كمال الجزولى:بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 11:10 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-08-2004, 03:57 PM

elsharief
<aelsharief
تاريخ التسجيل: 02-05-2003
مجموع المشاركات: 6709

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كمال الجزولى:بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب





    كُلُّ عامٍ والسُّودانُ بِخَيْر (1)

    بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب

    (مُلاحَظاتٌ أَوَّليَّة عن دَوْرِ المَجْموعاتِ المَسِيحِيَّةِ فى دَعْمِ السَّلام)

    كمال الجزولى
    [email protected]

    (1)

    عدت من إجازة طويلة ، لأجد على طاولتى عدداً من الدعوات للمشاركة فى مؤتمرات وندوات وورش عمل جُلها عن السلام وحقوق الانسان وهموم المهمَّشين وقضايا المرأة ، والارتباط واضح ، بالطبع ، والسبب مفهوم. وسأحاول هنا إشراك القراء فى ما عنَّ لى الاسهام به من خلال هذه الفعاليات ، علَّ ذلك يلقى شيئاً من الضوء على بعض جوانبها المرموقة ، ويوسع من دائرة الحوار حول موضوعاتها ذات الأهمية الاستثنائية. وأبدأ بورشة (المنتدى المدنى القومى) التى انعقدت بالنادى العائلى بالخرطوم خلال يومى 22 ـ 23 ديسمبر المنصرم ، تحت عنوان: (تحديات السلام فى السودان) ، حيث دُعيت لابتدار مناقشة الورقة التى تفضل بها الأب فليوس ساوث فرج ، كاهن كنيسة الشهيدين بالخرطوم ، عن (دور المجموعات الدينية المسيحية فى دعم وترسيخ السلام). وفى هذا الاطار:

    أولاً: أستميح الأب المحترم عفواً كى ألاحظ ، ابتداءً ، أن ما قدمه تحت هذا العنوان لم يكن (ورقة) ، فى المعنى المتعارف عليه ، بل (موعظة) كنسية مطوَّلة. ولكننى أسارع ، درءاً لأى التباس أو سوء تفاهم غير مرغوب فيه ، للتأكيد على أنه ليس من مقاصد هذه الملاحظة الأولية ، بأيَّة حال ، القدح فى قيمة الموعظة نفسها. فمما لا شك فيه أن الحاضرين جميعاً قد ارتووا من فيض حكمتها ، وغناها الروحى ، وما حفلت به من كريم المعانى وجليل الاستشهادات من الكتاب المقدس. بل إنها قد أكدت لكل من تمعَّن ، متسامياً فوق شح النفس وعصبياتها الضيقة ، على التقارب ، حد التطابق أحياناً ، بين مختلف الأديان فى ما يتصل بمنظومة قيم (السلام) وما إليها من فضائل. فالمسلم ، مثلاً ، لا بد يلاحظ المعنى المشترك بين تذكير الأب المحترم بأن "الله هو إله السلام .. منه السلام وإليه السلام وبه السلام" ، وبين تسمية الحق عز وجل لنفسه "بالسلام" فى الآية الثالثة والعشرين من سورة الحشر: "هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن" إلى آخر الآية الكريمة. كما ولا بد أن يجد نسباً روحياً وثيقاً بين اقتران (السلام) و(العمل الصالح) و(العدالة الاجتماعية) فى هذه الموعظة ، بتأكيدها على فضيلة ".. ألا يجوع واحد فينا بينما الآخر يتخم من الشبع .. ولا ينام أحدنا وهو جائع أو مظلوم" ، وبين الحديث الشريف: "ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع" ، أو قول عمر بن الخطاب (رض): "ولانا الله على الأمة لنسد لهم جوعتهم ، ونوفر لهم حرفتهم، فإن أعجزنا ذلك اعتزلناهم". وكذلك بين بشارة الكتاب المقدس التى استشهدت بها الموعظة: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" ، وبين قوله تعالى فى الآية الخامسة من سورة القصص: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين". ولئن شدَّدت الموعظة عموماً على أن "سلامنا الذى نرجوه يعطى سعادة كاملة ، والسعادة الكاملة هى فى فى عدالة التوزيع وفى الرضى" ، فإن التعاليم القرآنية تشدِّد أيضاً على أن (العدالة الاجتماعية) تشكل أحد أهم مقاصدها الكلية ، حيث جعل الله (الانفاق) ، كوسيلة لإعادة توزيع الثروة ، من مطلوبات (التقوى) ، بل وساوى بين هذا (الانفاق) وبين (الإيمان) و(الصلاة) فى الآيتين الثانية والثالثة من سورة البقرة: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"، كما جعل الله (الانفاق) من أهم وجوه فعل (الخير) التى يجزى عنها بقوله فى الآية 215 من نفس السورة: "يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلون من خير فإن الله به عليم". وطابق سبحانه ، عموماً ، بين مفهوم (الخير) القرآنى ، وبين المفهوم القرآنى (للعمل الصالح) فى الآية السادسة والأربعين من سورة الكهف: "والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً" ، وفى تفسير القرطبى عن ابن عباس أن (الباقيات الصالحات) هى كل (عمل صالح) من قول أو فعل.

    وإذن فإن (السلام) ، ببعده الناشب فى أعمق قيم (الخير) و(العمل الصالح) و(العدالة الاجتماعية) ، هو موئل الأديان ، والجوهر المشترك بين رسالاتها وأهدافها ، كما قد رأينا فى الاسلام والمسيحية على السواء.

    ثانياً: لن يصرفنى عن التركيز على هذا المعنى الكبير ضلوع شرائح من المنتمين إلى الاسلام والمسيحية ، فى السودان وغيره ، فى ممارسات ومواقف سياسية وفكرية تصادم عملياً كل هذه القيم والمعانى الجليلة ، وتنطوى على تزوير فظ لجوهر (الأديان) وغاياتها ومقاصدها النبيلة. إن (الدين) من ضرورات الحياة ، على أن التفريق واجب ، فى كل الأديان ، بين ما هو (دين) خالص مقدس ، وما هو (تديُّن) قد تخالطه ، فى الكسب البشرىِّ ، أهواء النفس الأمَّارة بالسوء ، فلا بُدَّ ، إذن ، من التمييز جيداً بين بشارات (الأتقياء) وبين دعاوى (الأنبياء الكذبة). كما لن يصرفنى أيضاً عن هذا المعنى الكبير الذى أوحت به تعاليم السيد المسيح المنثورة فى هذه الموعظة الحسنة ما وجدته فيها ، من الناحية الأخرى ، من مسائل أستأذن القس الموقر فى الاختلاف معه حولها ، مكتفياً بالاشارة هنا إلى بعضها ، وقد أعود لتناولها باستفاضة فى مناسبة أخرى:

    أ/ من ذلك ، مثلاً ، دعوته الجهيرة إلى ".. نسيان الماضى بكل مراراته". فليس المطلوب ، فى رأيى المتواضع ، (نسيان) الجراح ، بل (مداواتها). على أن ثمة أشراطاً لا غنى عنها أسقطتها الموعظة ، للأسف ، بينما يمكننا التماسها لدى الأب الجنوب أفريقى ديزموند توتو ، فى ما كان قد أسهم به ، استلهاماً لروح المسيحية ، من اجتراح لمعالجة جراح التعانف المتطاول فى ذلك البلد بأسلوب (الحقيقة والمصالحة). إن الشرط الأساسى لتطبيق هذا الأسلوب هو حصول الضحايا على اعتراف صريح ، مستقيم وكامل ، مقروناً باعتذار علنى من جلاديهم ، فى ما يشبه طقس (التطهُّر الكنسى) ، فتنفتح الابواب ، بعد ذلك وليس قبله ، لاحتمالات العفو ، حين تطيب النفوس المكدودة ، ويسكن الألم الشخصى ، ولا تتبقى سوى الموعظة التاريخية كضمانة معنوية كبيرة لعدم تكرار مثل تلك الممارسات مستقبلاً. أما من يرفض ذلك فلن يعود أمامه سوى طرق أبواب المحاكم ، فى دولة يفترض أنها تحترم القضاء المستقل ، كى ينهض حكم القسط على ساقيه وتأخذ العدالة مجراها. وبدون إحدى هاتين الوسيلتين فإن المجال لن ينفسح ، للأسف ، سوى للانتقام الشخصى وأخذ القانون باليد. ولنا ، فى هذه الحالة ، أن نتصوَّر حجم الفوضى التى ستعم ، والخراب الذى سيستشرى.

