عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ الحلقة السابعة بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-13-2025, 05:37 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-30-2019, 00:04 AM

خالد الحاج عبدالمحمود
<aخالد الحاج عبدالمحمود
تاريخ التسجيل: 10-26-2013
مجموع المشاركات: 167

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ الحلقة السابعة بقلم خالد الحاج عبدالمحمود

    00:04 AM September, 29 2019

    سودانيز اون لاين
    خالد الحاج عبدالمحمود-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    عرض كتاب الحياة بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاﺫ / خالد الحاج عبدالمحمود
    بسم الله الرحمن الرحيم
    "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"

    الجزء الأول
    الحياة في الحضارة الغربية
    الفصل الخامس
    الحياة للموت والخوف
    لا يمكن فصل الحياة عن الموت، وكل إنسان حي يعلم أن مصيره الموت.. وإذا كان الموت هو صيرورة الحياة للعدم – وهذا ما تقوم عليه الحضارة الغربية – فإن كل الحياة، تكون مسكونة بالخوف من الموت.. وأصلاً الحياة، منذ بدايتها، نشأت في كنف الخوف، وتطورت وهي محاطة بالخوف في كل جوانبها.. والخوف من الموت عَمَّقَ خوفنا من المجهول.. فنحن نخاف أن يفجأنا المجهول، بما لا نحب، بل قد يُفاجئنا بالموت.. ولذلك، الإنسان يتشبث بما يعرف، وبما يملك، ويخشى الجديد والمجهول.. حياتنا كلها محاطة بالمجهول، يقول فروم: "فنحن نخاف المجهول، بل نخاف ما لسنا متأكدين تماماً منه، ومن ثم نحجم أن نخطو أي خطوة في اتجاهه" 5 ص 115.
    يربط فروم بين التوجه التملكي والخوف، فيقول: "صحيح أن الشخص الحذر، الاقتنائي، يشعر بالأمان.. غير أنه بالضرورة يعيش في خطر كبير، فهو يعتمد في وجوده على ما يملك من مال ومكانة وحيثية، أي على شيء خارجه.. فما الذي يبقى منه إن هو فقد ما يملك؟ ذلك أن كل ما يملكه الإنسان أو يقتنيه يمكن أن يفقده.. وغني عن الذكر أن الشخص إذا فقد ممتلكاته فإنه يفقد أيضا مكانته وأصدقاءه، كذلك يمكن في أي لحظة، طال الزمن أو قصر، أن يفقد حياته ذاتها.. إذا كنت أنا هو ما أملك، ثم فقدت ما أملك، فمن أكون؟ لن يبقى سوى شاهد مهزوم، متضائل، مثير للشفقة.. شاهد على أسلوب حياة خاطئ.. فحيث إني يمكن أن أفقد ما أملك فأنا بالضرورة في قلق وخوف دائمين" 5 ص 117.
    الخوف موروث، منذ عمر الحياة، بالإضافة للخوف المكتسب.. بالنسبة للخوف الموروث يقول هوبز: ولدت أمي توأمين، أنا والخوف!! في الواقع كل أم، وعند جميع البشر، ولدت هذين التوأمين، لأنها هي ورثت الخوف من أسلافها، وتورثه لخلفها.. ولأن حتمية الموت مدركة عند الإنسان، يظل الخوف منه ملازم للإنسان، طوال حياته.. ومن أجل ذلك يسمي هيدجر الحياة كلها (الوجود من أجل الموت).. ويقول: "فهذا الحد الأليم ـ حد الموت أو الفناء أو التناهي ـ إنما هو الذي يحد الوجود الإنساني ويميزه، بحيث قد يكون من الممكن أن نقول أن الوجود البشري هو في صميمه (وجود نحو الموت) أو (وجود للموت) أو وجود من أجل الموت وليس لدى الإنسان قدرة على استباق الموت أو توقعه، إنما هو الأساس الذي تقوم عليه كل محاولة من أجل إدراك وجوده ككل" 9 ص411.. وكل إنسان، إنما يعنيه، في المكان الأول، موته هو شخصياً، أو موت عزيز لديه.. ولما كان هذا أمر دائماً منتظر، فقد أصبح الخوف منه، يتلبس الحياة كلها.. وهذا ما يسميه الوجوديون (القلق الوجودي).. يقول هيدجر: "في الحقيقة الإنسان مهدد بالموت في كل لحظة من لحظات حياته، إن لم نقل منذ بداية حياته.. فليس (موتي) واقعة تظهر في خاتمة حياتي، وإنما هو واقعة ماثلة - على صورة إمكانية جادة - في كل لحظات حياتي، ومعنى هذا أن الموت لا يكاد ينفصل عن كينونتي نفسها، ما دام الاندفاع نحو المستقبل لا بد أن يكون بمثابة اتجاه نحو (الموت) أو (النهاية) بل هو إمكانية معاشة تعبر عن فعل (التناهي) أو (الانتهاء)." 9 ص 412.. ويقول: "إن فعل الحياة – بالنسبة لنا – إنما يعني أن نحيا موتنا!!" 9 ص 414.
    رغم كل هذا، أقول أن الفكر الغربي لم يعط (الخوف) حقه من الدراسة والتمحيص، وسيتضح هذا عندما نتحدث عن الموضوع، ونحن نتحدث عن الإسلام.
