عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة التاسعة بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 05:10 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-08-2019, 02:35 PM

خالد الحاج عبدالمحمود
<aخالد الحاج عبدالمحمود
تاريخ التسجيل: 10-26-2013
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة التاسعة بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

    02:35 PM October, 08 2019

    سودانيز اون لاين
    خالد الحاج عبدالمحمود-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ / خالد الحاج عبدالمحمود
    بسم الله الرحمن الرحيم
    "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"

    الجزء الثاني
    الحياة في الإسلام
    الفصل الثاني
    حياة الأرض طبيعتها مقوماتها
    رُد الإنسان إلى أسفل سافلين، وندب لأن يستعيد مقامه، في أحسن تقويم.. فبدأ مسيرته في حركة تطورية طويلة، من غاز الهيدروجين، وعبر سلسلة طويلة في التطور في المادة، حتى ظهر الكون بصورته الحالية.. وظهرت الأرض موطن الإنسان الثاني.. وتم إعداد البيئة في الأرض، لاستقبال سيد الأكوان وخلاصتها، من خلال ظروف وموازنات مُدهشة.. وكان أول ما ظهر في مسيرة الإعداد، بعد المادة غير العضوية، هو المادة العضوية، في أبسط صورها، إلى أن توجت بحيوان الخلية الواحدة.. وبدأت مسيرة تطورية أخرى طويلة وشاقة، حتى ظهرت متعددات الخلايا، في صورها المختلفة.. وكانت كل مرحلة من مراحل التطور، تظهر بعد الأعداد التام للبيئة التي تلائمها، ثم يجدُّ من الظروف في البيئة ما يستلزم ظهور مرحلة من الحياة أكمل، وهكذا دواليك، حتى ظهور البشر في قمة هرم الحياة.
    الحياة، حسب اصطلاحنا، ظهرت عند بروز المادة العضوية من المادة غير العضوية.. فالمادة العضوية وحدها ما نسميه حياة.. وأدنى درجات الحياة أن يكون الحي شاعراً بحياته، يتحرك حركة تلقائية، ويتغذى ويتناسل.. هذا الشعور هو الحياة.. وهو أساس الاختلاف بين الحي وغير الحي.. والترقي في سُلم الحياة، هو ترقي في درجات الشعور، من شعور حيوان الخلية الواحدة، إلى الشعور عند الله، الذي لا تغيب عنه غائبة، لا في السماء ولا في الأرض.. وهذا ترقي لا انتهاء له، لأنه ترقي من المحدود إلى المطلق.. وعلى هذا فإن الحياة درجات جد متفاوتة.
    عن تطور الحياة في بداياتها، يقول الأستاذ محمود، في نص كثيراً ما نكرره، لأهميته: "وكان حيوان (الخلية) الواحدة، يحس بكل جسده الرخو.. ثم تعقدت الحياة، وارتقت، ورهف إحساسها بالخطر الذي يتهددها، فظهرت الحاجة إلى الوظائف المختلفة، فكان على الجلد أن يتكثف، ويغلظ، ليكون درقة، ودرعاً.. وكان على بعض أجزاء الجسد، غير الجلد، أن تقوم بوظيفة الحس.. وهكذا بدأ نشوء الحواس.. ونحن، لطول ما ألفنا الحواس الخمس، نتورط في خطأ تلقائي، إذ نظن أن الأحياء قد خلقت، وحواسها الخمس مكتملة.. والحق غير ذلك.. فأن الحواس قد نشأت، الواحدة، تلو الأخرى، كلما ارتقت الحياة، وتعقدت وظائف أعضاء الحي.. ففي البدء كان اللمس بالجسم كله - بالجلد - ثم لما توظف الجلد في الوقاية - خصصت بعض الأجزاء في اللمس.. ثم ارتقت وظيفة الحس لما احتاج الحي للمس، والخطر على البعد.. فامتدت هذه الوظيفة، امتداداً لطيفاً، فكان السمع، ثم كان النظر، ثم كان الذوق، ثم كان الشم.. وليس هذا ترتيب ظهور للحواس، ولا هو ترتيب اكتمال.. فإن بعض الأحياء يحتاج لحاسة معينة، أكثر من احتياجه للأخريات، فتقوى هذه على حساب أولئك، مع وجود الأخريات، بصورة من الصور..
