عانى الناس خلال الثلاثون عاما الماضية التي حكمت فيها الإنقاذ البلاد من القهر والكبت والإهمال وطأطأ الناس رؤوسهم ، ولم يجد المواطن من يشتكي إليه من ظلم وقع عليه من متجبر جهة كانت أو شخص من أهل النظام ، فاستكانوا . وخلال الفترة التي حكمت فيها الإنقاذ عملت الإنقاذ على طمس ثقافة الشعب القائمة على عدد من الثوابت الدينية والإجتماعية والثقافية والتي قوامها قيم النزاهة والزهد والتكافل والإستقامة والصدق ، وزرعت بدلا منها قيما فاسدة تتوسل بالكذب والنفاق والغش والأنانية لتحقيق المنافع ، وأصبح تقديم المصلحة الخاصة يعلو على المصلحة العامة ، ولم يحظ المواطن بالمعاملة اللائقة في كافة منافذ معاملات الدولة وتسربت هذه الثقافة إلي قطاعات وشرائح من أفراد الشعب من الذين أفتقدوا اليقين والصبر جريا وراء تحقيق مكاسب شخصية لدرجة أن بعضهم حاكى مظهرهم وزينو وجوههم باللحى ورددوا العبارات التي اعتاد منسوبو المؤتمر الوطني التفوه بها في أحاديثهم . الثورة أفرزت سلوكا إيجابيا ووعيا تجسد في الإلتزام بعدد من القيم الحضارية كشعار سلمية الثورة ، والإنضباط الذي أظهره من كانوا بالشارع فلم يعتدوا على إي ممتلكات عامة أو خاصة ، وكان هناك تعاون ونظام وكانت تلك الظاهرة الأبرز في هذه التجمعات الكبيرة . لكن هذا الوضع بدأ في التغير بعد مرور الوقت ، إذ إنتشرت أنواع من السلوك السلبي في الشارع والأسواق والمواصلات أقلقت المواطنين ، فهناك من يتجاوزون إشارات المرور ، وهناك من يفترشون بضاعتهم في قلب الشارع في الأسواق غير عابئين بعرقلة المرور ، وهناك وسائل المواصلات التي تتهرب من المواقف المخصصة للمناطق ويفرضون تعريفة غير التعريفة المحددة ، وفي أماكن بيع السلع بلغت الفوضى حدها فكل محل يبيع بضاعته بالسعر الذي يحدده هو ولم يجد المواطن من يلجأ إليه للشكوى فالجهات الرقابية في جهاز الدولة وتلك المنوط بها تطبيق القانون كانت غائبة عن المشهد . هذه الفوضى والسلوك السلبي الذي مارسته قطاعات من افراد المجتمع يمكن رده إلي عدد من الأسباب الموضوعية ، منها إن فترة الكبت الطويلة التي اعقبتها الحرية التي أتت بها الثورة جعلت البعض يتوسع في هذه الحرية لآخر مدي كنوع من السلوك التعويضي عن معاناة الكبت والقهر الذي عانوه في الفترة الماضية ، وهو أمر معروف حتى في الحالات الفردية للأشخاص الذين مروا بتجربة كبت وقهر من مصدر ما ، والأمر الآخر أن البعض ممن ينقصهم الوعي يعتقد أن الحرية هي عدم الإلتزم بالقانون والنظام . كذلك من الأسباب القوية لإنتشار هذه الفوضى يعود إلي تقاعس أجهزة الدولة المسئولة عن الرقابة وتطبيق القانون والنظام ، وغياب الأجهزة و السلطات المحلية التي منوط بها الرقابة في الأسواق وأماكن بيع السلع الضرورية التي لا تزال يسيطر عليها فلول النظام ، والشريحة التي أوجدها النظام من المنتفعين . لابد من الإعتراف بأن هناك جفوة بين المكونات العسكرية المسؤولة عن تطبيق القانون والنظام والمكونات المدنية نتيجة للاستخدام المفرط للقوة في التعامل مع الثوارإبان فترة الحراك ، وتجاوز المهنية في التعامل مع جماهير الحراك ، وفي المقابل يحاول بعض الثوار من صغار السن ترديد عبارات وشعارات بهدف إغاظة هذه المكونات خاصة الشرطية بحكم تواجدهم في الشوارع ووسط الأحياء .وإزالة هذه الجفوة تستدعي إعادة بناء الثقة بين المكونين ، ذلك أن المجتمع والدولة يمران بمرحلة ينشدان فيها التغيير ، ولابد أن يكون المجتمع داعما لهذا التغيير لا عرقلته ، وكذلك فإن مؤسسات وأجهزة الدولة خاصة النظامية لابد أن تواكب هذه المرحلة والإقتناع بأن الثورة ليست ضدهم لأنهم جزء من الشعب ، وهذه المهمة الجزء الأول منها يقع على عاتق منظمات المجتمع المدني لتأهيل المجتمع لتغيير سلوك أفراده من خلال التأكيد على القيم الإيجابية والإلتزام بالقانون والنظام ، والشق الآخر موكول لإدارات التدريب والتوجيه المعنوي في مؤسسات الدولة النظامية والمدنية لتأهيل العاملين فيها من خلال صياغة عقيدة جديدة تحترم المواطن بدلا من التعامل معه كعدو .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة