قراءة في انعكاسات أزمة الحكم في السودان على واقعه الاقتصادي والاجتماعي بقلم د. سيد البشير حسين تمام

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 05:07 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-22-2019, 04:56 PM

سيد البشير حسين تمام
<aسيد البشير حسين تمام
تاريخ التسجيل: 02-28-2014
مجموع المشاركات: 8

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
قراءة في انعكاسات أزمة الحكم في السودان على واقعه الاقتصادي والاجتماعي بقلم د. سيد البشير حسين تمام

    04:56 PM August, 22 2019

    سودانيز اون لاين
    سيد البشير حسين تمام-
    مكتبتى
    رابط مختصر





    إعداد
    د. سيد البشير حسين تمام

    تعديل الخرطوم سبتمبر 2018




    الفهرس















    تمثل هذه الورقة نظرة تمهيدية (a preview) لانعكاس أزمة الحكم على واقع السودان الاقتصادي والاجتماعي، وليست مراجعة شاملة (a review)،
    والورقة في تقديري قابلة للتطوير لتكون مشروع كتاب،
    وبالتالي فإن آراء وملاحظات كل من يطّلع عليها تمثل إضافة حقيقية ومطلوبة والأكيد أنها محل ترحيب.







    قراءة في واقع الاقتصاد السوداني
    (1) توطئة
    دائما ما يشار إلى أن الاقتصاد والسياسة بأنهما وجهان لعملة واحدة، ويرتبط بهما بشكل مباشر العامل الاجتماعي. وبالتالي لا غرو أن ينسحب هذا التفاعل على هذه "القراءة في واقع الاقتصاد السوداني".
    تشير محصلة هذه الورقة إلى حاجة السودان الملحة لتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، تتجاوز نهج المراوغات السياسية الضيقة والخطط الاقتصادية الإسعافية قصيرة الأجل، بغية الوصول إلى درجة من الاستقرار السياسي بإنهاء الحروب والتداول السلمي للحكم والانتعاش الاقتصادي بتحقيق معدلات نمو جيدة ومستدامة مما قد ينعكس إيجابا على حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية، خاصة لما تواجهه البلاد من مخاطر الركود الاقتصادي والتفكك الاجتماعي وفوق ذلك ضياع لسودان برمته، إذا ما تأخرت هذه الإصلاحات. ويزيد من هذه المخاطر، على الأقل في الوقت الراهن ما يشهده السودان من تأزم الأوضاع الداخلية بسبب استمرار حروب دارفور وكردفان والنيل الأزرق، والتباس وانغلاق الآفق السياسي الداخلي (خاصة مع إصرار الحزب الحاكم بإجراء تعديلات في الدستور تسمح بترشيح الرئيس البشير في انتخابات 2020)، والتوترات الإقليمية التي صاحبت "الربيع العربي" والحروب التي تلته (كحرب اليمن) وما خلقته من تعقيدات في العلاقات العربية -العربية، وفوق ذلك البيئة الاقتصادية الخارجية المليئة بالتحديات. هذه الأوضاع الفاشلة داخليا والخانقة إقليميا وعالميا، لم تساهم في الحؤول من تحقيق تطلعات الشعب السوداني في العيش الكريم فحسب، بل خلقت بعضا من المقاساة والمعاناة الصامتة لأهل السودان، للارتفاع المتواصل في تكلفة المعيشة، وانكشاف الاقتصاد بزيادة حجم المديونية، والعجز في ميزان المدفوعات، وانخفاض سعر صرف الجنيه السوداني مقابل العملات الحرة الي مستويات غير مسبوقة، بالإضافة إلى الارتفاع المستمر في معدلات التضخم.
    والأَمَر، هو تفاقم هذه المقاساة يوما بعد آخر (Sudan's Silent Suffering Is Getting Worse) بعودة أزمات وصفوف الخبز والمواد البترولية والمواصلات، لتزيد من بؤس واقع الناس المعاشي بتآكل مصادر دخلهم المحدود أصلا. والأكيد أن نتيجة استمرار هذه المعاناة هو ارتفاع حدة السخط الشعبي واندلاع عاصفة من الاحتجاجات (stormy clouds ahead) وانفجار الوضع برمته، مما قد يزيد من تعقيدات الوضع السياسي الراهن، ويقفل بلا رجعة "لا سمح الله" فرص تنفيذ الإصلاحات والحلول المطلوبة.
    والغريب في الأمر أنه بالرغم من كل هذا الحريق الذي بات يتهدد وجودنا كأمة سودانية، إلا أننا حكام ومحكومين ركنا إلى ذلك الواقع المأساوي. فالسلطة التزمت صمت القبور حيال هذا الوضع الداخلي المأزوم وجهودها مبذولة خارج الحدود والشعب غير آبه ولا يحرك ساكنا كأنما ما يحدث هو في كوكب آخر، لتنطبق علينا مقولة السيد/ جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسيّة سنة 2002، في قمة الأرض «إن المنزل يحترق ونحن ننظر إلى مكان آخر».
    يجدر بالذكر أن الدول التي تعاني من اختلالات هيكلية في اقتصادها، دائما ما تواجه صعوبات جمة في الحصول على "التمويل الخارجي المباشر" لتتمكن من إعادة توازن اقتصادها، وقد تحصل على قروض من بعض مؤسسات التمويل الدولي بشروط ومعالجات تقترحها هذه المؤسسات، إلا أن هذه الشروط والمعالجات دائما ما تتصادم مع تطلعات الشعوب لانعكاساتها السالبة على واقع معاشهم. وبالتالي يكمن الحل في الاعتماد المرحلي على الذات بالتحرر الجزئي، وهو أسلوب مجرب (ماليزيا مثالا)، أو التكامل الإقليمي إن كان لذلك من سبيل.
















    (2) الاقتصاد السوداني - سمات وأرقام ومؤشرات هامة
    2-1 سمات هامة
    تاريخيا يعتبر الاقتصاد السوداني اقتصادا تقليديا، تغلب على مكوناته الرئيسية "الرعي والزراعة والتجارة التقليدية"، وطابعه الاكتفاء الذاتي، والتفاخر أحيانا. وحديثا بدأ إدخال العلم واستخدام بعض التقنيات الجديدة في الزراعة والصناعة (البترول مثالا)، ليواكب اقتصاد السوق، مع وجود بون شاسع مع الاقتصاديات التي تنحي هذا النهج. ويشكل الاقتصاد غير الرسمي (informal economy) نسبة مقدرة من حجم الاقتصاد، وهو مصدر لحجم مقدر من فرص العمل أيضا.
    ومن المعرف أن السودان يتمتع بثروات (موارد) طبيعية ضخمة (resource endowments) وموقع جغرافي متميز. ففي جانب الموارد الزراعية (نباتية وحيوانية)، تقدر الأراضي الصالحة للزراعة (arable land) بحوالي 200 مليون فدان (000 840كم 2)، يستغل منها حاليا 18% - 20% فقط، وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى طبيعة الأرضة المنبسطة التي تسهل كثيرا مسألة استغلالها، وتقدر مساحة المراعي والغابات بحوالي 400 مليون فدان. كذلك تتوفر بالسودان كميات كبيرة من المياه الصالحة للزراعة والشرب مثل مياه النيل والمياه الجوفية والتي تقارب (أو تفوق حسب بعض المصادر) في أحجامها حجم مياه النيل بالإضافة إلى مياه الأمطار. وتقدر حصة السودان من مياه نهر النيل وروافده بحوالي 18.5 مليار م3 في العام، يستغل السودان منها فعلياً حوالي 12.2 مليار م3، كما يقدر مخزون المياه الجوفية بحوالي 15.2 م3. وتقدر أعداد الثروة الحيوانية بأكثر من 100 مليون رأس. وفوق ذلك يتميز السودان بمناخ يشمل جميع فصول السنة في ذات الوقت، مما يعطي ميزة نسبية كبيرة لتنويع المنتجات الزراعية.
    وسبق أن وصف السودان بأنه ثالث ثلاثة دول في العالم لحل مشكلات غذائه، بجانب كندا وأستراليا. ولامتلاكه لهذا الموارد الضخمة، ولهذا الوصف كانت لا تخلو أي دراسة لنيل درجة الماجستير في الاقتصاد الزراعي بكلية الزراعة – جامعة الخرطوم، في ثمانينيات القرن الماضي من هذه العبارة الاستفتاحية "الزراعة هي العمود الفقري لاقتصاد السودان وستظل كذلك حتى ولو أُكتشف النفط وتم استغلاله بصورة تجارية". وهذا ما أكده الواقع، إذ ظلت الزراعة بالفعل ولسنوات طويلة وإلى وقت قريب أساس صادرات السودان والرافد الرئيسي لخزينة الدولة بالنقد الأجنبي بنسبة حوالى أكثر من 90%.
    أما في جانب ثروات باطن الأرض، فيقدر إنتاج السودان من النفط بعد الانفصال بحوالي 115 ألف برميل يومياً، ويرجح أن يرتفع إلى نحو 200 ألف برميل يوميا. وتتوافر فيه العديد من المعادن، إذ تقدر احتياطيات الكروم بحوالي 700 ألف طن، والمنغنيز بأكثر من 100 ألف طن، والأسبستوس نحو 53 مليون طن، والتلك بأكثر من 25 مليون طن، والجبس بأكثر من 150 مليون طن، والكاولين بنحو 1.2 مليون طن، وأخيرا الماغنزايت بنحو 15 مليون طن. أما الغاز الطبيعي فتقدر الكمية المكتشفة منه بحوالي 500 بليون قدم3 في البحر الأحمر.
    كذلك يتمتع السودان بموارد سياحية تشمل مقومات كل أوجه السياحة من سياحة التاريخ والآثار، وسياحة الصحراء، وسياحة الصيد البري، والسياحة النهرية، والسياحة المناخية (أركويت وجبل مرة). وفي هذا الجانب يعتبر السودان واحداً من أكبر عشر دول في العالم بإمكانيات سياحية، وهذا ما يتيح بأن تكون السياحة رافدا حيويا للدخل القومي إذا ما أحسن استغلال هذه الموارد.
    أما جغرافيا فتصل مساحة السودان إلى ما يقرب من 2 مليون كم 2. ويحده7 دول (هي مصر، وليبيا، وتشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ودولة جنوب السودان، وأثيوبيا، وأرتيريا)، 4 منها (هي تشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ودولة جنوب السودان، وأثيوبيا) لا توجد لديها موانئ (منافذ) بحرية مما يتيح للسودان فرص الاستفادة من رسوم العبور والموانئ. ويشكل هذا الجوار سوقا ضخما للمنتجات السودانية خاصة الزراعية منها، كما أن السودان جزء من اتفاقية "دول الكوميسا"، ومن أهم مزاياها أنها تتيح دخول البضائع بين دول الاتفاقية دون ضرائب أو جمارك، مما يتيح للسودان فرص الوصول إلى "سوق ضخم" يصل إلى حوالي 400 مليون نسمة هم سكان الدول الموقعة على هذه الاتفاقية. بالإضافة إلى ذلك يمكن للسودان بحكم موقعه الاستراتيجي الذي يتوسط قارتي أفريقيا وآسيا، إعادة تخطيط مجاله الجوي باستغلال ممرات الملاحة الجوية فوق الفضاء السوداني، للاستفادة من الحركة الجوية المتزايدة بتقديم خدمات الملاحة الجوية.
    هذه الموارد الطبيعية الضخمة والموقع الاستراتيجي، جعلت البلاد عرضة للأطماع الخارجية، وعاملاً حاسماً في تدفق الهجرات السكانية إليه عبر الزمان من مناطق وأقاليم مختلفة من خارجه، مثل ما كانت عاملاً حاسماً في تعرضه لموجات استعمارية عديدة (المجلة الاقتصادية).
    . والمؤسف حقا هو فشل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى اليوم في استغلال واستثمار هذه الموارد بالشكل الأفضل لصالح ورفاهية الشعب السوداني، وفي ذلك الفشل يقول الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس "البلد الذي لم يفهمه أهله". والشاهد أن أهم أسباب هذا الفشل هو أن هذه الحكومات المتعاقبة وقعت فريسة سهلة تحت قبضة مثلث آسن من الانكفاء الحزبي وغياب التخطيط الاستراتيجي، وحرب الجنوب. وفي عهد الإنقاذ أصبح هذا المثلث مربعا آسنا بإضافة ضلع رابع هو "عامل الفساد"، وتؤكد الأرقام والمؤشرات في الجدول التالي هذا الفشل. فالأوضاع الاقتصادية وبيئة الاستثمار متدهورة للغاية، باستمرار انخفاض نسب النمو في الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع نسب البطالة، وانخفاض قيمة العملة الوطنية. وتشير هذه العوامل مجتمعة إلى "ضعف القوة الشرائية". إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في سرعة انزلاق هذه الأرقام والإحصائيات إلى الأسوأ، وكذلك تحديات إيجاد نموذج اقتصادي بديل لنموذج اقتصاد ما قبل الانفصال المعتمد على النفط، بالإضافة إلى تحدي إزالة صورة السودان القاتمة التي تراكمت في وعي الرأي العام العالمي خلال العقود القليلة الماضية كبلد موبوء بالحروب والفقر والبؤس والمجاعات، خاصة أن هذا الانزلاق قد يقود إلى ما يعرف بالركود التضخمي (Stagflation) وهو من أخطر الآفات الاقتصادية.
    2-2 أرقام ومؤشرات مختارة عن الاقتصاد الكلي:

    جدول يوضح بعض مؤشرات الاقتصاد الرئيسية

    المصدر: بنك السودان المركزي ووزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، وتقديرات صندوق النقد الدولي.
    1 بلغ سعر صرف الجنيه السوداني حوالي 3 دولار للجنيه قبل عام 1978، وكان أول تخفيض لقيمته في سنة 1978، عندما خفضت قيمة الجنيه إلى 2.78 دولار. حاليا في السوق الموازي واحد دولار = 47,000 جنيه (يوليو 2018).
    2 يعيشون بأقل من دولارين في اليوم.

    2-3 أرقام ومؤشرات من تقارير محلية وعالمية:
    بلغت عائدات محصول القطن في عام 2012 حوالي 11,8 مليون دولار فقط، بينما كانت هذه العائدات فيعام 1988 حوالي 250 مليون دولار.
    بلغ إنتاج السودان من الحبوب في آخر موسم زراعي قبل حلول حكم الإنقاذ 4.2 ملايين طن، فيما وصل إلى 2.7 مليون طناً في موسم 2011-2012.
    من حيث الناتج الإجمالي المحلي (GDP) تضع تقديرات صندوق النقد الدولي الصادرة لعام 2013، السودان في المرتبة 130 عالميا من 183 دولة، للعام 2009.
    حل السودان في المرتبة 173 عالميا (من بين 189 دولة)، و16 عربيا (من بين 17 دولة ويليه اليمن) في تقرير "معدل دخل الفرد" الذي يمثل حاصل قسمة الناتج الإجمالي المحلي على عدد السكان، والذي يصدره "صندوق النقد الدولي"، للعام 2016.
    حل السودان في المرتبة 135 عالميا (من بين 189 دولة)، و15 عربيا (من بين 17 دولة)، تقرير "سهولة ممارسة أنشطة الأعمال" الذي يصدره البنك الدولي ومنظمة التمويل الدولية لعام 2014.
    لم يتم تصنيف السودان في تقرير التنافسية الذي يصدره "المنتدى الاقتصادي العالمي" للعام 2013/2014" لعدم توفر البيانات التي تطلبها معايير التصنيف.
    حل السودان في المرتبة 15 عربيا (من بين 17 دولة) و139 عالميا (بين 189 دولة) في تقرير "مؤشر دفع الضرائب "الذي تصدره البنك الدولي بالتعاون مع برايس ووترهاوس كوربز لعام 2014.ويهدف التقرير الى رصد ممارسة أنشطة الضرائب والاشتراكات الإجبارية المفروضة على الشركات، وكذلك لإجراءات التي تمثل عبئا إداريا في دفع الضرائب والاشتراكات.
    حل السودان في المرتبة 15 عربيا (من بين 17 دولة) و170 عالميا (بين 189 دولة) في تقرير "الحرية الاقتصادية" الذي تصدره مؤسسة هيرتيجفا ونديشن الأمريكية )أحد مراكز البحث العالمية التي تعنى بالسياسات العامة القائمة على مبادئ الانفتاح التجاري والاقتصادي وتحجيم دور الحكومة في الاقتصاد) وصحيفة وولستر يتجورن السنوية، للعام 2014.
    حل السودان في المرتبة الأخيرة عربيا (من بين 17 دولة) و166 عالميا (بين 186 دولة) في مؤشر التنمية البشرية الذي يصدره "البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة"، للعام 2014.
    حل السودان ضمن قائمة الدول الثلاث الأكثر فساداً في العالم بحسب تصنيف مؤشر "منظمة الشفافية الدولية" للعام 2014.




    (3) مثبطات نمو وتطور الاقتصاد السوداني:

    يمكن تقسيم مثبطات النمو والتطور الاقتصادي إلى مجموعتين من العوامل:
    3-1عوامل مرتبطة بممارسات حكومية، ومن أهمها:
    3-1-1 الانكفاء الحزبي والقهر الحكومي:
    انغلقت الحكومات المتعاقبة على الحكم وانكبت على نفسها، وجعلت السلطة والحكم محاورا لصراع عبثي أهدر وقتا ثمينا من عمر البلاد هو عمر استقلالها. إذ اشتغلت بأجندتها الخاصة ومكاسبها الحزبية الضيقة ومصلحة عضويتها، وأهملت بغباء مصلحة البلاد والعباد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمنذ استقلال السودان في يناير 1956، رضخ السودان لمدة 51 عاما تحت قهر حكومات دكتاتورية (تشكل حوالي 82% من عمر استقلاله البالغ 62 عاما). ومن المعروف أن مناخ القهر الحكومي يحجر الفكر ويقتل الإبداع في كل مجالاته. وفي هذه يقول الإمام العادل الفاروق عمر رضي الله عنه "أتستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". وحتى الحكومات المسماة ديمقراطية، أضاعت وقتا مقدرا من عمرها في مماحكات سياسية وصراعات على المناصب الوزارية (وزارة التجارة كنموذج للصراع بين حزبي الأمة والاتحاد الديمقراطي أبان فترة الديمقراطية الثالثة). ورسخت حكومة الإنقاذ هذا الانكفاء بابتداع "فقه التمكين". هذا القهر الحكومي والانكفاء الحزبي أشاعا جوا من عدم الاستقرار السياسي، وأهملا الإدارة الحصيفة للاقتصاد والاستغلال الأمثل للموارد والقدرات البشرية التي يتمتع بها السودان.

    2-1-3 إهمال أو ضعف عنصر التخطيط الاستراتيجي (سوء الإدارة):
    منذ الاستقلال وحتى اليوم، افتقرت معظم الخطط والبرامج الاقتصادية إلى الرؤية الشاملة، خاصة تلك التي توجه الاستثمار العام والخاص نحو القطاعات المنتجة، كما أنها اتسمت بعــدم وضوح عناصر الخطط الاستراتيجية الأساسية، إذ أنها دائما من تكون آنية إسعافيه، أو تقشفية قصيرة الأجل. كما أن أهدافها تبدو هلامية (vogue)، واحتياجاتها وإجراءات تنفيذها غير محددة بوضوح، وفوق ذلك لا تتفق مع حجم الموارد المخصصة لتنفيذها. كذلك دائما ما تهمل هذه الخطط تجاربنا الذاتية وتجارب الشعوب دونما استفادة منها، أي أنها دائما ما تبدأ من الصفر (starting from scratch). وفي عالم اليوم من الغباء الانطلاق من العدم بالرغم من وجود إرث حضاري ثر وضخم في شتى ضروب الحياة، يمكن ويجب الاستفادة منه، وهو ما يشار إليه في بعض الدراسات بمبدأ "التكاملية النشيطة". والأمثلة الصارخة للاستفادة من تجارب الشعوب، هو أن أمريكا بدأت من حيث انتهي الآخرون، وتحديدا حيث انتهت أوربا مركز الإشعاع في ذلك الوقت. مثال آخر هو أن قطاع الزراعة في المملكة العربية السعودية مع بداية الطفرة في سبعينيات القرن الماضي استخدمت فيه آخر التقنيات الزراعية الحديثة المتبعة في الدول المتقدمة، لذلك وصلت بإنتاجيات محاصيل أساسية (القمح مثالا) إلى أرقام قياسية، لم نصلها نحن الذين نمتهن مهنة الزراعة منذ آلاف السنين. ومن أمثلة البدء من نقطة الصفر أيضا أن سوق الخرطوم للأوراق المالية وفي عصر تقنية المعلومات بدأ بنظام يدوي في نهايات القرن العشرين (عام 1999). وبديهي أن ينعكس ضعف التخطيط في سوء استغلال وإدارة الموارد المتاحة للدولة.
    وساهم في ضعف الخطط، عدم توفر الإحصاءات الدقيقة والحديثة. وكنموذج لعدم توفر الإحصاءات فإن آخر تصنيف "للحرية الاقتصادية" للسودان كان في عام 2000، إذ لم تتوفر بيانات معايير تصنيف السودان بعد ذلك التاريخ وحتى اليوم. وفي هذا الصدد، توجه بعض المنظمات الدولية للحكومة السودانية تهمة تعمد إخفاء بعض المعلومات والإحصاءات، وتسوق مثالا لذلك "وضع الصرف على الدفاع والأمن في الميزانية تحت بند أخري بالرغم من كونه يشكل نسبة معتبرة منها".

    3-1-3 انعكاسات حرب جنوب السودان:
    كانت حرب الجنوب "صناعة إنجليزية"، كما "كفرات بريدجستون وطلمبات اللستر الشهيرة في السودان"، وذلك لاتباع الدولة المستعمرة سياسة المناطق المقفولة من العام 1922وحتى 1947، لمحاربة انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية. وتشير هذه الحرب اللعينة إلي خبث الاستعمار الإنجليزي في زرع"خواذيقا" في مستعمراته، لاستنزاف موارد البلد المحتل بعد خروجه منها (بجانب حرب جنوب السودان، تقف حرب كشمير بين الهند وباكستان شاهدا على ذلك). وحرب جنوب السودان هي الأطول في تاريخ حروب القارة الأفريقية (إذ استمرت لأكثر من خمسين عاما) وكانت الأكثر دمارا وخرابا، والأكبر خصما واستنزافا لموارد البلد المادية والبشرية والفكرية، مما أقعد بالاقتصاد وعطل النهضة والتنمية والنمو وإجمالا أناخ بالسودان. وكان من الممكن إنهاء هذه الحرب في وقت باكر بُعيد الاستقلال "لو خلصت نوايا الحكومات المتعاقبة"، دليل ذلك هو ما أفرزته عملية السودنة من أضغان، واندلاع الحرب مرة أخرى بعد توقفها عند توقيع اتفاقية أديس أبابا بين حكومة مايو وحركة الأنانيا في 1972 لعدم التزام حكومة مايو ببعض بنود الاتفاقية، وكذلك كانت اتفاقية "قرنق – الميرغني" على وشك التوقيع، لولا استباق انقلاب الإنقاذ المشؤوم في يونيو 1989 لذلك الاتفاق، وفرض حرب جهادية (كما أسلفنا) وفوق ذلك زاعما بأن هذه الحرب يمكن حلها باستخدام قوة السلاح، مما أطال من أمدها وفاقم من أضرارها أيضا.

    عوامل مرتبطة بثقافة الفرد السوداني"مساعدة للمجموعة العوامل الأولي":
    3-2-1 عدم الاكتراث لعنصر الزمن:
    يصف علم الاقتصاد الحديث الزمن بأنه من "العناصر النادرة" التي يجب توظيفها جيدا، إذ لا يمكن استرجاع ما فات منه. إلا أن عدم الاكتراث بعنصر الزمن أصبح جزءا من ثقافة الفرد السوداني، حتى أن عبارة "مواعيد سودانيين" أصبحت جوازا لكل "تأخير" في شتي مواقيتنا المضروبة. ومن أشهر عبارات عدم الاكتراث هذه "السايقة واصلة"، و"لو كان الشغل بيخلص كان أدوهو مقاول"، عند التأخير عن أي مواعيد. المؤلم أن عدم الاكتراث بعنصر الزمن هذا كان سببا في إطلاق صفة "كسالى" على سوداني المهاجر، وقللت أحيانا من فرصهم في التنافس الوظيفي فيها.

    3-2-2 ضعف مهارة التدبير والادخار (Bad Savers):
    يمثل الادخار أحد محركات الاقتصاد لتمويل الاستثمار والتنمية، إلا أننا كشعب وللأسف نفتقد إلى مهارة التدبير والادخار. ومن أشهر العبارات التي تصف هذا الضعف "الله ما شقا حنكا ضيعو"، "أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب". ولا يخفي أن جانبا مهما من هذا الضعف سببه ضعف دخل الفرد.

    3-2-3ضعف الإرادة وقلة الصبر والعجلة وعدم الاكتراث:
    قوة الإرادة والصبر والتريث عناصر أساسية لبلوغ الغايات. إلا أننا كأمة سودانية أصبحنا نفتقر إلى العزيمة والإرادة (easily disappointed) ونستعجل (in hurry) النتائج وبلوغ الغايات دون صبر وتروٍ، والأمَر هو عدم الاكتراث (being indifferent) الذي وصل حدا مبالغا فيه، وليس أدل على "عدم الاكتراث" هذا من اللامبالاة وعدم التفاعل مع ما يجري في بلادنا اليوم على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأستشهد هنا بمثال واحد "أن الشعب السوداني لم يحرك ساكنا أو منعا لانفصال جنوب السودان"، وهل من مثال أقسي من ذلك.

    3-2-4 استباحة المال العام:
    هذه الاستباحة يمكن أن تكون عن قصد وهو ما يمثل "فسادا"، أو "بدون قصد". والأخير هو ما يعنينا في هذا المقام. ومن أمثلته استغلال سيارة وهاتف "العمل" لأغراض خاصة، أو الذهاب لمناسبة اجتماعية في وقت العمل، والنوم في المكاتب الحكومية في نهار رمضان (التكييف). وهذه تمثل استغلالا لموارد عامة بدون وجه حق، وهي بالتالي هدر لموارد الدولة. ومن أبلغ ما قيل في استباحة المال العام، مقولة الراحل جون قرنق "الحكومة هي كائن يجب نهبه/Government is an object to be looted ".

    3-2-5 ضعف ثقافة الاستثمار:
    تتضح ضعف ثقافة الاستثمار لدى الفرد السوداني في قلة عدد المشاريع والمؤسسات الإنتاجية الاستثمارية الفردية الوطنية العاملة بالسودان، إذ تنحصر تاريخيا مجالات الأعمال في عدد محدود من الأفراد والأسر السودانية، وفوق ذلك دائما ما ينحصر نشاطها على قطاعات الخدمات لا القطاعات الإنتاجية. وهذا ما حدا البعض إلى وصف رأس المال السوداني "بالجبان". الغريب في الأمر أن يحدث ذلك بالرغم من أن قانون الشركات السوداني وضع في عام 1925، ويومها تعيش معظم دول الجوار الأفريقي والعربي (دول الخليج الغنية حاليا) في ظلام دامس. وساهم في ضعف هذه الثقافة ضعف برامج الدولة في تحفيز وتشجيع استثمارات القطاع الخاص وريادة الأعمال للمؤسسات متناهية الصغر والصغرى والمتوسطة. يجدر بالذكر في هذا المقام أن بعض شركات القطاع الخاص "شركة دال مثالا" تقف شامخة (رغم بعض التحفظات) استثناء من هذه القاعدة.
    (4) مشاكل (آثار مثبطات) الاقتصاد السوداني:
    نتيجة المثبطات المشار إليها يعاني الاقتصاد السوداني من عدة مشكلات واختلالات هيكلية مادية وغير مادية في بنيته، يمكن إيجازها في التالي:

    4-1 التنمية غير المتوازنة:
    تعاني أجزاء واسعة من البلاد من مشكلة التنمية غير المتوازنة، والتي شكّلت عاملاً أساسياً من عوامل الاحتراب وعدم الاستقرار والتطور في السودان، بدعاوي التهميش. ومن أبرز مظاهر التنمية غير المتوازنة ارتفاع معدلات الفقر (جدول ص 8)، خاصة في الريف، وغياب أو ضعف الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ومياه شرب نقية وكهرباء في الكثير من المدن الولائية والأرياف، وعدم وجود مشاريع إنتاجية في الكثير من أطراف البلاد. وأدي عدم توزان التنمية إلى بروز هجرات كبيرة انتظمت أرياف السودان إلى المدن الرئيسية، الأمر الذي نتج عنه تكدس السكان وبالتالي اختلال الخدمات في هذه المدن، علاوة على إفراغ بعض الأرياف من الأيدي العاملة التي تحتاجها عجلة الإنتاج والتي كادت أن تتعطل أو تعطلت بالفعل فيها.

    4-2 ضعف البنية التحتية:
    يؤدي ضعف البنية التحتية إلى تعثر الاستثمار والانتاج والتصدير، وأهم مظاهرها قلة الطرق المرصوفة وضعف وسائل النقل ومصادر الطاقة ... إلخ. والأخيرة أي الطاقة، تشكل حجر الزاوية في أي عملية إنتاجية تنموية. ومن صور ضعف الطاقة توقف حاليا أكثر من 2500 مصنعا عن العمل في ولاية الخرطوم فقط، تشكل حوالي 41% من عدد المصانع فيها، الأمر الذي أدى إلى تدني مساهم القطاع الصناعي في الناتج المحلي الاجمالي. ويقود ضعف البني التحتية إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وبالتالي ضعف العوائد الإجمالية والصافية للمنتجين، مما يدفعهم إلى الخروج (knock out) من دائرة الإنتاج لصعوبة المنافسة، وهذا ما هو حادث الآن بهروب الأيدي العاملة إلى "مناطق البحث عن الذهب".

    4-3 اختلال وتخلف هيكل الإنتاج:
    يعتبر تنويع قاعدة الإنتاج (diversification) الوقود المحرك لاقتصاد أي بلد، وذلك لتقليل مخاطر الاعتماد على منتج واحد. وظل اقتصاد السودان يعتمد على منتج واحد (Mono-economy) لفترات طويلة. فكان القطن خدمة لأهداف المستعمر، وكرّس ذلك الواقع الحكومات الوطنية بعد حقبة الاستعمار لغياب الرؤية والأفق الاقتصادي ثم دخل النفط كمساهم رئيسي في دخل الدولة في عام 2005. ولم تسعف خطط الحكومات المتعاقبة لدعم القطاع الصناعي (على قلتها) من دفعه والارتقاء به ليسهم بقوة في الناتج المحلي الإجمالي. وحاليا وحسب احصائيات عام 2017، تساهم الزراعة والصناعة (القطاعات الإنتاجية) معا بحوالي 49% تقريبا من إجمالي الناتج المحلي (حوالي 31.8% للزراعة، و17.3% للصناعة)، وقطاع الخدمات بحوالي (51%). ويشمل قطاع الخدمات المصارف وشركات التأمين، والتجارة، والنقل، والاتصالات، والتشييد ...إلخ)، أي أن الاقتصاد السوداني اقتصاد مكشوف وقائم على أرضية متحركة، وظل معرضا للأزمات والصدمات منذ استقلاله وحتى اليوم، مع تفاوت حدة هذه الأزمات بتفاوت حقب الحكم.

    4-4 اختلال هيكل الصادرات والواردات.
    اعتمد الحساب التجاري للدولة لسنوات طويلة على الصادرات التقليدية الزراعية والحيوانية (القطن والسمسم والحيوانات الحية والجلود وحب البطيخ.. إلخ). هذه المنتجات توصف بأنها أولية وبتركيبتها البدائية، مما يضعف من تنافسيتها في الأسواق العالمية. وأهملت سياسات الحكومات المتتالية القطاع الزراعي خاصة التقليدي منه، بالترسيخ المستمر لسياسة التوسع الأفقي بدلا من الاهتمام الجدي بسياسة التوسع الرأسي، لذلك ضعف المردود المادي لصادرات هذه المنتجات. وتدهورت أوضاع الزراعة بشكل أكبر بدخول البترول ضمن قائمة الصادرات السودانية في عام 2000، وإمعان إهمال "سياسة الخصخصة ونهج التحرير الاقتصادي" للدولة وقتذاك للقطاع الزراعي، إذ ضعفت الإنتاجيات وارتفعت تكاليف الإنتاج والضرائب والاتاوات. لذلك لم تتعد قيمة الصادرات السودانية بعيد سياسة التحرير مبلغ 500 - 700 مليون دولار. وبانفصال الجنوب وفقدان نسبة مقدرة من عائدات البترول، سجل الحساب التجاري للدولة عجزا ابتداءً من عام 2012، وفاقم عجز الميزان التجاري الارتفاع الكبير في حجم الواردات الذي بلغ حوالي 9.5 مليار دولار في ذلك العام.