    حياة مُمرِضة!!:
    علق إيريك فروم، على رأي فرويد، في الحياة المُمرِضة بقوله: "إنما المهم في رأي فرويد هو أن التوجه التملكي يكون غالبا في فترة تسبق النضج الكامل للشخصية الإنسانية، وإن استمرار هذا التوجه التملكي بعد هذه الفترة يعتبر ظاهرة مرضية.. وبتعبير آخر، كان فرويد يرى أن الشخص الذي لا يهمه إلا التملك والكسب هو شخص مريض عقليا ومصاب بالعصاب.. ومن ثم، فإن اﻟﻤﺠتمع الذي أغلبية من فيه شخصيات (شرجية) هو مجتمع مريض" 5 ص 87.. وفروم يرى أن المجتمع الغربي، مجتمع مريض!! وهو كمحلل نفسي قام بتحليل هذا المرض، وقد ركز على هذا الموضوع في كتابه (المجتمع السليم).
    وقد وجد تحليل فروم هذا، الكثير من النقد، في الفكر الغربي.. فهم يحتجون: كيف يكون مجتمع الوفرة والاستهلاك والحرية الفردية مريض!؟ رأي فروم في أن المجتمع الغربي مريض، رأي واضح، ولا مجال معه للمغالطة، فهو يقوم على حقائق الحياة الواضحة، وقد أثبتها من جانبه، بصورة لا تقبل الشك.. في الواقع، لدى التحليل النهائي، كل فرد بشري مريض، وهذا أمر يستحيل الخلاف حوله!! فوجود الخوف، بالصورة التي تحدثنا عن طرف منها، يؤكد بصورة قاطعة، مرضية الشخصية البشرية.. وبالطبع ليس المقصود المرض العضوي، وإنما المرض النفسي.. في الإسلام، أساس الإضطراب النفسي، وعديد الأمراض الموجودة عند كل إنسان، هو الانقسام في الشخصية البشرية، الذي أدى إليه الخوف.. فالإنسان، كل إنسان، منقسم بين ظاهر وباطن.. وبينهما اختلاف وصراع.. الأمراض المقصودة هنا، هي ما يُسمى في الدين (عيوب النفس).. فكل نفس بشرية لها عيوبها، التي تحول دون تحقيقها الحياة الحرة الكريمة – حياة الصحة النفسية.. والعمل السلوكي، في الدين كله، في العبادة والمعاملة، القصد منه التخلص من عيوب النفس.. وعمل السالك، في الدين هو أن يعرف عيوب نفسه، ليتخلص منها.. ومن لا يعرف عيوب نفسه، لا يستطيع أن يتخلص منها، وعلى رأس هذه العيوب الخوف، والطمع صنو الخوف.. فلا مجال لكمال الإنسان، إلا بالتخلص من الخوف، الموروث والمكتسب.. ومشكلة الحضارة الغربية، أنها زادت الخوف، بزيادة أسبابه، وهي لا توفر المنهاج العملي أو العلمي الذي يتيح المجال للتخلص من الخوف، ومن عيوب النفس.. يورد فروم، رأي إسبينوزا، الذي يقول فيه: "يرى اسبينوزا أن البشر يتمايزون بالطبيعة البشرية كما يتمايز الحصان بالطبيعة الحصانية.. ويكون الصلاح، والاعوجاج، والنجاح والفشل، والمتعة والشقاء، والنشاط والسلبية تكون كلها متوقفة على درجة نجاح الإنسان في تحقيق الحد الأقصى لطبيعته البشرية.. وتتعاظم حريتنا ومتعتنا بقدر ما نقترب من نموذج أو مثال الطبيعة البشرية" 5 ص 99.. وفروم يتفق مع إسبينوزا في هذا الأمر.. فينقل عنه رأيه الذي يقول فيه: "إذا حركت الإنسان أهواؤه اللاعقلانية فإنه مريض بعقله.. ودرجة تحقيق النماء الأمثل لا تعني فحسب تحقيق درجة نسبية من الحرية والقوة والرشاد والفرحة، وإنما تعني أيضا أننا أصحاء عقليا.. وبقدر ما نفشل في تحقيق هذا الهدف يكون شعورنا بفقدان الحرية، والضعف واللاعقلانية والكآبة.. لقد كان إسبينوزا، على حد علمي، أول مفكر حديث يذهب إلى أن الصحة العقلية هي نتيجة الحياة القويمة، كما أن المرض العقلي نتيجة الحياة الخاطئة" 5 ص 100.. بالطبع، موقف إسبينوزا هذا، هو موقف الدين، ويقول عنه فروم بصورة أوضح: "يرى إسبينوزا أن الصحة العقلية، هي في التحليل النهائي، إحدى تجليات الحياة القويمة، وأن المرض العقلي هو من أعراض الفشل في الحياة، وفقاً لمتطلبات الطبيعة البشرية" 5 ص 100.
    وبالطبع، ستظل القضية قائمة: ما هي الطبيعة البشرية؟ ليس كل تصور للطبيعة البشرية، هو تصور صحيح.. على أنه وبصورة مبدئية، الفهم الصحيح للطبيعة البشرية، مستحيل في ظل إطار التوجيه العلماني – راجع كتابنا (الإنسان).. المهم أن المبدأ صحيح.. فعلينا قبل كل شيء، أن نبحث عن الفهم الصحيح للطبيعة البشرية، ونحن عندما نتحدث عن الإسلام، سنبين فهم الإسلام لهذه الطبيعة.