    ب/ كما أختلف مع الأب المحترم فيليوس ، من بعد إذنه أيضاً ، فى استقباحه لاستخدام تعبير (العدو الاسرائيلى) فى الخطاب السياسى والاعلامى ، مما يعده مفارقاً لروح (السلام) ، وإن يكن ذلك خارج السياق المفترض لعنوان (الورقة). (فالسلام) فى الشرق الأوسط لا يتأسس على (الوهم) ، وإنما على (الواقع) ، ولذا فإن للمرء أن يتساءل: إذا لم يكن ما تفعله إسرائيل بالشعب الفلسطينى (واقعاً) فى مقام (العداء) فماذا يسمى إذن؟!

    إن (للسلام) الحقيقى والمستدام أشراطه واستحقاقاته الموضوعية ، والتى بغيرها لا يكون حقيقاً ولا مستداماً ، وهى أبعد ما تكون عن مجرد (التسليم) المجانى بالأمر الواقع. فجراحات الوطن لن تندمل بغير الاعتراف والاعتذار العلنيين ، أو اتخاذ الاجراءات الكفيلة بنصب ميزان العدالة ، مثلما أن (السلام) فى المنطقة لن تقوم له قائمة بدون حصول الفلسطينيين على حقوقهم الوطنية كاملة ، بما فيها حق لاجئيهم فى العودة.

    وكما سلف التنويه فقد نعود لتفصيل المناقشة حول هذه الاختلافات فى مناسبة أخرى , أما ما نحن بصدده هنا ، كما يفهم من العنوان المفترض للورقة ، فهو (دور المجموعات المسيحية السودانية فى دعم وترسيخ السلام) ، وهو ما أخشى أن موعظة الأب فيليوس ما تزال بعيدة عنه كل البعد ، مما يصعِّب من مهمتى ، حيث يتوجب على ، لا الاكتفاء بإيراد هذه الملاحظة فحسب ، وإنما الذهاب إلى أبعد من ذلك بإضاءة بعض ما أغفلته (الورقة) على قيمتها الوعظية العالية.



    (2)

    (2/1) لدى الحديث عن (المجموعات المسيحية) قد ينصرف الذهن ، من جهة ، إلى الطوائف المسيحية الثلاث: الكاثوليكية ، وهى الأعرق ، وصاحبة الكنيسة الأقدم ، بالاضافة إلى البروتستانتية أو الانجيليكانية ، ثم القبطية الأرثوذكسية. ولثلاثتها وجود فى الشمال والوسط وجبال النوبة ، علاوة على تمركز الثقل الأساسى للكاثوليكية فى الجنوب. وقد ينصرف الذهن، من جهة أخرى ، إلى كيانات ومؤسسات النشاط الاجتماعى للمسيحيين فى الوقت الراهن: كالنادى القبطى والمكتبة القبطية وجمعيات أصدقاء الكتاب المقدس وما إلى ذلك.

    (2/2) على أنه ، وبرغم كل ما يمكن رصده من اختلافات وخصائص مائزة لهذه الطوائف والكيانات بين بعضها البعض ، أو بينها وبين طوائف وكيانات المسلمين ، وعلى الرغم من كل ما كتب وقيل ، وما قد يكتب ويقال ، عن أدوار سياسية سالبة لبعض المبشرين الأجانب ، وأشهرهم تاريخياً سلاطين وأهولدر ، أو عن مرارات رتبتها على صعيد علاقات المسلمين والمسيحيين فى السودان استراتيجيات الادارة الاستعمارية (1898م ـ 1955م) ، أو أخطاء الحكم الوطنى فى ظل دولة الخليفة (1885م ـ 1898م) ، أو فى ظل الدولة الحديثة خلال مرحلة ما بعد الاستقلال السياسى منذ 1956م ، فإن أهم ما يهمنا هنا ، ليس اجترار الجوانب السالبة فى الذاكرة التاريخية لهذه العلاقات ، على أهمية استبصار ذلك لأغراض حسن الاعتبار ، وإنما التأكيد على وإبراز الجوانب الايجابية مما يفترض إعادة البناء الوطنى عليه ، استشرافاً لمستقبل مأمول من التعايش والتساكن على قيم ومبادئ السلام والمساواة والمواطنة والمشاركة والديموقراطية والحريات وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية. وإذا كانت الوحدة هى الاطار الذى يفترض أن تشتغل فى فضائه كل هذه القيم والمبادئ ، فإن أحوج ما نحتاجه الآن هو نفض الغبار عما هو (مشترك) أو داعم لعناصر هذه الوحدة فى الوعى الاجتماعى ، بما فى ذلك العقل الباطن الجمعى. ذلك أننا ، وبرغم إكثارنا من الحديث عن (الوحدة فى التنوع) و(التنوع فى الوحدة) ، نتحمل المسئولية كاملة ، وبخاصة الجماعة المستعربة المسلمة منا ضمن منظومة تعددنا السودانى ، عن (تمكين) التيار (السلطوى) وسط هذه الجماعة ، والذى ما يزال يستعلى بالدين والثقافة واللغة والعرق ، وما ينفك ينبش عن (الفروقات) ، لا بغرض الوعى المشروع (بالتميز الثقافى) ، كقيمة فى حد ذاته ، بل ، للأسف ، بغرض دعم النزعة (الاستعلائية الحربية) وما تستتبعه من ردود أفعال سالبة ، تتراوح عنفاً بين العلوِّ والخفوت ، من أول اللواذ بالبندقية إلى آخر الانكماش والتراجع والانسحاب من الحياة السياسية والاجتماعية ، بل ومن الوطن نفسه ، مما ظللنا نشهد فى عقابيل صدور قوانين سبتمبر عام 1983م ، ثم ، بالأخص ، عقب انقلاب الجبهة الاسلامية القومية فى يونيو عام 1983م ، وذلك ضمن موجات متلاطمة من هجرة الدياسبورا إلى صقيع المنافى الاختيارية!