    4-5 ارتفاع معدلات التضخم:
    ارتفعت معدلات التضخم وظهرت آثاره المتمثلة في امتصاص معدلات التنمية وضعف القوة الشرائية للعملة الوطنية بارتفاع المستوى العام للأسعار. يقول هنري روس وهو رجل أعمال ومرشح سابق للرئاسة في أمريكا، العملة الضعيفة تكون مؤشرا لاقتصاد ضعيف، والاقتصاد الضعيف يقود إلى أمة ضعيفة، وهو الحاصل بالفعل الآن. ويتسبب التضخم في إضعاف تنافسية الصادرات السودانية وإرباك مؤسسات التمويل وإحجامها عن تقديم تمويل للقطاعات الإنتاجية، كما أنه يوجه الموارد البشرية والمالية نحو الأنشطة الخدمية بعيدا عن القطاعات الإنتاجية التي تسهم بالنمو الاقتصادي، مثل الزراعة والصناعة، الأمر الذي تسبب في زيادة حدة الفقر بالبلاد (جدول ص 8).

    4-6 ارتفاع حجم الدين الخارجي
    يمثل الدين الخارجي متأخرات في سداد أصل الدين وما تبع ذلك من فوائد منذ عام 1990. وفي السنوات الأخيرة واصل حجم الدين الخارجي ارتفاعه حيث بلغ 52.4 مليار دولار بنهاية عام 2016م، تشكل حوالي 111% من الناتج المحلي الإجمالي (جدول ص 8). يشار إلى أن المصارف العاملة الآن تعاني من ضعف رؤوس أموالها وضعف السيولة بالإضافة إلى ضعف كفاءتها. وكانت البنوك قد أوقفت التعامل بسعر الفائدة في أعقاب تطبيق النظام المصرفي الإسلامي في عام 1984، واُتخذت خطوات تعميق التجربة في عام 1991/1992، ووصلت هوامش عمليات المرابحة إلى 45% في بعض السنوات، وتبلغ حاليا 12%. وقد يكون لتلك للهوامش العالية دورا في ارتفاع أرباح الديون الخارجية (وكذلك المحلية).

    4-7 محدودية فرص التمويل:
    تجابه البلاد حاليا محدودية فرص الحصول على تمويل محلي ميسر (صكوك شهامة على سبيل المثال) لتغطية العجز في الموازنة العامة، بسبب تقلص عوائد الدولة بخروج البترول، كما تواجه نفس المعضلة مع مؤسسات التمويل الدولية (كصندوق النقد الدولي ونادي باريس ....إلخ) لتمويل التنمية، بسبب الديون العالية المشار إليها بعاليه وضعف السداد، وكذلك بسبب نتائج الحصار الذي كان مفروضا على السودان. يشار إلى أن تضاؤل فرص الحصول على قروض من خلال صكوك شهامة في السنوات الأخيرة هو تدني عوائدها وعدم إقبال الناس عليها بسبب خروج بعض الأصول التي تشكل محفظة شهامة نتيجة برامج الخصخصة، وهو ما يعني بحسب المثل الإنجليزي، إطلاق الحكومة النار على قدميها.

    اختلال توزيع القوى العاملة بين قطاعات الإقتصاد:
    يبلغ حجم العمالة في السودان حوالي 14.8 مليون عامل، وتشير بعض التقارير إلى تزايد أعداد العمالة في قطاع الخدمات على حساب قطاع السلع. مرد ذلك هو توظيف المدخرات النقدية والحقيقية المتراكمة علي قلتها بالتوسع في نشاط قطاع الخدمات على حساب قطاع السلع (القطاعات المنتجة) وانتشار السنسرة والأعمال الهامشية على حساب الأعمال المنتجة، وهو ما يسمي حديثا بالاقتصاد الموازي (جدول ص 8).

    4-9 اختلال خدمات التعليم والصحة.
    في جانب التعليم، تدهور مستواه في السودان لعدة أسباب أجملها في: ضعف التخطيط للعملية التعليمية (وما السلم التعليمي في عهد مايو وسياسة التعليم العالي في عهد الإنقاذ ونتائجهما إلا شواهد على ذلك الضعف)، وضآلة حجم الميزانيات المخصصة للعملية التعليمية والبحث العلمي والتي لا تتجاوز نسبة 0.3% فقط من الناتج المحلي حسب موازنة عام 2015 رغم زيادتها، مقارنة بحوالي 4.1% في إسرائيل مثلا، بالإضافة إلى ضعف الترابط بين البحث العلمي ومشكلات المجتمع وسوق العمل، علاوة على اختلال نوعية مدخلات التعليم الجامعي. أدي كل ذلك إلى ضعف مخرجات التعليم من حيث المخرجات التكنولوجية والتقنية، ومستوى مهارات مخرجات التعليم، ونوعية الخريجين مقارنة باحتياجات سوق العمل، مما فاقم من مشكلة البطالة بين خريجي الجامعات، وزاد من مستويات الفاقد التربوي. وفوق ذلك عدم ربط العملية التعليمية بقيم وثقافة المجتمع، علاوة على ضعف مناهج التربية الوطنية.
    أما في جانب الصحة، فتقف ضعف الخدمات الصحية وارتفاع تكلفة الحصول عليها، وسوء توزيعها على ولايات ومدن وأرياف السودان المختلفة شواهدا على الاختلال في هذا القطاع الهام والحيوي. ومن أسباب الخلل في القطاع الصحي ضعف الميزانيات المخصصة له كنسبة من الناتج المحلي (0.11% في 2015 على سبيل المثال)، وسياسة العلاج الاقتصادي في بدايات تسعينيات القرن الماضي، والهجرة الكبيرة للأطباء في السنوات الأخيرة.