    تحدث فروم عن انقسام الشخصية، من خلال حديثه عن المظهرية، كمقابل للكينونة.. فهو يقول: "ولكن ثمة جوانب لا تقل أهمية في معنى الكينونة يمكن الكشف عنها بمقابلتها بالمظهرية.. فإذا ظهرت للآخرين ظهر العطف، ولم يكن عطفي إلا قناعا أخفي به استغلاليتي - أو إذا ظهرت بمظهر الشجاعة، بينما لست إلا شخصا شديد الغرور أو ربما لدي نزوع انتحاري - أو إذا ظهرت بمظهر المحب لبلدي بينما أسعى لتحقيق مصالح شخصية - فإن هذا المظهر، أي هذا السلوك المعلن، يتعارض تعارضا تاما مع حقيقة الدوافع التي تحركني، وسلوكي يختلف عن شخصيتي.. ولكن بناء الشخصية، أي الدوافع الحقيقية للسلوك هي التي تشكل الكينونة الحقيقية للإنسان.. صحيح أن السلوك قد يعبر عن الكينونة على نحو جزئي، ولكنه غالبا ما يكون قناعا ألبسه لإخفاء أهدافي الخاصة" 5 ص 102.. وهذا القناع عادة يكون خفياً على صاحبه، فهو دائماً يحب أن يظهر للآخرين بالصورة التي يعطيها القناع، دون أن يشعر بذلك.. وهذا هو السر، في تكرار عبارة (لا يشعرون) في القرآن.. يقول تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ".. ويقول: "أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا".. فالفرد البشري عموماً، حريص بأن يظهر بالمظهر الذي يعطيه القناع الذي يلبسه.. ويحب ألا ينزع هذا القناع حتى أمام نفسه، لأنه عندما ينزع القناع، سيظهر له ما لا يسره، من أمراضه الداخلية، وعيوب نفسه، وهو لا يحب أن يرى هذا الواقع، وإنما يحب أن يرى نفسه، ويقدمها للناس، على أحسن صورة!! وإن كانت هذه الصورة زائفة، وتتناقض مع واقعه الداخلي الحقيقي.. ويرى فروم أن "الإنجاز الحقيقي لفرويد هو كشفه للتعارض بين السلوك، والشخصية.. بين القناع الذي ألبسه، والحقيقة المختفية وراءه" 5 ص 102.. كما أن فرويد اكتشف (الكبت).. والكبت أدى إلى إزدواج الشخصية: شخصية كابتة، وشخصية مكبوتة.. وموضوع الكبت موضوع أساسي جدا، في معرفة النفس البشرية.. وإذا لم يتم التخلص من الكبت، بالصورة التي تؤدي إلى توحيد الشخصية، ليس للكمال من سبيل، ولا إلى السعادة – وهذا ما سنتناوله بوضوح في الجزء الخاص بالإسلام..
    يقول فروم: "كان الرأي السائد عن المواطن العادي - أي المتلائم مع البيئة - هو أنه عقلاني ولا يحتاج إلى تحليل عميق.. ولكن هذا ليس صحيحا على الإطلاق.. فدوافعنا الواعية وأفكارنا، ومعتقداتنا، وأفكارنا، ليست إلا مزيجا من معلومات زائفة وتحيزات وأهواء لاعقلانية، وتبريرات ذهنية ليست إلا بحرا من تعصب وأفكار مسبقة تطفو على سطحه شذرات من الحقيقة تطمئننا، وإن تكن طمأنينة زائفة، على أن المزيج كله حقيقي وصادق. وتحاول عملية التفكير أن تنظم حمأة الأوهام هذه وفقا لقوانين العقل والمنطق.. ويفترض أن يكون مستوى الوعي هذا انعكاسا للواقع ، فهو خريطة نستخدمها لتنظيم حياتنا.. وهذه الخريطة المزيفة لا تقمع، ولكن الذي يقمع هو معرفتنا للواقع، هو معرفتنا لما هو حقيقي" 5 ص 103.. هذه معرفة بالنفس البشرية، عميقة وصادقة.. فصورتنا عن أنفسنا، والتي نريدها أن تكون صورتنا عند المجتمع، هي صورة زائفة، وتخالف الواقع الحقيقي لما نحن عليه.. هذا ينطبق على كل إنسان.. والمطلوب هو أن نكتشف حقيقتنا الداخلية، التي نريد أن نخفيها عن أنفسنا، وعن الآخرين، لنعرف ما فيها من عيوب ونقائص، لنصححها، ونكمل أنفسنا، ولكن بدلاً من ذلك نحن نكبت الصورة الحقيقية، ونلبس قناعاً، نزيف به حقيقتنا، طلباً للمكانة عند الآخرين، أو طلبا لتسويق شخصيتنا، كما يقول فروم.. هذا التغيير الداخلي الذي يقوم على معرفة الواقع، هو ما يقوم عليه الدين الصحيح.. أقول الصحيح، لأن أصحاب الأديان اليوم، يتعاملون مع القناع الخارجي، ويعملون على تزييف واقعهم الحقيقي، أكثر من غيرهم، إذ أنهم يستخدمون الدين نفسه من أجل هذا التزييف!! فهؤلاء ليس لهم حظ من الدين، مهما تظاهروا به، فالدين الحقيقي، يتعامل مع شخصية الإنسان الحقيقية، ويسعى لمعرفة عيوبها الحقيقية، ولا تخدعه مظاهر التمويه الذي يقوم بها القناع.. الدين الحقيقي، يقوم على معرفة عيوب النفس، وعيوب العمل، لتصحيحها.. أما الدين الزائف – بما فيه دين العلمانية – فيقوم على تغطية العيوب، وتزييفها.