    (2/3) وفى سبيل الاضاءة المطلوبة بإلحاح ، فى الوقت الراهن ، لكل ما من شأنه أن (يجمع)، لا أن (يفرق) ، وأن يدفع (بالجماعات المسيحية) ، على وجه التخصيص ، لانتزاع حقها ، إن لم نقل استعادة دورها ، فى المبادأة والفعل الاجتماعى والسياسى الايجابى لترسيخ (السلام) ، يمكننا ، علاوة على ما لمحنا أعلاه من توافق بين الكثير من القيم والمبادئ المشتركة فى الاسلام والمسيحية ، أن نمهد أيضاً لمداخل مرغوب فيها الآن ، أكثر من أى وقت مضى ، على طريق إعادة الاعتبار لحقائق فى الثقافة والاجتماع فى بلادنا نحاول مقاربتها ، فى ما يلى ، تأسيساً على فرضية تؤكد أن الجماعات المسيحية ظلت تلعب دوراً مهماً لا غنى عنه ، وريادياً أحياناً ، فى ترسيخ (السلام) ودعم (الوحدة) ، وأن التسامح والتثاقف الطبيعيَّين ظلا يشكلان دائماً عنصرَى غلبة فى علاقات المسلمين والمسيحيين ، الأمر الذى يجدر تسليط حزم كثيفة من الضوء عليه ، رغم الضجيج العالى للعوامل السالبة ، كونه الأبقى والأرسخ والأكثر وثوقاً فى تشكيل بنية الوعى الاجتماعى ، والأكبر تأثيراً ، من ثمَّ ، على نسيج (السلام) المستدام و(الوحدة الوطنية) المأمولة ، وأنه لا مآل بدون ذلك ، فى رأينا المتواضع ، غير الاستسلام لسحائب من اليأس المتراكم ، بعضها فوق بعض ، كقطع الليل البهيم.

    (نواصل)










                  

01-15-2004, 01:58 PM

elsharief
<aelsharief
تاريخ التسجيل: 02-05-2003
مجموع المشاركات: 6709

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كمال الجزولى:بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب (Re: elsharief)



    كُلُّ عامٍ والسُّودانُ بِخَيْر (2)

    بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب

    (مُلاحَظاتٌ أَوَّليَّة عن دَوْرِ المَجْموعاتِ المَسِيحِيَّةِ فى دَعْمِ السَّلام)



    كمال الجزولى


    (1)

    لاحظنا ، فى الحلقة الماضية ، بعض وجوه التقارب بين الاسلام والمسيحية فى ما يتصل بمنظومة قيم (السلام) و(العمل الصالح) و(العدالة الاجتماعية). وقلنا إنه برغم الخصائص المائزة لهذه أو تلك من الطوائف والكيانات المسيحية السودانية ، أو بينها وبين طوائف وكيانات المسلمين ، وبرغم المرارات التى رتبتها على هذا الصعيد استراتيجيات الادارة الاستعمارية أو أخطاء الحكم الوطنى ، فإن ما يهمنا هنا ، ليس اجترار السالب فى الذاكرة التاريخية ، على أهمية الاعتبار بذلك ، وإنما إبراز الايجابى ، استشرافاً لتساكن مأمول على قيم السلام والمساواة والمواطنة والمشاركة والديموقراطية والحريات وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية. ولئن كانت (الوحدة) هى الاطار الذى يفترض أن تشتغل فى فضائه كل هذه القيم، فإن ما نحتاجه الآن هو نفض الغبار عن (المشترك) و(الداعم) لعناصر هذه الوحدة فى الوعى الاجتماعى ، بما فى ذلك العقل الباطن الجمعى. ذلك أننا ، وبرغم إكثارنا من الحديث عن (الوحدة فى التنوع) ، نتحمل المسئولية كاملة ، وبخاصة الجماعة المستعربة المسلمة منا ، عن (تمكين) التيار (السلطوى) المستعلى بالدين والثقافة واللغة والعرق ، والنابش عن (الفروقات)، لا بغرض الوعى المشروع (بالتميز الثقافى) ، بل لدعم النزعة (الاستعلائية الحربية) وما تستتبعه من ردود أفعال. وشدَّدنا على أنه ، وفى سبيل إعلاء ما (يجمع) ، لا ما (يفرق) ، وما يدفع (بالمجموعات المسيحية) لانتزاع حقها ، إن لم نقل استعادة دورها ، فى المبادأة والفعل الاجتماعى والسياسى الايجابى لترسيخ (السلام) ، لا بد لنا من مقاربة حقائق الثقافة والاجتماع فى بلادنا إنطلاقاً من فرضية تؤكد أن الجماعات المسيحية ظلت تلعب دوراً مهماً ، بل وريادياً أحياناً ، فى ترسيخ (السلام) ودعم (الوحدة) ، وأن التسامح والتثاقف الطبيعيَّين ظلا يشكلان دائماً عنصرَى غلبة فى علاقات المسلمين والمسيحيين ، مما يجدر تسليط الضوء عليه كونه الأكثر وثوقاً فى تشكيل بنية الوعى الاجتماعى ، والأعمق تأثيراً ، من ثمَّ ، على نسيج (السلام) المستدام و(الوحدة الوطنية) المأمولة ، وأنه لا مآل بدون ذلك غير الاستسلام للقنوط واليأس. وفى ما يلى نواصل:



    (2)

    نعرض ، فى هذا السياق ، لثلاث من هذه الحقائق الثقافية والاجتماعية على النحو الآتى:

    الحقيقة الأولى: تتمثل فى خيط الأثر المسيحى الذى ما زال ينساب ، برغم زوال الممالك المسيحية قبل قرون طوال ، متخللاً قماشة الثقافات السودنية حتى يوم الناس هذا ، بما فيها الثقافة العربية الاسلامية السائدة فى أجزاء واسعة من البلاد:

    (1) كنا أشرنا فى سلسلة مقالات سلفت (الرأى العام ، ديسمبر 2002م ـ يناير 2003م) إلى (حركات النبى عيسى) باعتبارها إرهاصاً باكراً بمقاومة السودانيين للمستعمر منذ مطالع القرن الماضى ، وبشحنة أيديولوجية شكلت ، بكل المعايير ، امتداداً طبيعياً للأيديولوجية المهدوية فى ظل المتغيرات الجديدة بعد هزيمة كررى فى خواتيم القرن التاسع عشر. كما أشرنا أيضاً إلى قوة ذلك الأثر الروحى فى رموزية التوافق الذى ما يزال (الأنصار) يجدونه ، حتى يوم الناس هذا ، بين ذكرى ميلاد إمامهم السيد الصادق المهدى وذكرى ميلاد السيد المسيح (25 ديسمبر).

    (2) وكان الأب الدكتور جيوفانى فانتينى١ قد أحاط ، قبل ذلك ، بالكثير من تمظهرات هذا الأثر المسيحى على الثقافات السودانية ، بما فيها ثقافة المستعربين المسلمين ، فى كتابه المعروف (تاريخ المسيحية فى الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث ، الخرطوم 1978م ، ص ص 200 ـ 207) ، ونورد فى ما يلى بعض ما وثق له من نماذج هذه التمظهرات ، ولمن يروم استفاضة مراجعة المصدر المذكور:

    أ/ يحرص سكان أغلب المناطق النيلية بين وادى حلفا والخرطوم على ممارسة طقس أربعين المولود الجديد ، حيث تحمله الأم إلى النهر عشية أربعين الولادة ، ترافقها زفة من النساء يغنين ويزغردن ويلوحن بأغصان النخيل. وهناك تغسل وجهها ويديها ورجليها ثم تفعل الشئ نفسه للوليد. ولهذه الممارسة أصل فى ما يعرف عند المسيحيين بعماد الطفل بالغطاس ، وفى تقليد أربعين الولادة كما رسمه (سفر اللاويين) ، وما يزال متبعاً فى بعض الكنائس الشرقية بمصر وأثيوبيا ، وربما أدمجت فيه طقوس مسيحية أخرى كطقس (دخول الوالدة إلى الكنيسة).