    والآن، فأن الحيوانات العليا، بما فيها الإنسان، ذات خمس حواس.. وليس هذا نهاية المطاف.. فإن، في الإنسان، الحاسة السادسة والحاسة السابعة في أطوار الاكتمال، ولا يكون، بعد الحاسة السابعة تطور في زيادة عدد الحواس، وإنما يكون التطور في كمالها.. وهذا لا ينتهي وإنما هو سرمدي..".. فامتداد الحواس هو اتساع للحياة في المكان.. وعند الحاسة السادسة والسابعة، يكون امتداد الحياة في الزمان والمكان معاً، وهذه هي حياة الإنسان!!
    الحاسة السادسة هي الدماغ، ووظيفتها هي، كما يعبر الأستاذ محمود "الإدراك المحيط، والموحد (بكسر الحاء) لمعطيات الحواس الأخرى - اليد، والأذن، والعين، واللسان، والأنف - في الحس، والسمع، والبصر، والذوق، والشم.. فإذا قويت يكون إدراكها لكل شيء عظيم الشمول، فكأنها تحسه، وتسمعه، وتراه، وتذوقه، وتشمه، في آن واحد.. ما هي الحاسة السابعة؟؟ هي القلب.. ووظيفتها الحياة.. وهذه الحاسة هي الأصل، وجميع الحواس رسلها، وطلائعها، إلى منهل الحياة الكاملة..".
    الخوف هو الحائل دون ورود منهل الحياة الكاملة.. وقد نشأت الحياة وسط الخوف.. فالخوف، من بعد الله، هو الذي أدى إلى بروز الحياة في المكان الأول، وإلى تطورها في المكان الثاني.. ولكن إذا لم تنتصر الحياة على الخوف في آخر المطاف، لا يتم كمالها.. وانتصار الحياة على الخوف، يبدأ مع العقل، ويتطور بتطور العقل، فسبب الخوف الأساسي هو الجهل.. ولا يكون التخلص منه إلا بالعلم.. ولذلك تتسع الحياة بظهور الحاسة السادسة، وذلك لما تحققه هذه الحاسة من علم، تنتصر به على الخوف.. يقول الأستاذ محمود: "وإنما تنتصر الحياة على الخوف عندما تقوى الحاسة السادسة، وتدرك الأمر على ما هو عليه، على النحو الذي وصفنا، ويومئذ سيظهر لها أن الخوف إنما هو مرحلة صحبت النشأة في إبان جهلها، وقصورها، وأنه ليس هناك ما يوجبه في حقيقة الأشياء.. فإذا بلغت الحاسة السادسة هذا المبلغ، انبسطت الحاسة السابعة - القلب - واطمأنت، وانطلقت من الانقباض الذي أورثها إياه الخوف، وأخذت تدفع دم الحياة قوياً إلى كل ذرات الجسد، وكل خلايا الجلد، تلك التي كان الخوف قد حجرها، وجعل منها درقة، ودرعا لصيانة الحياة البدائية.. وبذلك يعود الشعور لكل الجسد، ويصبح حياً كله، لطيفاً كله، جميلا كله، غاية الجمال.. وتكون أرض الجسد الحي يومئذ هي المعنية بقوله تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)..".. الماء هنا العلم بالله.
    إذن تطور الحياة مرتبط بتطور الحواس - اتساعها وقوتها ـ كما أن تطور الحياة رهين بالتخلص من الخوف.. باختصار: مطلب الحياة، هو تحقيق الحياة الكاملة.. وتحقيق الحياة الكاملة هو وظيفة الحاسة السابعة.. وليس للحياة الكاملة نهاية كمال، وإنما كمالها دائماً نسبي.. وهي تتطور تطلب الحياة المطلقة الكمال، عند الكامل مطلق الكمال - عند الله.. وإنما يكون تطورها باطراد ترقي جميع حواسها، كل في مجاله، وانعكاس ذلك على ترقي العقل، بقوة الفكر، وشمول الإدراك.. وعلى قدر صفاء العقل، وقوة الفكر، تكون سلامة القلب واتساع الحياة، وكمالها..