    هنالك دراسة ممتازة في علم النفس الحديث، تسمى: (آليات الدفاع عن النفس)، تقوم بكشف تزييف الدوافع الحقيقية، عند صاحبها وعند الآخرين، وإستبدالها بدوافع زائفة.. هذا ما عليه واقع الإنسان المعاصر، ولا يمكن أن يكون هنالك تغيير، ما لم يتم تغيير هذا الواقع، ويصبح التعامل مع الواقع الداخلي الحقيقي، من أجل تصحيحه بالصورة التي تؤدي إلى الصحة النفسية.. وهذا ما سَيَبينُ لنا بوضوح، عندما نتحدث عن الإسلام.
    يواصل فروم فيقول: "وقولنا إن الحقيقة قمعت لا بد من أن يقوم، طبعا ، على فرضية أننا نعرف الحقيقة ونقمع هذه المعرفة، أو - بتعبير آخر - تقوم على فرضية وجود معرفة لاشعورية.. وتدل تجربتي في التحليل النفسي، لنفسي وللآخرين، على أن هذه الفرضية صحيحة فعلا.. فنحن ندرك الحقيقة، ولا نملك إلا أن ندركها. فكما أن لنا حواس هيئت لنرى بها، ونسمع ونشم ونلمس، عندما نحتك بالواقع، كذلك هيئ لنا عقل لندرك به الواقع أي لنرى به الأمور كما هي، أي لنبصر الحقيقة.. طبعا أنا لا أتكلم هنا عن ذلك الجانب من الواقع الذي يحتاج إدراكه لأجهزة أو لأساليب علمية خاصة، وإنما أتحدث عن الأمور التي يمكن إدراكها بالبصيرة المركزة وخصوصا الحقيقة الكامنة في النفوس" 5 ص 104.. ويقول: "تتعلق الكينونة بالصورة الحقيقية للواقع، لا الصورة الوهمية المزيفة.. وبهذا المعنى فإن أي محاولة لزيادة جانب الكينونة في وجودنا يعني زيادة نفاذ بصيرتنا في حقيقة أنفسنا وغيرنا، وفي العالم من حولنا.. والأهداف الأخلاقية الأساسية للديانات - وهي التغلب على الجشع والكراهية – لا يمكن تحقيقها إلا بتوفر جانب آخر، هو أن الطريق للكينونة يتطلب اختراق المظهر والوصول إلى الجوهر" 5 ص 105.. هذا قول مدهش، أن يأتي من شخص علماني، فهذا القول هو ما يقوم عليه الدين في جوهره.. فالدين يقوم على أن الحقيقة مركوزة فينا – في قلوبنا.. فالقلب في الدين هو بيت الرب، يقول تعالى، في الحديث القدسي: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن".. والسعة هنا بالطبع، سعة معرفة.. وهذه المعرفة التي فينا، حجبت من أن تنعكس على العقل الواعي، بسبب الكبت والحجب (الرين).. والسبيل إلى تحصيل هذه المعرفة، هو رفع الحجب، حتى ينعكس ما في القلب، على مرآة العقل الواعي – وهذه هي المعرفة – وسنرى هذا بالتفصيل.. أما الكلام عن (البصيرة) فهو حق، ولكنه مرتبط بالدين.. والمثل الذي ساقه فروم عن الأحلام، معبر جدا.. ففي أحلام البصيرة، كما يسميها فروم، يرى الإنسان وقائع، تحدث بالفعل، وكما هي، وقد تحدث في المستقبل القريب أو البعيد، وهذا توجد صورة منه عند معظم الناس.. هذا الشيء كان ينبغي أن يشغل الماديين بشدة، ويقودهم إلى معرفة خطأ منطقهم، فكيف يتجاوز العقل، وصاحبه نائم، الزمان والمكان؟؟
    هذا الذي نقلناه أعلاه عن فروم، يهمنا بصورة خاصة، وهو يختلف بصورة جذرية عن التصورات العلمانية، ويتفق بصورة مبدئية، مع الدين، وهو من إرهاصات أن الناس أصبحوا على أبواب حضارة دينية.
    هل هنالك بديل للكارثة:
    لقد وصلت الحضارة الغربية، إلى نهاية تطورها المادي، وأصبح الجانب المادي وحده، لا يكفي لتوجيه حياة الناس الوجهة الصحيحة، وحل مشكلاتهم.. ولقد رأينا رأي فروم، والنفر الكرام الذين تعرضنا لهم من مفكري الغرب، في نقد الحضارة.. وهنالك غيرهم يسيرون نفس السيرة، في عرض عيوب الحضارة الغربية الخطيرة، تعرضنا لبعضهم في كتابنا (السلام).. ولكن المهم، معرفة البديل.. وحتى في هذا المجال، يرى فروم أنه يقدم بديلاً، ونحن سنعرضه هنا، مع بعض آراء مفكرين آخرين.
