|
الضحك فى بيت البكا
|
مقال صحفى لدكتور فتح العليم عبد الله
لفت انتباهي قبل ثلاثة اسابيع من اليوم. وفي منزل ضخم واسع بوسط محافظة الخرطوم، حيث ذهبنا لتعزية صديق في والده، لفت انتباهي مرور امرأتين في حالة بكاء وعويل وهما تدوران حول المبنى الداخلي. وبالتفرس في وجهيهما وسحنتهما، أيقنت انهما ليستا من اقارب المرحوم ولا حتى من معارفه. ولما اشتد بي «الشمار» سألت احد اقارب المرحوم من الشباب عنهما، فقال لي: ديل يا عمو بكايات، يعني ببكو بالقروش المستطيع يستأجرهما طوال ايام المأتم. والعاجز يكتفي باليوم الاول فقط «لاحظ العاجز دي». عزيزي القارئ بالمناسبة هذه العادة ليست جديدة، بل ظهرت عند العرب منذ الجاهلية. وانتشرت في العهد العباسي، حيث ظهرت طبقة من المسحوقين لاداء كافة انواع الخدمات للبلاط الاميري مقابل المال. وقد رثى احد الشعراء ابن احد امراء المؤمنين بأبيات ركيكة هزيلة. ولما مات ابن الشاعر قال فيه ابوه من الرثاء ما يجعل المآقي تنزف دماً. ولما سئل عن هذا الفرق بين الشعرين قال قولته المشهورة التي صارت مثلاً سار به الركبان وهو: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة. تحضر النائحة إلى منزل العزاء وتطلب الـ C.V اي السيرة الذاتية للميت من زوجته او ابنته الكبرى. العمر: 70 عاماً. المهنة: ضابط معاشي وله وكالة سفر وسياحة. المستوى التعليمي: دبلوم الحربية زائداً بعض الكورسات في الترجمة والحاسوب. اسماء أكبر الابناء والبنات: فيصل، رابحة، وعواطف. هل قام باي عمل بطولي؟ نعم محاولة انقلابية فشلت في فترة الرئيس نميري. تأخذ النائحة المعلومات وتعقد اجتماعا عاجلا لزميلاتها. وبعد التداول يخرجن للملأ وهن يرددن: الليلة يا أب دقناً دايرة وخدوداً نايرة وقدرةً فايرة. وشيكاتاً طايرة.. كِتلنا فيك.. الليلة يا أبو احلام يا الشالوك للصالح العام وحكموا عليك بالاعدام مو دايم الا الله. الليلة يا السايق الكراون يا اب سلاحاًَ هاون- وينك لينا؟ وهنا يعج البيت ويفور بالعويل والنواح. وتميل النائحة يساراً ثم تنحني ضاغطة بيدها اليسرى على انفها حتى ينقطع حبل «البوستك» الذي تدلى، ثم تنظر الى ابنته الكبرى نظرة فحواها: لقيتيني كيف؟ او.. ده الشغل. الليلة يا الساكن ديم لطفي أب كلمة تشفي الما متزوج عرفي- زايلة وخربانة. البجيك بتجيروا والوقع بتشيلو يا السايق الباجيرو- مو دار عمار. فقدتك السكرتيرة والطربيزة المستديرة والمارسيدس الخنزيرة- خليتنا لمنو؟ لاحظ ان العربة قبل دقائق كانت كراون!! بعد هذه الجلبة والهرج تذهب النائحات الى غرفة قصية ثم يؤتي لهن بالثريد والادام والزواحف والبارد والساخن. وعند الانتهاء من هذه المأدبة تنقد البنت الكبرى النائحات مبلغ 300.000 جنيه. وتقول لهن همساً: ضروري حضوركن بكرة المغرب عشان ناس السعودية والبلد جايين.. كويس؟ واذا كانت البنت الكبرى طبيبة والوسطى مهندسة مدنية، فمن الذي يقدم هذا الادب الحزين بهذا العرض الجذاب؟ المناحة والسجع وذكر المآثر صار مثل عواسة الآبري او عجن الدلكة، لا تجيده الا العجائز من النساء، لذلك دخل بعض النساء هذا السوق ووجدن ربحاً وسمعة طيبة. وفي هذا الزمن صار الناس يأتون بدادة للطفل.. وجليس للشيخ المسن ومعلمة للعروس ومقلم للاظافر وحانوتي للدفن ومدرس خصوصي للبنت الطالبة.. وهذه المتوالية ماضية بصورة مخيفة جداً.. ويمكن للقارئ أن يتخيل نوع الاستئجار بعد عشر سنوات.. فظيع مش؟! دخل صديقي أسامة لخيمة عزاء ووجد الناس مشغولين بالقرقرة والونسة والرهائن في الفلوجا، فرفع الفاتحة أمام مجموعة، فلم يحفل به أحد. ورفعها امام اخرى ولم يجد استجابة، فقال له احد الظرفاء يا ابني هنا مش لو رفعت فاتحة. والله ترفع كورنر زول بشتغل بيك ما في.
|
|
|
|
|
|
|
|
|