    ب/ شبيه بهذا أيضاً طقس (ماريا) المتبع ، بعد الولادة بيومين أو ثلاثة ، فى بعض قرى النوبيين (الحلفاويين والسكوت والمحس والدناقلة) ، حيث تحمل القابلة الوليد فى زفة مماثلة ، وتحمل امرأة أخرى طبقاً مصنوعاً من الأعشاب توضع فيه أدوات التوليد ونفايات البيت وقرص من الخبز ، ويرمى هذا الطبق بمحتوياته فى النهر. ثم بعد الفراغ من عملية غسل وجه ويدى ورجلى الوليد ، أو تغطيسه فى الماء مع ترديد عبارة "أغطسك غطاس حنا" ، تبركاً بيوحنا المعمدان ، تعود الزفة بشئ من ماء النهر ليحفظ فى البيت بضعة أيام قبل دلقه. وأصل هذا التقليد فى طقس رتبة المعمودية وفى نقل المسيحيين بعض الماء المبارك لحفظه فى البيوت.

    ج/ ويُضحَّى فى مثل هذه المناسبة بذبيح لا يكسر منه عظم. كما يطبع على جدار البيت رسم كف مغموسة فى دم الضحية. ويرى الأب فانتينى فى هذا الطقس أثراً من ذبح الحمل الفصحى عشية الفصح المجيد كما ورد فى العهد القديم. ونرى فيه أثر الذبح عقب صلاة عيد الأضحى المبارك عند المسلمين ، مع بعض التحوير. ونضيف ، أياً كان الأمر ، أن (كف الدم) هذه ما تزال تطبع طلباً للبركة ، وأكثر ذلك على العقارت والسيارات المشتراة حديثاً.

    د/ وفى بعض قرى الشمال يستدعون طفلاً حسن الأخلاق ، ويجعلونه يمضغ بعض التمر قبل أن يطلبوا إليه مس شفتى الوليد بلسانه ، أملاً فى أن تنتقل إليه الأخلاق الحميدة مع حلاوة البلح. وفى هذا أيضاً أثر من التقليد الكنسى الذى يطلب بموجبه عراب (أشبين) لمعمودية الطفل يضمن له تربية مسيحية حال وفاة والديه أو غيابهما.

    هـ/ وفى حالات تعسر الولادة فى بعض قرى النوبيين ترفع النساء أصواتهن ابتهالاً ، باللغة النوبية ، لماريا (السيدة العذراء) كى تساعد الأم.

    و/ وقد لفت السيد أبراهيم أحمد الانظار إلى أن الأطباق التى يزين بها النوبيون واجهات منازلهم لإبعاد (العين الشريرة) تشكل إشارة الصليب (السـودان فى رسـائل ومدونات ، 1938 ـ ضمن المصدر).

    ز/ وفى بعض مناطق جبال النوبا ودارفور يرسم أهل المصاب بمرض خطير إشارة الصليب بزبل البقر على صدره. وإذا ذهبت أم بطفلها إلى مكان لم يزره من قبل ، ترسم على جبينها وعلى جبين الطفل إشارة الصليب ، ويسمونه (برشام) فى بعض لغات الفور (السودان فى رسائل ومدونات ، 1928م ـ ضمن المصدر).

    ح/ ويشمل احتفال الزفاف عند بعض الفور ذبح بهيمة ، وقيام شيخ القرية برسم إشارة الصليب بدمها ، أو ببعض الدهن ، على جبينى العروسين ، فى طقس أشبه (بحفلة الاكليل) عند المسيحيين. ويعاد هذا الطقس على العروسين عندما يرزقان بطفل.

    ط/ وفى اليوم السابع للولادة ، عند بعض الفور أيضاً ، ترسم إشارة الصليب بالكحل على جبين الوليد. واستطراداً فإن سودانيين كثر ، بما فيهم مستعربون مسلمون ، اعتادوا ، دون أن يستشعروا أدنى تعارض بين معتقداتهم الدينية وبين هذه الترميزات الثقافية ، أن يعلقوا تميمة (المشاهرة) ، والتى يشكل الصليب أحد مكوِّناتها الأساسيَّة ، على الحائط مباشرة فوق رأس الأم النفساء طوال مدة رقادها.

    ى/ وتمارس بعض قبائل جنوب النيل الأزرق طقس رسم إشارة الصليب بفحم الحطب على جبين الوليد ، وبالتراب على صدور الفتيان المرضى أو المصابين بالاعياء.

    الحقيقة الثانية: تتمثل فى البعد الاجتماعى والانسانى لأنشطة الطوائف المسيحية الثلاث. وإذا كان مما تشتمل عليه ترتيبات السلام القادم حق التبشير الدينى بالطرق السلمية ، فإن هذه الملاحظة التاريخية تكتسى أهمية خاصة على النحو الآتى:

    (1) لم يعتمد التبشير بالمسيحية ، فى شتى أقاليم السودان الحديث ، أسلوب التلقين المباشر للتعاليم ، دع عنك الادراج القسرى ، بقدر ما عوَّل على استصحاب الثقافات والموروثات المحلية ، من جهة ، وإحسان المعاملة الاجتماعية والانسانية ، من الجهة الأخرى.

    (2) ونتوقف هنا لنلمح قاسماً مشتركاً إضافياً يستطيع المسلمون والمسيحيون السودانيون أن يجدوه بين عقائدهم. فقد شكل حسن المعاملة ، بأكثر من جفاء التلقين ، منهجاً مرموقاً أيضاً للمتصوِّفة الأوائل فى نشر الاسلام فى البلاد ، بل ما زال يشكل ، حتى الآن ، مدخلاً سالكاً لشيوخ الطرق الصوفية إلى قلوب الناس. وفى الحديث الشريف: "الدين المعاملة" ، مثلما فى الكتاب المقدس: "إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة فأنا وسطهم" ، بمعنى عدم الاحتياج ، فى كل مرة ، لبناء كنيسة.

    (3) وإذا عدنا إلى الممارسة العملية منذ بواكير القرن الماضى ، فإننا نجد مثلاً:

    أ/ أن الكاثوليكية ، رغم موقفها الدينى الصارم ، عموماً ، بشأن وجوب اقتصار الزوج على زوجة واحدة ، ظلت تبدى قدراً كبيراً من التسامح تجاه تعدد الزوجات لدى قبائل الجنوب.