    يتساءل فروم: هل هنالك بديل للكارثة!؟ ويذكر أن ما قاله في نقد الحضارة الغربية، ومخاطرها التي تهدد بفناء الحياة على الأرض أمر معروف للكافة "غير أن الحقيقة التي يصعب تصديقها هي أنه لا يبذل أي جهد جاد لتلافي ما يبدو، وكأنه حكم من القدر لا راد له.. وبينما نلاحظ فيما يتعلق بحياة الفرد أنه لا يمكن أن يقف شخص مكتوف اليدين وهو يرى خطرا ماحقا على حياته مقبلا عليه، إلا إذا كان مجنونا أو فاقد الرشد.. فإننا نلاحظ أن المسؤولين الموكلين بشؤوننا العامة لا يفعلون شيئا، وأن الناس الذين أوكلوا إليهم أمورهم يتركونهم على هذه الحال. ولكن كيف يمكن لأقوى غرائزنا، وهي غريزة البقاء، أن تبدو كأنها فقدت القدرة على تحريكنا؟ إن أحد التفسيرات البديهية يذهب إلى أن القادة والزعماء يتصدون لأعمال كثيرة تساعدهم على أن يتظاهروا بأنهم يعملون شيئا فعالا لتلافي الكارثة: مؤتمرات لا تنتهي، وقرارات، ومفاوضات لنزع السلاح.. كلها تعطي انطباعا بأن ثمة إدراكا لخطورة المشكلات، وأن جهودا تبذل لحلها.. ومع ذلك لا يحدث شيء ذو بال.. كل ما هنالك أن القادة والمقودين يخدرون ضمائرهم، ويموهون على إرادة البقاء فيهم – بالتظاهر بمعرفة الطريق والسير في الاتجاه السليم. وثمة تفسير آخر وهو أن القادة والزعماء، بسبب الأنانية التي يخلقها ويرعاها النظام، أصبحت الأولوية عندهم للنجاح والأمجاد الشخصية وليست للمسؤولية الاجتماعية، ولم يعد غريبا أو مثيرا للدهشة أن يقدم الزعماء السياسيون ورجال الأعمال على اتخاذ قرارات يرون أنها لصالحهم الشخصي، بينما هي ضارة وخطرة على اﻟﻤﺠموع.. وهذا أمر طبيعي.. فإذا كانت الأنانية دعامة من دعامات الأخلاق العملية المعاصرة فما الذي يجعلهم لا يتصرفون على غير هذا النحو؟ ويبدو أنهم لا يدركون أن الجشع مثل الخنوع يورث البلادة والغباء، حتى فيما يتعلق بالمصالح الحقيقية للإنسان. وأي مصلحة أكبر من العمل على الدفاع عن حياة الشخص نفسه، وعن زوجه وأطفاله؟ هذا بينما ينشغل الناس العاديون بشؤونهم الشخصية الأنانية الخاصة إلى الدرجة التي لا تترك لهم جهدا ووقتا للالتفات إلى أي شيء يتجاوز دائرة حياتهم الشخصية الضيقة." 5 ص 30.. ويقول: "يوجد تفسير آخر لقتل غريزة حب البقاء فينا، وهو أن التغييرات المطلوبة في الحياة هي من الجذرية بحيث تجعل الناس يفضلون وقوع الكارثة في وقت آجل، على قبول التضحية المطلوبة منهم الآن" 5 ص 30.
    في الواقع هنالك مؤتمرات عديدة، عُقدت من أجل مواجهة أزمة الأخلاق، ولكن أصحابها كما دخلوا منها خرجوا، لم يجنوا أي شيء إيجابي!! لكن موضوع السلام، وهو الموضوع الأهم - والخطر على السلام، هو الخطر الحقيقي الذي يتهدد الحياة على الأرض - فهو لا يكاد يجد أدنى اهتمام!! وقد اتفق لي أن دعوت أكثر من مرة، لقيام مونديالات عالمية على طريقة الرياضة، لمعالجة قضايا الإنسانية الخطيرة والعاجلة، وعلى رأسها قضية السلام، وقضية البيئة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
    المشكلة الأساسية، أن محاولات حل القضايا، يُراد لها أن تتم في إطار التوجيه العلماني الحالي، وهذا أمرٌ مستحيل!! لا بد من الارتفاع للأصول، وهذا الارتفاع سيؤدي بالضرورة إلى إعادة النظر في الإطار المرجعي للحضارة.. فأي محاولة للتغيير، دون تغيير هذا الإطار، لا معنى لها، ولا قيمة لها، ولن تفلح في تقديم أي شيء إيجابي.. المشكلة في الأصل الذي تقوم عليه الحضارة، ومن يحاول معالجتها في إطار ثوابت الحضارة نفسها، هو كمن يحاول أن يقوم الظل، والعود أعوج.
    مهما ظهر للحضارة من عيوب، ومن أسباب الفشل، فإن أهلها يتمسكون بها، كما يتمسكون بأي ملكية من ملكياتهم، مثل أصحاب الدين القديم، في مقاومة الأديان الجديدة.. هذا ما وجدنا عليه أباءنا دائماً قائمة، عند أي تغيير جذري، وهي لم تُجدِ ولن تُجدِي.. يقول تعالى: "وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ".
    يذكر فروم سبباً سيكولوجياً هاماً، للعزوف عن التغيير، وهو الرغبة في التكيف مع الآخرين، فيقول: "الكائنات البشرية تخشى أن تكون كائنات منبوذة خشية الموت.. ولكل مجتمع موقف حاسم من اختياره لأشكال التضامن والتوحد التي ينتقيها وينشئ أعضاءه عليها، ويدعمها في ظل ظروف بنيانه الاقتصادي الاجتماعي المعين" 5 ص 15.
    يرى فروم أن التغيير يجب أن يقوم على تغيير نظام القيم والأخلاق، فيقول: "هل يوجد أمل؟ نعم، هناك عدد غير قليل من العوامل التي تمنحنا بعض الأمل والتشجيع، فيزداد عدد الذين يؤمنون بأنه لكي يتجنب عالم الغرب دمارا ماديا محققا، فيجب تغيير نظام القيم والأخلاق الراهنة، واتخاذ موقف جديد من الطبيعة. ومن المؤشرات الأخرى ما نشاهده من تعبير متعاظم عن السخط على نظامنا الاجتماعي الحالي.. إن وهم »السعادة في الاستهلاك « لم يعد له وجود قوى إلا في البلاد التي لم تحقق الحلم البورجوازي" 5 ص 15.. ولكن ما الذي يجعل هذا التغيير في نظام القيم ممكناً؟؟ "هل يمكن التغلب على الجشع والحقد والحسد؟ طبعاً ممكن.. فهذه ليست صفات متأصلة في الطبيعة البشرية.. ومن ينظر للمسألة بعمق يجد أن قوة الجشع والحسد لا ترجع إلى شدة تأصلها، وإنما إلى صعوبة مقاومة الضغوط الاجتماعية على الفرد حتى يصبح ذئباً في عالم من الذئاب" 5 ص 15.