    على ما تقدم وضح لنا، أن تطور الحياة هو تطور في الفكر والشعور، على النحو الذي ذُكر.. فحياة الفكر والشعور هي حياة الإنسان، وحياة الإنسان هي الغاية، وما دونها من حياة هي حياة الحيوان، وهي وسيلة لحياة الإنسان، ومقدمة لها، فينبغي أن لا نقف عند حياة الحيوان، وحياتنا البشرية الراهنة مشمولة فيها، بل ينبغي أن نتطور منها إلى حياة الإنسان.. فحياة الحيوان هي الحياة الدنيا، وحياة الإنسان هي الحياة العليا، ولا يكون تحقيق الحياة العليا إلا بالسير وفق قوانينها.. فالحياة العليا تكون في مرحلة الإنسانية.. والحياة الدُنيا قمتها في مرحلة البشرية، وهذا ما نحن عليه الآن.. وهذا الأمر لنا إليه رجعة فهو يحتاج إلى كثير من التوضيح.
    أطوار الحياة:
    ذكر الأستاذ محمود أربع مراحل لتطور نشأة الإنسان.. هذه المراحل، هي مراحل تطور الحياة في الأرض، في مسيرتها نحو أصلها في الملكوت.
    المرحلة الأولى قال عنها: "إن بدايتها في الأزل، حيث برز الإنسان في الجسد، في المادة غير العضوية ـ تلك التي نسميها، اصطلاحا، ميتة - ونهايتها عند دخول المادة العضوية في المسرح..".
    أما المرحلة الثانية، "بدايتها عند ظهور المادة العضوية ـ تلك التي نسميها، اصطلاحا، حية - ونهايتها عند ظهور العقل.. ويتضح لنا، من هذا، أن الشبه كبير بين المرحلتين: الأولى، والثانية، فهما معا مرحلة الجسد الصرف، على اختلاف مستوياته، من ذرة بخار الماء، وإلى أعلى الحيوانات الثديية، ما خلا الإنسان..".
    أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة بروز العقل من الجسد.. وما يميزها بروز العقل، وهو عنصر جديد وخطير.
    أما المرحلة الرابعة، فيقول عنها الأستاذ محمود: "وأما المرحلة الرابعة فهي تتميز من المرحلة الثالثة بدخول الحاسة السادسة، والحاسة السابعة، في المسرح، وتلك درجة جديدة، من درجات الترقي، تصبح بها الحياة البشرية شيئا جديدا، مختلفا عما ألفنا من قبل.. ولذلك فإنا نستطيع أن نقول: أن لدينا ثلاث مراحل لنشأة الإنسان: مرحلة الجسد الصرف، ومرحلة الجسد والعقل المتنازعين، وأخيرا مرحلة الجسد والعقل المتسقين.. ولقد تطورت، إلى الآن، الحياة على هذا الكوكب في مضمار المرحلتين: الأولى والثانية: فهي قد كان تطورها الأول تطوراً عضوياً صرفاً، ثم لما بدأ بروز العقل، بفضل الله، ثم بفضل التطور العضوي الصرف، أخذت في تطورها الثاني، وهو تطور عضوي - عقلي.. وهذا الطور هو الذي نعيشه نحن الآن، وإني لأرجو أن نكون إنما نعيش في أخريات أيامه.. وسيجيء يوم، قريبا، يصبح التطور فيه عقليا صرفاً، في مقابلة البداية بالتطور العضوي الصرف، ذلك الذي كانت به بداية الحياة.. وأصحابنا الصوفية يقولون: النهاية تشبه البداية، ولا تشبهها.. والمؤرخون يقولون: التاريخ يعيد نفسه، ولكنه لا يعيدها بنفس الصورة.. وأحكم القائلين يقول: "كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْدًا عَلَيْنَا، إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ".. وهو تبارك، وتعالى، لا يعيده بنفس الصورة لأنه من أسرار الألوهية، أنها لا تقف، ولا ترجع، ولا تكرر نفسها.. فلم يبق إلا ما قلنا..".