    ب/ وأن مدخل الأقباط الأرثوذكس الأساسى للاندغام فى الحياة ، فى كثير من أنحاء السودان، كان هو نقل شتى معارفهم إلى الأهالى فى مختلف ضروب الصنائع وسبل كسب العيش. فعلى الرغم من أن الادارة الاستعمارية كانت قد حظرت الكنيسة الأرثوذكسية من التبشير فى الجنوب لأسباب سياسية تتلخص فى عدم رغبتها فى تمدد النفوذ المصرى جنوباً ، وقصرها السماح بتولى هذه المهمة على الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية (الانجيليكانية) ، إلا أن احتياجها ، منذ بواكير القرن الماضى ، للكوادر المصرية أجبرها على استقدام أعداد كبيرة منهم ، من صعيد مصر بالذات ، وجلهم أقباط أرثوذكس ، للاستقرار والعمل فى سلك الادارة والحسابات والتجارة وورش ومحطات السكة حديد فى الخرطوم وعطبرة وبورتسودان والأبيض والنهود وشندى وغيرها من مناطق الانتاج الحديث. وما لبث هؤلاء أن عكفوا على الاختلاط بالناس فى قاع المجتمع من باب تعليمهم شتى المهارات فى الميكانيكا والبناء والنجارة والحدادة والأعمال الكتابية والمحاسبية ، فانخرطوا مع الزمن ، بالضرورة ، كتيار متميز فى نهر الثقافات السودانية العريض ، وتعاطوا ، بشكل إيجابى ، مع البيئات الثقافية المحلية ليسترفدوا منها الكثير من الأزياء والزينة والأطعمة وثقافة الجوار وطقوس وعادات وتقاليد الزواج وصوم رمضان والاحتفال بالمولد النبوى الشريف وبعيدى الفطر والأضحى وغيرها ، وليرفدوها أيضاً بالكثير من ثقافة الأزياء والزينة والحلى والاحتفالات العائلية والمعاملات التجارية والمطبخ الشرقى وعيد شم النسيم وعيد الميلاد المجيد وما إلى ذلك.

    ج/ وبما أن لبعض الحادثات والوقائع من طاقة الاندياح التأثيرى العام ما يجعلها قادرة ، فى مختلف العهود ، على تجاوز محض الارتباط المحدود بذكرى صناعها وحدهم ، أو مجرَّد الاقتران المعزول بسِيَر أبطالها وشخوصها المتعيِّنين ، فلا بأس من إيراد خمس منها هنا على سبيل الاحتفاء بالمثل الأعلى وبالقدوة التاريخية:

    الواقعة الأول من عهد الفونج: فعندما اعتزم ملك سنار مصادرة أراضى المسيحيين أفتى الشيخ ادريس ود الأرباب بحرمة ذلك رغم أنه كان موعوداً بنصيب فى الأراضى المصادرة ، مما اعتبره ود ضيف الله دليلاً على ورعه فدوَّن فى الطبقات: ".. ومن ورع الشيخ أن الملك بادى بن رباط ملك سنار جمع كبار الفونج مثل شوال ولد أنفله ونقى شيخ حوش داره وقال لهم شيخ ادريس شيخى وأبوى دارى من العسل إلى البصل باقسمها له النص فامتنع الشيخ وقال لهم هذه الدار دار النوبة وأنتم غصبتوها منهم أنا ما بقبلها الرسول قال من سرق شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة به من سبع أرضين" (طبقات ود ضيف الله بتحقيق د. يوسف فضل حسن ، ط1 ، قسم التأليف والنشر بجامعة الخرطوم ، 1971م ، ص 60).

    الواقعة الثانية من بواكير حقبة النهوض الوطنى: فقد نقل المرحوم حسن نجيلة عن راويته فى (ملامح من المجتمع السودانى) خبر القصيدة التى شارك بها الشاعر (المسيحى) صالح بطرس فى احتفال نادى الخريجين بأم درمان بالعام الهجرى الجديد 1341 هـ (ملامح .. ، ج 1 ، ط 4 ، الدار السودانية للكتب ، 1972م ، ص 75). وكانت تلك من المناسبات التى درج الخريجون ، بمسلميهم ومسيحييهم ، على استغلالها ، فى بواكير حركتهم ، لإشعال الحماس ضد الاستعمار ، وإزكاء أوار الوطنية فى النفوس. فاستهل بطرس قصيدته مستخدماً رموزية (الهلال) الاسلامية:

    يا من رأى طوق الهلال وقد بدا

    يُهـدى لنا عـاماً أغـرَّ مُشهَّرا

    ثم عرَّج على ذكر الأسلاف يمجِّدهم ، ويحرِّض الشعب مستثيراً لوطنيته ، ومستفزاً لنخوته:

    ذهـبوا وقد أدوا الأمانة حقهـا

    ونما إليكـم ذكرهـم متعطـرا

    إنا قبرنا بعـدهم فى هجعـة

    شـتان ما بيـن الثريا والثرى

    يا عـام إنا آملوك لخـيرنا

    أمـلاً ينيل الحظ فيك موفـرا

    (المصدر ، ص ص 75 ـ 76)

    ويستمر راوية حسن نجيلة واصفاً كيف أن المزاج الجماهيرى العام ، والقائم على التسامح الدينى والإلفة الوطنية ، جعل مشايخ الاسلام من ضيوف ذلك الحفل ، وفى مقدمتهم شي العلماء أبو القاسم أحمد هاشم ومفتى الديار الشيخ إسماعيل الأزهرى ، يوقرون الفتى صالح بطرس الذى: ".. يزايل المنصة ونحن نتبعه بالتصفيق والهتاف ، ويجلسه كبار العلماء بينهم فى إجلال وإكبار" (المصدر ، ص 76).

    ويضيف الراوية واقعة إسلامية أخرى كان صالح بطرس أيضاً بطلها ، حيث أن مسجد أم درمان الكبير ظل ناقص البناء لفترة طويلة فى ذلك العهد ، وكانت التبرعات تجبى له فى كثير من البطء ، وقد أثار هذا الموقف المشين صالح بطرس ، فبعث إلى الحضارة٢ بقصيدة ينعى فيها على المسلمين تباطؤهم فى إكمال مسجدهم ، مما كان له أبلغ الأثر فى تفجير حملة تبرعات عالية الحماس لإكمال بناء المسجد. وقد جاء فى تلك القصيدة:

    يامسـجداً مطـلت بنوه بعهـده

    حتى غدا وهو الحسير المعـدم

    بدأوك جوداً بالصنيع وأحجمـوا

    ما كان أولى أن ذاك يُتمَّـم

    وأنشد بطرس فى نهايتها:



    أمنارة الديـن الحـنيف تحـية

    من شاعر لك قد غـدا يترحَّـم" ٣

    وختم محدث حسن نجيلة روايته متساءلاً بحق: "ترى هل يذكر المصلون فى هذا المسجد اليوم أن الفضل فى حث الناس لإكمال بنائه لشاعر مسيحى" ؟! (المصدر ، ص ص 76 ـ 77).

    إن تلك المواقف وغيرها لتؤكد ، برغم ما يمكن سوقه من وقائع أخرى سالبة تسببت فيها تاريخياً تيارات الغلو والتعصب والهوس الدينى ومشروعات الاستبداد السلطوى والدولة الثيوقراطية ، أن (التسامح) ظل يمثل القانون الأساسى لعلائق المسلمين والمسيحيين خلال مختلف فترات تاريخنا الوطنى ، فلكأنهم يجسدون أبيات أحمد شوقى:

    نعلى تعاليـم المسـيح لأجلهم

    ويوقـرون لأجلنا الإسـلاما

    الدين للديَّان جـلَّ جـلاله

    لو شـاء ربك وحَّـد الأقواما

    (المصدر ، ص ص 75 ـ 76).



    (نواصل)



    الهوامش:

    ١ تحسن جامعة الخرطوم صنعاً إذا كرَّمَت الأب فانتينى ، أسوة بالمرحوم البروفيسير نجم الدين محمد شريف الذى يستحق بالفعل كل التكريم ، فللأب فانتينى أيضاً جهوده غير المنكورة مع الراحل نجم الدين فى إنقاذ آثار النوبة ، وبخاصة معبد بوهين وكنيسة فرس ، وفى تأسيس المتحف القومى.