    من المؤكد عندنا أن الصفات السلبية، ليست هي أصل الصفات الإنسانية، ولكنها لعوامل عديدة، أصبحت الصفات السائدة، ولا يمكن معالجتها، بتغيير النظام الاقتصادي الاجتماعي وحده، هذا تبسيط مخل للأمور.. لا بد أن يقوم التغيير أساساً، على تغيير داخل الأفراد.. وهذا أمر مستحيل، في إطار الحضارة الغربية.. على كلٍ، نحن سنواصل في عرض تصور فروم وآخرين، للبديل المطلوب، ونؤجل مناقشته.
    نرجع إلى مفكر غربي آخر هو الاقتصادي أ.ف. شوماخر، فهو من الدعاة الإنسانيين.. وهو يدعو إلى تغيير جذري للشخصية الإنسانية.. وتقوم دعوته في هذا الصدد على فكرتين "إن نظامنا الاجتماعي الراهن يجعل منا كائنات مريضة، وأننا مندفعون نحو كارثة اقتصادية ما لم نغير نظامنا الاجتماعي تغييراً جذرياً.. إن الحاجة لتغيير إنساني عميق لا تنبع من كونها مطلباً أخلاقياً ودينياً فحسب، كما أنها ليست مطلباً سيكولوجياً منشؤه الطبيعة المرضية لنظامنا الاجتماعي، ولكنها – بالإضافة لكل هذا – شرط لمجرد بقاء الجنس البشري.. لم تعد الحياة الخيرة استجابة للمتطلبات الأخلاقية والدينية لأنه – لأول مرة في التاريخ – أصبح مجرد البقاء المادي للجنس البشري يتوقف على إحداث تغيير جذري في وجدان الإنسان وقلبه وضميره.. ولكن هذا التغيير يكون ممكناً بقدر ما يحدث من تغييرات اقتصادية اجتماعية جذرية، تتيح للقلب الإنساني فرصة التغيير، وتمنحه البصيرة والشجاعة اللازمتين" 5 ص 29.
    الملاحظ أن كل هؤلاء المفكرين العظام، الذين كتبوا عن ضرورة التغيير، حددوا الاتجاه الذي يمكن أن يحدث التغيير، وهو عندهم جميعاً تقريباً، هو الدين!! ونحن سنعود لهذا الأمر، ولكن من الأفضل أن نحصر أنفسنا، في تصورهم للتغيير المطلوب.. ففي هذا التصور عبقرية مدهشة!!
    أكثر ما لفت نظري، تركيز فروم على الوحدة، أو التوحد.. فلنستمع لهذا القول العظيم: "إن الرغبة الإنسانية في التوحد مع الآخرين متأصلة بجذورها في شرط الوجود المميز للجنس البشري، وهي من أقوى دوافع السلوك الإنساني. لقد فقدنا - ككائنات بشرية تجمع بين حد أدنى من الاستجابة لحكم الغريزة وحد أقصى لاستخدام العقل - توحدنا الأصلي مع الطبيعة.. ولكي لا نشعر بالعزلة التامة، وهي التي يمكن أن تدفعنا - حقيقة - إلى الجنون، فإننا بحاجة إلى توحد جديد مع الطبيعة، ومع إخواننا في البشرية.. وهذه الحاجة للتوحد مع الآخرين نمارسها بأساليب عديدة في علاقة الحنان مع الأم، ومع الإله المعبود، ومع الدين، ومع القبيلة والأمة والطبقة الاجتماعية، والإخوان والزملاء، وأعضاء المنظمة المهنية.. وطبيعي أن تتواكب هذه العلاقات، بعضها أو كلها، وكثيرا ما تتخذ أشكالا وجدانية جامحة" 5 ص 111.
    ويرى فروم، أن الوحدة هي الأصل الذي كانت عليه البشرية، لكن الخطيئة هي التي فرقتها!! ويستشهد بقول أورجين، الذي جاء فيه: "حيث توجد الخطايا توجد الفرقة، ولكن حيث توجد الفضيلة توجد الوحدة والتوحد" 5 ص 132.. ويقول ماكسموس كونفسور: "إن خطيئة آدم حولت الجنس البشري الذي يجب أن يكون كلاً منسجماً بلا صراع بين ما أملك وما تملك، حولته إلى سحابة غبار من أفراد متفرقين" 5 ص 132.. أما لبوياك فيقول: "يبدو الخلاص ضرورياً كفعل استعادة للتوحد الروحي مع الكائن الأعلى، وكذلك استعادة التوحد مع الكائنات البشرية الأخرى" 5 ص 133.