    والمراحل الثلاث المذكورة، يمكن التعبير عنها بلغة الدين، بأنها تقابل العوالم الثلاثة: عالم الملك، عالم البرزخ، وعالم الملكوت.. فعالم الملك هو عالم الأجساد، وعالم الملكوت هو عالم العقول، وأما عالم البرزخ فهو عالم المنزلة بين المنزلتين ـ عالم مرحلي.. وهذا هو عالم الإنسان الحاضر، الذي نعيش نحن الآن في أخريات أطواره.. وعالم الملكوت مسيطر على عالم الملك، وعالم البرزخ، فهما تحت قهره، وحركتهما دائبة في طلبه، لأنهما إنما عنه صدرا، وقمة الملكوت عند الله في صرافة ذاته، عن ذلك يقول تعالى: "فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".. ونحن إنما يرجع ملكنا إلى ملكوتنا، فيكون بذلك تجسيد الملكوت في الملك.
    الحياة بين المادة والروح:
    قلنا إن "البيئة الطبيعية، في جميع مستوياتها، هي بيئة روحية ذات مظهر مادي.. فالروح هي الأصل، والمادة هي الفرع، والمظهر.. والاختلاف بين المادة والروح هو اختلاف درجة.. اختلاف في درجة اللطافة.. فالمادة هي روح في حالة من الذبذبة تتأثر بها حواسنا.. والروح هي مادة في حالة من الذبذبة لا تتأثر بها حواسنا.. فالروح هي الطرف اللطيف من كل شيء، والمادة هي الطرف الكثيف.. والحركة، كلها، هي حركة من الكثافة إلى اللطافة".. وعلى ذلك، فإن الحياة ذات وجهين: وجه مادي، ووجه روحي.. والوجه الروحي هو الأصل.. والكمال، ليس في أن تكون الحياة مادية، ولا في أن تكون الحياة روحية.. وإنما الكمال في أن تقوم الحياة على التوحيد بين المادة والروح.. وهذا يعني أن ترتفع المادة – الجسد – إلى الروح.. أو أن تتنزل الروح إلى الجسد، فيكتسب خصائصها!!
    العقل والانقسام:
    نقطة التحول الأساسية في تطور الحياة، هي ظهور العقل، والعقل المكلف بالذات.. فظهور العقل المكلف هو أهم وأخطر مرحلة في وجود الإنسان.. فبالعقل بدأت مسيرة الإنسان الحقيقية، نحو تحقيق إنسانيته.. كما ظهر الفاصل الواضح بين الحياة الدنيا والحياة العليا.. وبظهور العقل ظهرت القيم، وتميزت حياة الإنسان عن حياة الحيوان.. وقد نضج العقل المكلف مع آدم النبي.. وقد جاء التكليف لآدم، بقوله تعالى: "وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ".. هذه هي بداية التكليف، وبداية العقل المكلف، وبداية الحرية، بداية الإنسان!!
    بهذا التكليف جاء الأمر التشريعي.. فهنالك الأمر التكويني، وهو يقوم على إرادة الله، التي لا تُعصى، وهنالك الأمر التشريعي، الذي جاءت به شرائع الأديان، من لدن آدم، وهو يقوم على الأمر والنهي، وفيه المعصية ممكنة، وغرض الأمر التشريعي هو اخراج الناس من إرادة الله إلى مرضاته تعالى.. على الأمر التكويني يقوم الإسلام العام، وهو إسلام جميع الخلائق، فهو لا يخرج منه خارج.. وعلى الأمر التشريعي يقوم الإسلام الخاص ـ إسلام الإنسان.. وهو يعمل على إخراج الناس من الإرادة إلى الرضا.. فدين الإنسان هو إسلام الرضا، وهو يقوم على طاعة الله والإسلام له عن قناعة ورضا.
    لقد عصى آدم ربه، فأكل من الشجرة، ثم غفر له ربه، بعد أن طلب آدم المغفرة.. وكانت المغفرة لآدم هي أعطاؤه حق الخطأ!! وهذا الحق هو أهم وأخطر تحول في الحياة، وبه انفتح الباب لتحقيق إنسانية الإنسان، وتحقيق خلافة الأرض، إذ به دخل في المسرح الإسلام الخاص، إسلام العقول، إسلام الرضا، وجاءت به قوانين الحياة العليا، وأذن للإنسان بأن يتدرج في مراقيها..