    ٢ جريدة (حضارة السودان) التى اشترك فى تأسيسها عام 1919م السيد عبد الرحمن المهدى والسيد على الميرغنى والشريف يوسف الهندى ، وكان أول من تولى رئاسة تحريرها هو المرحوم حسين شريف.

    3 النص الكامل للقصيدة منشور ضمن كتاب سعد ميخائيل ، المسيحى أيضاً ، والذى أصدره عام 1925م: (شعراء السودان ، مطبعة رعمسيس بالفجالة بمصر ، ص 140).


                  

01-23-2004, 07:21 AM

elsharief
<aelsharief
تاريخ التسجيل: 02-05-2003
مجموع المشاركات: 6709

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كمال الجزولى:بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب (Re: elsharief)



    كُلُّ عامٍ والسُّودانُ بِخَيْر (3)

    بَيْنَ غطاسِ حَنَّا وبَرَكاتِ وَدَّ الأرباب

    (مُلاحَظاتٌ أَوَّليَّة عن دَوْرِ المَجْموعاتِ المَسِيحِيَّةِ فى دَعْمِ السَّلام)


    (1)

    (1/1) أشرنا ، فى ما تقدم ، إلى تقارب منظومتى قيم (السلام) و(العمل الصالح) و(العدالة الاجتماعية) فى الاسلام والمسيحية. وقلنا إن دعم مقوِّمات الوحدة فى الوعى الاجتماعى يبقى واجباً مقدماً برغم المرارات التاريخية. فنحن ، على كثرة حديثنا عن (الوحدة فى التنوع) ، نتحمل ، وبخاصة الجماعة المستعربة المسلمة ، مسئولية (التمكين) للتيار (السلطوى) المستعلى بالدين والثقافة واللغة والعرق ، والنابش عن (الفروقات) ، لا بغرض الوعى المشروع (بالتميز الثقافى) ، بل لدعم النزعة الاستعلائية (الحربية) وما تستتبعه من ردود أفعال. وشدَّدنا على أهمية مقاربة حقائق الثقافة والاجتماع فى بلادنا ، فى سبيل الدفع بالمجموعات المسيحية لاستعادة دورها التاريخى فى الفعل الاجتماعى والسياسى نحو ترسيخ السلام والوحدة ، إنطلاقاً من فرضية تؤكد على هذا الدور ، وعلى أن التسامح والتثاقف الطبيعيَّين ظلا يشكلان عنصرَى غلبة فى علاقات المسلمين والمسيحيين ، وعلى أنه لا مآل بدون ذلك غير الاستسلام لليأس القاتل.

    (1/2) إرتأينا ، فى هذا السياق ، أن نعرض لثلاث حقائق أساسيَّة: الأولى هى خيط الأثر المسيحى فى قماشة الثقافات السودانية ، بما فيها الثقافة العربية الاسلامية ، رغم زوال الممالك المسيحية قبل قرون. وأشرنا إلى الرموزيَّة الروحيَّة التى وسمت (حركات النبى عيسى) كإرهاص باكر بمقاومة السودانيين للاستعمار مطالع القرن الماضى ، وإلى ذلك ما يجده (الأنصار) اليوم من توافق روحى بين ذكرى ميلاد إمامهم الصادق المهدى وذكرى ميلاد السيد المسيح (25 ديسمبر). كما أبرزنا جوانب أخرى من تمظهرات هذا الأثر فى طقس أربعين الولادة الشبيه بعماد الطفل بالغطاس عند المسيحيين ، وكذلك طقس (ماريا) ، وترديد النساء أثناء غسل الوليد عبارة "أغطسك غطاس حنا" ، وابتهالهن ، فى حالات تعسر الولادة ، للسيدة العذراء ، وإشارة الصليب ضمن ما يزين به النوبيون واجهات منازلهم ، وفى ما يرسمه الأهالى بزبل البقر على صدر المريض فى بعض مناطق جبال النوبا ودارفور ، وبدم الذبيح على جبينى العروسين ليلة زفافهما أو بالكحل على جبين الوليد لدى بعض الفور ، وبفحم الحطب لدى بعض قبائل النيل الأزرق ، إضافة لتميمة (المشاهرة) التى تشمل الصليب أيضاً وتعلق فوق رأس النفساء فى مناطق وسط السودان.

    أما الحقيقة الثانية فتتمثل فى البعد الاجتماعى والانسانى للتبشير الذى لم يعتمد أسلوب التلقين المباشر ، فى شتى أقاليم السودان الحديث ، بقدر ما عوَّل على إحسان التقدير الاجتماعى والانسانى والثقافى ، كما فى غض الكاثوليكية الطرف ، مثلاً ، عن تعدد الزوجات لدى القبائل الجنوبية ، واتخاذ الأقباط الأرثوذكس نقل مهاراتهم إلى الأهالى مدخلاً إلى البيئات الثقافية المحلية. وبما أن لبعض الوقائع من طاقة التأثير العام ما يتجاوز محض اقترانها بسِيَر أبطالها فقد ارتأينا إيراد خمس منها على سبيل الاحتفاء بالقدوة التاريخية. الواقعة الأولى من عهد الفونج عندما عارض الشيخ ادريس ود الأرباب مصادرة الملك بادى بن رباط لأراضى المسيحيين ، رغم أن الشيخ نفسه كان موعوداً بنصيب فى تلك الأراضى ، مما اعتبر دليلاً على ورعه. أما الواقعة الثانية فمن بواكير حقبة النهوض الوطنى ، ومدارها قصائد صالح بطرس فى الاحتفال بالعام الهجرى الجديد ، أو فى حث المسلمين للتبرع من أجل إكمال بناء مسجد أم درمان الكبير.

    وقلنا إنه ، وبرغم كل ما يمكن سوقه من وقائع أخرى سالبة تسببت فيها تاريخياً تيارات الغلو والتعصب والهوس الدينى ومشروعات الاستبداد السلطوى والدولة الثيوقراطية ، إلا أن ما أوردنا من وقائع ، وما سنورد ضمن هذه الحلقة الأخيرة ، ليؤكد على أن (التسامح) ظل يشكل خلال مختلف الحقب التاريخية فى بلادنا القانون الأساسى لعلائق المسلمين والمسيحيين فى قاع المجتمع. وفى ما يلى نواصل:

    (2)

    الواقعة الثالثة من مطالع حقبة الاستقلال: وتتعلق بإدراج مادة الدين الاسلامى للتلاميذ المسلمين ضمن مناهج مدارس كمبونى والأقباط والمدرسة التجارية الأمريكية (الانجيلية) بأم درمان. وبالرغم من اختلاف الروايات بالنسبة لكمبونى ، حيث يؤكد الأستاذين محمد سعيد محمد الحسن وسمير جرجس1 أن ذلك قد تم بمبادرة من السيد على الميرغنى مع المطران بارونى عميد كمبونى الأسبق خلال النصف الأول من خمسينات القرن الماضى ، على حين يُغلب د. عبد الله على ابراهيم ، بالاستناد إلى السيد على هريمى2 ، وقوع ذلك استجابة من إدارة كمبونى عطبرة لمطالبة بهذا الشأن من اتحاد الطلاب بقيادة الجبهة الديموقراطية خلال النصف الأول من الستينات ، إلا أن ما يهمنا هنا ، أيَّاً كانت الرواية ، هو أن مرحلة ما بعد الاستقلال قد شهدت إدراج تعليم الدين الاسلامى للتلاميذ المسلمين ضمن مناهج المدارس المسيحية ، وإدراج مادة الدين المسيحى للتلاميذ المسيحيين ضمن المنهج الحكومى ، وقد عُهد، آنذاك ، إلى الأستاذ سعد سليمان تادرس3 بتأسيس إدارة لهذا الغرض بوزارة التربية والتعليم. وربما يكون ثمة مغزى خاص للاشارة هنا إلى عدم استنكاف مشايخ كثر وأبناء طرق صوفية من العمل بالمدارس المسيحية ، كالشيخ عوض عمر بمدارس الأقباط التابعة للكنيسة الأرثوذكسية بأم درمان ، والشيخ أحمد بالمدرسة التجارية الأمريكية التابعة للكنيسة الانجيليكانية بأم درمان ، ومحمد الهادى بن الشيخ قريب الله الذى عمل فترة كمدير لمدارس الأقباط ، وهذا على سبيل المثال.

