الهاوية- أي انخراط بدئي في قوى الكون الحية. أمام "الفكر الغربي "يأخذك" النظام"، "النسق"، "المنهج" أمام "الفكر الشرقي"، تشعر، على العكس، أنك في حضرة الهاوية، حضرة السديم. الخلاق المشرقي هو نفسه سديم. لذلك تشعر، إزاءه، كأنك مأخوذ بالرعب.
    هكذا يرسي "الفكر الغربي" الواقع في أفق المادة، ويرسيه "الفكر الشرقي" في أفق الوحي، أي أفق اللغة- الخيال.
    يحاول الأول أن ينظم المحدود، ويحاول الثاني أن يحدد ما لا يمكن تحديده، وأن يقبض على ما يتعذر القبض عليه- على ما يظل مبدأ وأصلا.
    لهذا كانت الإبداعات الكبرى في الغرب، سواء كانت دينية أو فنية أو فلسفية. تجاوزا للتقنية، أي "شرقية" الينابيع. إنها نوع من شرقنة الغرب.
    في الراهن تاريخيا، يستسلم الفكر الغربي لشيطان التقنية. أما "الفكر الشرقي" العربي- الإسلامي) فإنه يستسلم لشيطان الاستبداد، تقليدا أو نظاما. كلاهما في حالة "استقالة" - استقالة من سؤال الوجود والمصير. استقالة من "المبدأ و "الأصل" وانخراط في الآلة وأشيائها.
    لكن، هناك يقظة ما في الغرب: أعظم ما في الفكر الغربي، اليوم هو تفكيك" الغرب" وهيدغر هو المفكك الأعظم. لهذا أصف هيدغر بأنه "غربي" "الولادة" شرقي الأصل و "التكّون".
    استمرار الانحطاط في "الفكر الشرقي" "(العربي- الإسلامي) عائد إلى أنه ليس إلا إسقاطا تقنيا- أي إلى أنه ليس إلا سقوطا. وهذا السقوط يتزايد بقدر ما تتزايد الهيمنة التقنية (الإمبريالية) - "الغربية". يبدأ هذا الفكر بتفكيك ذاته، أو لا يكون أبدا.
    في الأصل، لا "غرب" لا "شرق".
    في الوقع الراهن: "الغرب" هو الشكل وحشيا، يبحث عن لطافة المعنى. أما "الشرق فهو المعنى وحشيا، يبحث عن لطافة الشكل.
    وجهان لمشكلة واحدة.
    أخوان يبحثان.

    ( 6
                  

العنوان الكاتب Date
بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث bayan10-31-03, 11:48 AM
  Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث bayan10-31-03, 11:52 AM
    Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث bayan10-31-03, 12:00 PM
      Re: بيانات ومحطات الشعر العربى الحديث ادونيس bayan10-31-03, 12:01 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de