    وبإعطاء الإنسان حق الخطأ، تميز عن جميع خلق الله.. فحق الخطأ هو مجال كمال الإنسان، وفيه هدى الله الإنسان طريقين "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ".. فالنجدين هما: طريق الخطأ وطريق الصواب.. هذا مع أن جميع خلق الله هدوا طريقاً واحداً.. فهو تعالى لم يهد الملائكة إلا نجداً واحداً!! فالملائكة عقول بلا شهوة، فهم يطيعون ولا يخطئون.. والأبالسة شهوة بلا عقول، فهم يعصون ولا يطيعون.. وجعل الله تعالى الإنسان برزخاً تلتقي عنده النشأتان: النشأة السفلية، والنشأة العلوية.. ركب في الإنسان الشهوة، وركب فيه العقل، وأمره أن يسوس شهوته بعقله.. فأصبح بذلك في صراع لا يهدأ بين العقل والشهوة، بين مغريات الشر، ودواعي الخير، وبين موحيات الخطأ، وموجبات الصواب.. هذه النشأة البرزخية التي جمعت بين الخطأ والصواب، هي الطبيعة البشرية، وبها تميز البشر عن جميع خلق الله.. وهي سر كمال الإنسان، إذ بها انفتح الباب إلى التطور في مراقي الحياة – مراقي الكمال – إلى ما لا نهاية.. هذه النشأة التي جمعت بين الخطأ والصواب، جعلت مطلق بشر، أكمل من مطلق ملك في النشأة!! وبذلك أصبح تفوق الملائكة على البشر في الكمال، أمر مرحلي.. ولعزة هذه النشاة الخطاءة، قال عنها المعصوم: "إن لم تخطئوا وتستغفروا، فسيأتي الله بقوم يخطئون ويستغفرون، ويغفر الله لهم"!!
    وعزة هذه النشأة الخطاءة تأتي من مكان الحرية فيها، لأن حق الخطأ هو حق أن تعمل وتخطيء، فتتعلم من خطئك كيف تحسن التصرف في ممارسة حريتك، وبذلك انفتح الباب للتطور في مراقي الكمال، بغير حد، إلا حداً يكون منشؤه عجزك عن حسن التصرف.. وهذا عجز مرحلي، لن تلبث أن تخرج منه إلى قدر أكبر من حسن التصرف، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.. والحرية هي روح الحياة، فحياة بلا حرية هي جسد بلا روح.. ومجال الحرية عند الإنسان، هو الذي جعل من الممكن التخلق بأخلاق الله، كما هي واردة في القرآن، وهذا هو السر في جعل الله تعالى الإنسان خليفة له!! فالحرية هي الفيصل بين حياة الإنسان وحياة الحيوان.
    عن طريق التكليف المستند إلى إعطاء الإنسان حق الخطأ، دخل اعتبار القيمة، وهي مرتبطة بالحرية، وحسن التصرف فيها.. وبذلك تحددت اتجاهات الحياة: إما حياة محكومة بالقيم، وهذه حياة الإنسان.. وإما حياة محكومة بالهوى، وهذه حياة الحيوان.. فالتزام القيم هو السير في طريق مرضاة الله، وعدم التزامها هو السير في عدم مرضاة الله ـ المعصية.
    بين إرادتين:
    الإرادة الإلهية هي القانون الأساسي الذي يسير الوجود.. هي القانون الطبيعي.. وهي لا تُعصى، فكل الوجود مطيع لها، في الحقيقة، ولن ينفك.. وعندما أعد الله تعالى الأرض للحياة، خلق الحياة، وأودع فيها (إرادة الحياة)، كما سبق أن ذكرنا.. ولما أرتقى الله تعالى بالحياة، إلى مرتبة الإنسان، زاد على (إرادة الحياة) عنصراً جديداً هو (إرادة الحرية)، وهي لا تختلف عن إرادة الحياة إلا اختلاف مقدار.. وبنشأة المجتمع البشري منذ بداياته، دخل صراع في البنية البشرية بين قوتين.. بين الحيوان القديم الذي يعمل وفق (إرادة الحياة)، وقانونها السعي في تحصيل اللذة بكل سبيل، وبين الإنسان الحديث الذي يعمل وفق (إرادة الحرية)، وقانونها السعي في تحصيل اللذة التي لا تتورط في غضب الجماعة، ولا غضب الآلهة، بمخالفة العُرف المرعي، مما تكون عاقبته باقية في الحياة وبعد الموت.. وأمر الجماعة هو دائماً أمر الآلهة، فإذا كانت اللذة المبتغاة لا تُنال إلا عن طريق مخالفتها، فإن اتجاه إرادة الحرية، التخلي عن ابتغاء تلك اللذة، رجاء الحصول على لذة أكبر منها، من ثواب الجماعة ومن ثواب الآلهة، وذلك خير وأبقى.. وبهذا دخلت في الحياة القيم التي تجعل الفرد البشري، يضحي باللذة الحاضرة في سبيل لذة مرتقبة، أو يضحي باللذة الحسية العاجلة في سبيل لذة معنوية عاجلة أو آجلة، كرضا المجتمع عنه، وثقته به، وثنائه عليه، أو كرضا الآلهة عنه، ومجازاتها إياه، في هذه الحياة وفي الحياة المقبلة.