    لقد شكل ذلك ، على نحو ما ، إعادة إنتاج لتجربة (خلوة بولس) التى ما تزال تختزنها الذاكرة الامدرمانية كملمح بليغ للتسامح الدينى ، وأثر شديد الافصاح عن عبقرية المكان. فقد نزحت أسرة بولس4 القبطية الأرثوذكسية من صعيد مصر ، واستقرت بأم درمان فى (حوش بولس) المعروف على تخوم حى بيت المال وحى ابروف ، حيث أنشأت (خلوتها) المشهورة ذات المساقين: تعليم الدين المسيحى لأبناء المسيحيين ، والدين الاسلامى لأبناء المسلمين ، علاوة على تقديم وجبة مجانية لكل التلاميذ أثناء اليوم الدراسى. وما يهمنا التشديد عليه هنا ، بوجه خاص ، هو أن مسيحية بولس وأسرته لم تحُل يوماً دون إلحاق المسلمين أطفالهم بهذه الخلوة طوعاً ، بل وعن محبة وتقدير لصنيع أصحابها.

    الواقعة الرابعة من خمسينات القرن العشرين: وقد رواها لى المرحوم الشاعر سر أناى كيلويلجانق 5 ، وملخصها أن الصبى الدينكاوى الفقير (بيتر) ، وكان ذلك اسمه الأصلى ، لجأ فى خمسينات القرن الماضى إلى السيد سِر الختم الخليفة ، مدير التعليم بالمديريات الجنوبية آنذاك ، متوسلاً إليه أن يزيح من طريقه عقبة الرسوم الباهظة التى كادت تجهض حلمه بالالتحاق بمدرسة رمبيك الثانوية. فاستقبله سِر الختم ، على عكس توقعات الأهل والأقران ، بحنان وأبويَّة أشاعا الطمأنينة فى نفسه ، مسهباً فى سؤاله عن أبويه وإخوته ، صحتهم ، القرية ، الزراعة ، الأمطار ، مما أشعر الصبىَّ بتعاطف (الخال). وفوق ذلك أمَرَ فأعفى (بيتر) من الرسوم ، وأعيد إلى مدرسته والأرض لا تكاد تسعه من الفرح. وما أن استقر فى رمبيك حتى سارع لإشهار إسلامه ، وتغيير اسمه من (بيتر) أناى إلى .. (سِر) أناى!

    الواقعة الخامسة من مطالع سبعينات القرن العشرين: وتتعلق بأداء الشهيد جوزيف قرنق السياسى إبان توليه منصب وزير الدولة بوزارة شئون الجنوب فى حكومة مايو الأولى ، حيث لم يستخدم نفوذه لمحاباة أهله أو قبيلته ، بل رمى بثقله كله فى خدمة قضايا الوحدة والسلام ، فأعد (بيان التاسع من يونيو 1969م) الذى تأسَّست عليه (اتفاقية أديس أبابا 1972م) ، مرتكزاً على الاعتراف المستقيم بالحقائق الموضوعية للمشكلة القائمة بالأساس فى الفوارق الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الثقافية التاريخية بين الشمال والجنوب ، وراسماً الأسس التى يمكن أن تنبنى عليها الوحدة والسلام (راجع نص البيان ضمن: محمد عمر بشير ؛ مشكلة جنوب السودان ، ترجمة هنرى رياض والجنيد على عمر ، دار نهضة مصر ومكتبة النهضة السودانية ، القاهرة 1970 ، ص 168 ـ 171). وقد روى لى صديقه ووكيل وزارته السيد أبراهيم جاد الله 6 أنهم ، عندما اقترحوا ، ضمن ميزانية التنمية فى الجنوب ، حفر أربعين بئراً أرتوازية لمحاربة العطش فى أعالى النيل ، شطب جوزيف أربعاً وعشرين منها بلا تردد قائلاً: "فى هذا ظلم كثير للناس فى كردفان ودارفور"!

    الحقيقة الثالثة: تتمثل فى المساهمات الواضحة للمجموعات المسيحية السودانية ، منذ مطالع القرن الماضى وإلى عهد قريب ، فى شتى حقول النشاط المدنى السياسى والثقافى والاجتماعى والرياضى. ويكفى أن نشير ، على سبيل المثال ، إلى ملحظين بارزين فى هذا الاطار:

    الملحظ الأول: أن المكتبة القبطية تعتبر أقدم مؤسسات المجتمع المدنى التى عرفها السودان ، حيث جرى إنشاؤها عام 1908م ، أى حتى قبل إنشاء سودان كلب Sudan Club نفسه ، كمنتدى صفوى للانجليز فى الخرطوم. وتعتبر المكتبة من عيون الخزائن الجياد ، إذ تحتوى على نحو من عشرة ألف كتاب فى مختلف فروع العلم والأدب والفن والثقافة العامة ، علاوة على ثروة من الوثائق النادرة. وربما لا يعرف الكثيرون أن عضوية المكتبة مفتوحة لكل السودانيين بصرف النظرعن معتقداتهم الدينية ، فمن بين مؤسسيها وأعضائها علماء مسلمون مرموقون كالأساتذة محمد ابراهيم أبو سليم وزكى مصطفى والمرحوم نجم الدين محمد شريف. كما وأن الكثير من أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا يستعينون بها فى وضع بحوثهم ورسائلهم. ولعل مما له دلالة خاصة أنه جرى ذات مرة ، وبناءً على رجاء من د. أبو سليم ، تعديل لائحة المكتبة بقرار خاص من الجمعية العمومية لتسمح بإهداء ستة مجلدات قيِّمة من مجموعة المصريات ضمن مخزونها إلى دار الوثائق السودانية. كما يجدر أن نشير إلى أن المؤرخ يونان لبيب رزق ، وبمساعدة أبو سليم ، قد عثر ، لاحقاً ، بين هذه المجلدات على الوثيقة الأساسية التى أمكن بموجبها حسم النزاع لصالح مصر فى التحكيم الدولى حول تبعية منطقة (طابا) بين مصر وإسرائيل. وقبل ذلك كانت هذه المكتبة قد زوَّدت وزارة الثقافة المصرية ، بعد ثورة 23 يوليو 1952م ، على نسخ نادرة ، لأغراض إعادة الطبع ، من (أصل الأنواع) لشبلى شميل ، و(حرب النهر) لونستون تشيرشل ، و(عشر سنوات فى أسر المهدية) للأب جوزيف أوهلدر ، بعد نفاد الطبعات الأولى من هذه المؤلفات التى كانت قد صدرت من مطبعة بولاق بالقاهرة فى أوائل القرن الماضى.