    يرى فروم أن الحاجة للدين حاجة أساسية.. وهو يقول عن الإيمان: "هل نستطيع أن نحيا من دون إيمان في صلاحية حياتنا وقيمها.. الحق أننا دون إيمان نصاب بالعقم، واليأس، والخوف، حتى آخر ذرة في كياننا" 5 ص 63.. ويميز فروم تمييزاً واضحاً، بين الرغبات الذاتية، والرغبات الموضوعية، فيقول: "لا يوجد في تعاليم المعلمين الكبار الآخرين ما يقول إن الوجود الواقعي لرغبة ما يشكل معيارا أخلاقيا. فقد كان هؤلاء المعلمون معنيين بسعي الإنسانية لتحقيق أعلى درجة من الحياة الطيبة. والعامل الجوهري في تفكيرهم هو التمييز بين الرغبات الاحتياجات المستندة إلى مشاعر ذاتية ، والتي لا يؤدي إشباعها إلا إلى لذة وقتية، ونوع آخر من الرغبات لها جذورها في الطبيعة البشرية، ويؤدي إشباعها إلى مزيد من النضج الإنساني والحياة الطيبة.. وبعبارة أخرى كانوا معنيين بالتمييز بين الاحتياجات النابعة من مشاعر ذاتية خالصة والاحتياجات الموضوعية الأصلية.. واحتياجات النوع الأول يلحق بعضها الضرر بالنمو والنضج الإنساني، بينما النوع الثاني هو الذي ينسجم ومتطلبات الطبيعة البشرية." 5 ص 22 ..
    يربط فروم الخلاص بالتخلص من الأنانية فيقول: "فليس ثمة سوى طريق واحد للخلاص من هذا الجحيم وهو تحرير أنفسنا من سجن أنانيتنا، والسعي لأن نوحد كياننا مع العالم من حولنا. لأنه إذا كانت العزلة التامة هي الخطيئة الأصيلة فإن الحب هو التكفير عنها" 5 ص 132.. وينقد فروم الحضارة الغربية بشدة لموقفها من الحب، وعنده هي التي ابتذلت الحب، عن طريق أسلوبها التملكي، فيقول مثلاً: "وتتضمن خبرة الحب وفق أسلوب التملك السيطرة على ما نحب، واحتوائه، وسجنه.. إنها عملية خنق وإهلاك، وليس عملية عطاء للحياة" 5 ص 65.
    ويقول عن الحاجة للدين، أن النوع الإنساني: "بحاجة إلى إطار للتوجيه، وبحاجة لموضوع يكرس من أجله حياته، لكي يستطيع مواصلة الحياة" 5 ص 145.. ويقول: "إن الحاجة الدينية مغروسة في شرط الوجود للنوع الإنساني" 5 ص 144.. ويقول: "توجد وظيفة هامة أخرى للشخصية الاجتماعية، فالشخصية الاجتماعية يجب أن تشبع للكائن الإنساني احتياجاته الدينية التي هي جزء أصيل من تكوينه" 5 ص 143.
    يميز فروم تمييزاً واضحاً بين السلوك الذي يقوم على الغريزة، والسلوك الذي يقوم على الفكر.. وهو يرى أن الحي كلما تطور، نقص عنده دور الغريزة، وزاد دور الفكر، وهو يستخدم الغريزة بمعنى (الحوافز البيولوجية العضوية).. ويعرف الإنسان من هذا المنطلق بقوله: "يمكن تعريف النوع الإنساني بأنه ذلك النوع من الرئيسيات الذي ظهر عند نقطة من التطور وصل فيها دور الغريزة إلى الحد الأدنى، وتطور المخ إلى الحد الأقصى" 5 ص 145.. هذا أقرب للتعريف الديني الذي يقول فيه الأستاذ محمود محمد طه، أن بداية الإنسان كانت مع (سيطرة العقل على الشهوة).. وهذه بداية الأخلاق، وبداية إنسانية الإنسان، وسنرى ذلك في موضعه.
    من أعظم ما قاله فروم: "ولعل أعظم اشتياق يعتمل في أعماق الكائن البشري هو أن يكون مجموعة متآلفة من الصفات، يتحد فيها القطبان، الأمومة والأبوة، الأنوثة والذكورة، الحرمة والعدل، الوجدان والعقل، الفطرة والذكاء" 5 ص 155.
    يقترح فروم، العمل على تنشئة إنسان جديد يتميز بناء شخصيته بعدة نقاط ذكرها، سنذكر هنا البعض الهام منها:
    1/ الاستعداد لنبذ التملك بكل أشكاله ، لكي يحقق كينونته تحقيقا كاملاً.
    2/ القبول بحقيقة أن لا شيء خارج الإنسان ذاته، ولا أحد آخر غير الإنسان ذاته يستطيع أن يعطي الحياة معنى. وإنما الشرط الواجب توفره لجعل الحياة مليئة نشيطة مكرسة للرعاية والمشاركة هو التجرد والاستقلالية الخالصة.
    3/ الحياة بغير عبادة الأصنام والأوهام، لأن الإنسان وصل إلى حالة لا تتطلب الاستعانة بالأوهام.
    4/ محاولة الحد من الشراهة والكراهية والأوهام بقدر الإمكان.
    5/ نبذ عشق الذات النرجسية، والقبول بالحدود المأساوية الكامنة في حالة الوجود الإنساني.
    6/ تنمية قدرة الإنسان على الحب، مع تنمية قدرته في الوقت نفسه على التفكير النقدي غير الانفعالي.
    7/ اعتبار النضج الكامل للذات وللجماعة هو الهدف الأسمى للحياة.
    8/ معرفة الإنسان ذاته، ليست الذات المعروفة فحسب، وإنما أيضا الذات غير المعروفة.
    9/ الإحساس بالتوحد مع الحياة بكل تجلياتها، ومن ثم نبذ هدف قهر الطبيعة وإخضاعها، واستغلالها وانتهاكها وتدميرها.. وإنما الهدف هو فهم الطبيعة والتكافل معها.
    10/ عدم خداع الآخرين، وعدم السماح للآخرين بخداع الذات.. فالبراءة لا تعني السذاجة.