    فالحياة البشرية تقع في مستويين: مستوى الحياة الدنيا، والحياة العليا.. الحياة الدنيا هي حياة الحيوان في الإنسان، والحياة العليا هي حياة الإنسان، في الإنسان.. الحياة الدنيا وسيلة، والحياة العليا غاية.. وفي التمييز بين الحياتين يقول الأستاذ محمود: "الإنسان ما دامت مسيطرة عليه صفات الحيوانية، خضع لها أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا..".. فإذا تخلص الإنسان بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة المستمرة لدواعي هذه الصفات، فقد أصبح في الحياة الأخرى، حياة الإنسان، وهي وحدها الحياة.. فالحياة العليا هذه هي الأصل، وهي الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها إبتداءً.. فالعودة إليها هي عودة إلى الأصل.. وهذه العودة هي تكليف الدين الأساسي.. عن الحياتين يقول الله تعالى: "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".. وحياة الحيوان – الحياة الدنيا - جاهلة.. وحياة الإنسان – الحياة العليا - عالمة.. ولما كان الإنسان عالماً، فهو طائع لله، مؤمن به، ولذلك هو آمن.. والأمن هو مطلب الحياة الأساسي.. ومنهاج الإسلام (طريق محمد) صلى الله عليه وسلم، غرضه الأساسي هو تربية النفس، لنقلها من الحيوانية إلى الإنسانية، ووصلها بربها - مصدر الحياة الأساسي - لتتلقى المزيد من الحياة، كلما أعدت مواعينها لذلك.
    للحياة الدنيا العقل الذي تقوم عليه ويناسبها، وهو عقل المعاش.. وللحياة العليا العقل الذي تقوم عليه ويناسبها، وهو عقل المعاد.. وعقل المعاد هو نفس عقل المعاش، بعد أن تروضه وتهذبه التجربة الدينية، وفق موجهات الدين التي تقوم على قانون الحياة العليا.. وعقل المعاش يعمل على الحفاظ على الحياة الدنيا، وعقل المعاد يعمل على التسامي بالحياة الدنيا في مراقي الحياة العليا، وذلك عن طريق الأخذ بقوانين الحياة العليا، والالتزام بقيمها.. وكلا العقلين يعمل على إشباع حاجات الحياة، ولكن كلٌ في حدود معرفته.. فعقل المعاش لا يكاد يعرف للحياة حاجات أكثر من حاجات الحياة الدنيا – الحاجات المادية - حاجات الجسد واللذة المباشرة.. فهو لا يكاد يعرف شيئا عن الحياة الإنسانية وطبيعتها، هو لا يعرف أكثر من حاجات الحيوان عند الإنسان.. فلا مجال لإشباع حاجات الحياة إلا بمعرفة طبيعتها.. عقل المعاش لا يملك أن يعرف عن طبيعة الحياة إلا الجانب المادي، وهو يعجز عن معرفة الجانب الروحي، ولذلك هو لا يملك أن يتسامى بالحياة، عن الحيوانية نحو الإنسانية، فهذه هي وظيفة عقل المعاد.. إذ هو وحده المؤهل لتحقيق الحياة الإنسانية، لأنه يعرف الطبيعة الروحية والمادية للحياة، ويعرف حاجات الحياة في المجالين، فيعمل على اشباعها عن علم، وعلمه هذا يأتيه من عمله بقوانين الحياة العليا، والتزامها، والزام النفس بها.. فالعمل على تحقيق عقل المعاش أو تهذيب العقل، هو الشرط الضروري لتحقيق الإنسانية والتسامي في مراقيها.


    8/ اكتوبر/20۱9























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de