    الملحظ الثانى: أن أروقة الأحزاب السياسية ، كجزء من مؤسسات المجتمع المدنى ، ظلت تضم دائماً ، وعبر مختلف الفترات ، عناصر مسيحية ناشطة بين قياداتها وقواعدها ، كتادرس عبد المسيح (عضو مجلس الشيوخ سابقاً) وجوزيف صباغ وإبنه لطيف فى حزب الأمة ، ووديع جيد وعبد الله النجيب وحنا يسا البيباض فى الاتحادى الديموقراطى ، وموريس سدرة وسمير جرجس وميشيل اسطفانوس وجوزيف قرنق وجوزيف موديستو وجرجس نصيف فى الحزب الشيوعى.

    (3)

    فى خلفية هذه الحقائق وغيرها تتجلى المفارقة المأساوية بوضوح حين ننظر الآن فى ما انتهى إليه هذا الحضور الريادى ، فلا نجد ، إلا فى ما ندر ، غير ضعف مشاركة المجموعات المسيحية فى الحياة العامة ، بل غيابها شبه التام عن أنشطة المجتمع المدنى ، وانزوائها الكامل كما الجاليات المعزولة! وقد لا يحتاج الباحث إلى كبير عناء ليعود بتاريخ هذه الظاهرة إلى أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضى. وهى الفترة التى شهدت بداية الارهاص الجدى بتدشين مشروع الدولة الدينية الذى أنجز أولى حلقات تمظهره الكيفى بإصدار وتطبيق قوانين سبتمبر 1983م ، ثم عاد لاحقاً إلى مراكمة عناصر حركته بذات الاتجاه فى ظل الظروف التى تمخضت عنها الانتفاضة الشعبية بين أبريل 1985م ويونيو 1989م ، حيث استكمل خطوته التحويلية نحو حل قضية السلطة عن طريق الانقضاض المسلح على الديموقراطية الثالثة.

    صحيح أن المسيحيين شهدوا ، خلال هذه الفترة ، من عنت المعاش والثقافة والاجتماع ، ما لم يشهدوا طوال قرن بأكمله ، بما فى ذلك التشريد الذى طال أندر كفاءاتهم فى سلك الادارة والمصارف وخلافه. ولكن الصحيح أيضاً أن المسلمين أنفسهم أضيروا ، ربما بأكثر من المسيحيين ، من مشروع التيار (السلطوى الاستعلائى). وليس سوى مكابر من ينكر أن هذا المشروع لم يعدم مساندة مسيحيين بين الجنوبيين الكاثوليك والأقباط الأرثوذكس. كما وليس سوى مكابر من لم يلمح ، فى ملابسات الحرب التى جرى تصويرها على أساس دينى ، كيف أن المسلم قد قتل بيد المسلم ، والمسيحى بيد المسيحى. لذلك ينبغى الكف عن الترويج للمشكلة كما لو كانت قائمة بين المسيحيين ككتلة متجانسة وبين المسلمين ككتلة متجانسة مضادة.

    لقد بدت هذه الحرب اللعينة ، فى أوَّلها ، انعكاساً ، بالفعل ، لمشكلة وطنية فى ظروف التخلف

    “.. national question under backward conditions” ، كما ذهب إلى ذلك جوزيف قرنق ، مثلاً ، فى كتابه “The Dilemma of the Southern Intelligentsia” الصادر عن وزارة شئون الجنوب عام 1970م. وقد كان من الميسور ، أوان ذاك ، حساب التخلف الاقتصادى كأهم أساس لها. ولكننا الآن ، وفق ملاحظة د. محمد سليمان السديدة فى كتابه "حروب الموارد والهويَّة" ، نكاد نكون قد نسينا الأسباب المباشرة والهيكلية للحرب ، على حين تضخمت لدينا ، مع مرور الزمن ، إحدى أخطر (النتائج) المترتبة عليها لتشكل بنفسها (مورداً) مستقلاً لتفاقمها ، وهى منظومة المُدركات والفهوم السالبة perceptions ، كصورة للوعى الاجتماعى المقلوب الذى لطالما غذته أيديولوجية التسلط والاستعلاء ، وعززته الحرب فى الذهنيَّة العامة. لذلك ، وبالمقارنة مع السلاسة النسبيَّة للحلول التنمويَّة التى كان من الممكن اجتراحها على كلا البنيتين التحتيَّة والفوقيَّة منذ مطالع الاستقلال ، فإن هذه الحلول قد تستنفد منا اليوم أعماراً بأكملها. ومع ذلك لا يبدو ثمة مخرج أمامنا سواها إذا كنا نروم ، حقاً وفعلاً، سلاماً مستداماً فى إطار وحدة راسخة.

    إن فضل (الايقاد) لا يعدو إسكات البنادق ، أما كل ما عدا ذلك ، كتعميق الديموقراطية ، وعدالة التنمية ، ونبذ الاستعلاء بالدين أو الثقافة أو اللغة أو العرق أو خلافه ، فهو من مهام المجتمع المدنى ، بما فى ذلك الضغط على الدولة لتنفيذ ما يليها من واجبات. وغافل من يكِل عمل المجتمع المدنى إلى الدولة ، حتى بمشاركة الحركة الشعبيَّة فى إدارتها! ومن نافلة القول أن أهم مهام المجتمع المدنى فى هذا الاتجاه هو ترميم اطمئنان المجموعات المسيحية بالوطن، واستعادة دورها فى ساحات النشاط السياسى والاجتماعى العام.

    (إنتهى)

    الهوامش:

    ١ صحفى مخضرم من أكثر الأقباط السودانيين انشغالاً بهموم السلام والوحدة والديموقراطية والتقدم ، وأبرزهم فى حقل النشاط السياسى والاجتماعى (من مقابلة شخصية معه فى منزله بالخرطوم نهار الأحد 21/12/03).

    ٢ رجل أعمال من خريجى كمبونى عطبرة أواسط الستينات ، وكان عضواً فى لجنة الاتحاد.

    3 مسيحى من أبكار رجال التربية والتعليم ، والد الضابط ميلاد الذى التحق بقوات المعارضة بشرق البلاد خلال تسعينات القرن الماضى ، واستشهد فى بعض ملابسات العمل العسكرى.

    4 وفى سلالتها نفر من مشاهير الشخصيات السودانية التى لعبت أدواراً سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة ، كالدكتور وديع حبشى ، الخبير الزراعى العالمى والوزير السابق ومدير مشروع الجزيرة الأسبق وأول رئيس للنادى القبطى عند تأسيسه فى 1978م ، والسيد نجيب يسا ، مدير مصنع سك العملة الأسبق وسكرتير نادى المريخ الأسبق ، وغيرهما.

    5 وقد سبق أن أوردتها ضمن ورقة بعنوان (جنوبيون) قدمت أمام ندوة مركز الدراسات السودانية بالخرطوم (30 ـ 31 أكتوبر 2002م) حول (التنوع الثقافى وبناء الدولة الوطنية فى السودان) ، بمناسبة اكتمال ترجمة ونشر أعمال د. فرانسيس دينق باللغة العربية. وكانت أجزاء من الورقة قد نشرت قبل ذلك بصحيفة الرأى العام ، ثم أعادت نشرها كاملة بعض الصحف والمواقع على الشبكة العالمية.

    6 من محادثة هاتفية معه عصر السبت 21/7/2001م. وقد سبق أن أوردتها أيضاً ضمن ورقة (جنوبيون).

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de