    11/ الحرية.. ليس بمعنى الاختيار التحكمي، وإنما بمعنى إمكانية أن يكون الإنسان تحقيقا لذاته، لا كحزمة من الرغبات الشرهة، وإنما كبناء قائم على توازنات حساسة، مواجه في كل لحظة بالاختيار بين النمو والاضمحلال، بين الحياة والموت.
    هذه النقاط في معظمها جيدة، وبعضها لا نقف معه، والآخر مبهم.. ولكن ليس هذا هو المهم، وإنما المهم ما هو السبيل لتحقيق الإيجابي منها؟؟ من المستحيل تحقيق هذه النقاط، في إطار المرجعية القائمة على المادية والعلمانية، وفروم لم يأتِ ببديل واضح في ما يتعلق بتصور الوجود الذي يبني عليه.. هنالك إشارات للدين، ولكنها غامضة، وغير محددة، وبصورة خاصة لا يوجد أي حديث عن المنهاج، الذي يقوم على معرفة طبيعة الوجود والطبيعة البشرية، ودون هذا المنهاج، يصبح الحديث مجرد تنظير!! ولكنه تنظير عظيم جداً!! يعبر عن الأشواق الإنسانية، وله على الأقل فضيلة أنه يحاول في حدود إمكانياته العمل على الخروج من أزمة الإنسانية، وهذا في حد ذاته عمل عظيم جداً.
    الأمر المحسوم بصورة لا لبس فيها، أن العلمانية وصلت إلى طريق مسدود، ولا بد من البحث عن البديل في غيرها.. وقد تنبه هؤلاء المفكرون العظام، الذين تعرضنا لهم، إلى أن الحل في الدين، وهذا صحيح بصورة مبدئية عامة، ولكنه يحتاج إلى كثير من التوضيح.
    لا يمكن لأحد، أن يتعامى عن الإنجازات العظيمة جداً للحضارة الغربية، في مجال العلم، ومجال التقدم التكنولوجي، الأمر الذي أدى إلى إخصاب الحياة المادية بصورة ليس لها أي مثيل، في تاريخ الحضارات السابقة.. كما لا يمكن لأحد، أن يغفل أن كل ما أنجزته الحضارة لم يحقق السعادة للإنسان.. بل لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا الإنجاز قد صحبته معايب خطيرة، تؤدي للشقاء، وربما – لا قدر الله – لإفناء الحياة على الأرض.
    نحن لم نتحدث عن قاع الحياة في الغرب: لم نتحدث عن حالة التفكك الاجتماعي والأسري، لم نتحدث عن الانتشار الرهيب للمخدرات، وما يترتب عليها.. لم نتحدث عن الإنحلال الذي يكاد يكون تاماً، في السلوك الجنسي، وما يترتب عليه، ولا عن الكحول.. والجريمة المنظمة.. والإتجار في البشر.. والإتجار في الأعضاء البشرية.. وتجارة الجنس.. لم نتحدث عن الغبن الاقتصادي عند فقراء العالم، الذين يموت الكثير منهم جوعاً، أو بسبب الأمراض، أو بسبب الحروب التي يشعلها رأس المال.. نحن لم نتحدث عن كل ذلك، أولاً: لأنه معروف جداً، ثانياً: لأننا نحب أن نتناول المباديء والقيم الأساسية المتعلقة بالحياة.. وما ذكرناه من مخاطر، هو ثمرة الخلل الأساسي في المباديء الموجِهة للحياة في الحضارة الغربية.
    يمكن أن نكتفي فقط بالأمر الأساسي وهو: الحياة في الحضارة الغربية تقوم على المادية، وهي حياة في طبيعتها بيولوجية، وتنتهي بالموت، ولا يوجد في إطار المادية أي احتمال لتصور آخر.. وبصفتها حياة مادية، هي حياة بلا معنى ولا هدف نهائي، خارج إطار المادة.. والموت الحسي، يعتبر في الإطار المرجعي لهذه الحضارة، صيرورة إلى العدم، ومن المستحيل تجاوز تصور الموت هذا، إلا بتجاوز المادية، وفي هذه الحالة يجب أن يكون التجاوز إلى مرجعية أخرى غير التي تقوم عليها هذه الحضارة.
    كل التفاصيل الأخرى، هي تعبير عن أزمة هذا التصور القاصر للحياة.. والسبب الأساسي فيه هو التصور القاصر والخاطيء، لطبيعة الوجود وللطبيعة الإنسانية.
    نقف هنا عن الحديث عن الحياة في الحضارة الغربية.. وسندخل على الحديث عن الحياة في الإسلام.. ولن يكون حديثنا مجرد إظهار لمعالجة الإسلام للقضايا التي فشلت الحضارة الغربية في معالجتها.. وإنما سيكون حديثاً مختلفاً يقوم على تصور الإسلام للوجود، وللطبيعة البشرية وللحياة.. والحديث في جميع المجالات، حديث متسق، متكامل، ينبني على رؤية واضحة، تخاطب عقول كل الناس ـ من يؤمنون بمرجعيته، ومن لا يؤمنون ـ وسيذهب حديثنا عن الحياة، وعن مستقبلها، إلى مجالات لا تخطر بعقول العلمانيين.. فعلى القاريء أن يصطحب المشكلات التي أثارتها الحضارة الغربية، وعجزت عن إيجاد الحلول لها.. فمعالجتنا لهذه المشكلات تجيء ضمناً، ودون الحاجة لإعادة التنبيه لها.

    29/9/۱9























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de