    4-10 اختلال القيم السائدة في المجتمع (وهذه أخطرها).
    انعكس التدهور الاقتصادي سلبا على الأوضاع والقيم الاجتماعية، وفي ذلك دائما ما أقول إن التحدي الاقتصادي أقل خطرا من التحدي الاجتماعي، إذ يمكن حل المعضلات والتحديات الاقتصادية التي نواجها باكتشاف النفط أو ظهور منجم ذهب في موقع ما، أما اختلال القيم الاجتماعية السائدة والمتوارثة فقد يحتاج إعادتها لسابق عهدها ومعالجة آثارها إلى أزمنة مديدة. ومن أبرز مظاهر اختلال القيم السائدة في المجتمع تفشي الجريمة من حوادث قتل مروعة، وانتشار الزنا وأمراضه الخبيثة، وحوادث اغتصاب صادمة للفتيان والفتيات وللنساء "ولا يغيب نموذج أطفال المايقوما عن الأذهان"، والتعدي على المال العام، والادهى أن المعتدين على المال العام يمشون بيننا كالملائكة رافعي الرأس (مجازا) في الطرقات.




















    (5) تفاقم مشكلات الاختلال الهيكلي للاقتصاد السوداني
    حاليا تفاقمت أزمات ومشكلات الاقتصاد السوداني ووصلت لهوة سحيقة من التدني، بسبب:
    5-1 الحصار الدولي:
    فرض المجتمع الدولي حظرا اقتصاديا (وسياسيا) على السودان بسبب السياسات الرعناء للطغمة الحاكمة حاليا منذ مجيئها إلى سدة الحكم والتي تجلت في الإصرار على أن الحرب في جنوب السودان هي حرب "جهادية"، ودعم بعض المنظمات الإرهابية (تنظيم القاعدة، محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك)، ومعادة العالم الخارجي أمريكا (امريكا دنا عذابها) ودول الخليج (يونس والفهد المرود)، وتأييد اجتياح الكويت في تسعينيات القرن الماضي. لذلك ونتيجة الحصار تم إصدار العديد من القرارات الدولية تحت البندين السادس والسابع، مما عزل السودان دوليا وحرمه من إمكانية استقطاب أي استثمارات خارجية، وحرمه كذلك من إمكانية الحصول على قروض ميسرة من مؤسسات التمويل الدولية (كما أسلفنا) علاوة على وقف بعض الجهات المالية العالمية والإقليمية التعامل المالي مع السودان. وأكثر من ذلك فقد العالم الثقة في النظام المصرفي السوداني والاقتصاد السوداني ككل. وجاءت عدم الثقة لعدة أسباب: فالنظام المصرفي غير قادر على الإيفاء بالتزاماته المصرفية الدولية تجاه خطابات الاعتماد والتحويلات لأنه لا يمتلك الاحتياطات بالنقد الأجنبي على الأقل في المديين القصير والمتوسط (صديق كبلو 2014)، كما أن القروض عالية الكلفة وفرط الاعتماد على الإقراض المباشر تسببا في خنق النمو التجاري والنظام الحكومي للتمويل الأصغر، إضافةً للفساد والقروض المتعثرة وانعدام التدابير التنظيمية للنظام المالي (وليد العتباني- الراكوبة 2011).
    5-2 تفشي الفساد المالي والإداري:
    أضاف الفساد المالي والإداري الذي أتصف به حكم الإنقاذ، "ضلعا رابعا آسنا" لأسباب فشل الحكومات المتعاقبة من النهوض باقتصاد السودان. وعالميا يعتبر الفساد من أسوأ الآفات الاقتصادية التي يمكن أن تصيب الحكومات والدول. ومن مظاهر فساد حكومة الإنقاذ، فقه التمكين الذي اعتمد الولاء بديلا للكفاءة معيارا لشغل وظائف الدولة مما أقعد بالخدمة المدنية، والاختلاس وسوء استخدام السلطة وعدم الالتزام بالثوابت والأخلاق الوطنية والتشريع لذلك، وكلها تعبّر عن تراجع مستوي القيم والأخلاق والوطنية. والمريع والصادم أن الفساد اقترن بغالب إن لم يكن بكل قيادات الإنقاذ السياسية والإدارية، واستشري ليضرب كل مفاصل الدولة. ومن أسوأ آثاره أنه أخل بالحالة العدلية في المجتمع وسمح بتطور لا متكافئ لمكونات المجتمع بسيطرة تلك الفئة على مراكز القرار ومصادر الدخل والثروة دون أن تقدم أي خدمة اقتصادية أو اجتماعية للمجتمع، إذ هُجّرت الأموال المنهوبة والمتحصل عليها بممارسات طفيلية، إلى ملاذات آمنة في ماليزيا ودبي وفي حسابات سرية مخفية لا تُعرف وجهتها. وتقف التقارير الدولية (راجع المؤشرات الدولية ص 8) وتقارير المراجع العام السنوية التي تعكس حجم الاعتداءات على المال العام شاهدا على الفساد في أدنى صوره، إذ باتت صوره الأخرى بائنة لكل ذي بصر وبصيرة. والمريع أن بعض القيادات السياسية ظلت تنكر بسذاجة هذه التقارير، إلى أن اعترفت بها مؤخرا وصوِرت الفاسدين بالقطط السمان وأمرت بالقبض عليهم ومحاكمتهم، وأنشأت محاكما لذلك. إلا أن كثيرا من المتابعين لهذا الشأن لا يرون في ذلك جدوى ولا تقدما يمكن أن يشار إليه، لكون أن الفساد يطال رؤوس كبيرة ضالعة فيه، ولم تصل أي قضية فساد إلى منتهاها بإنزال ما تستحق من عقوبات على مرتكبيها.
    5-3 سياسة التحرير الاقتصادي والخصخصة:
    حسب "الوصفة" المعروفة التي تفرضها مؤسسات التمويل الدولية، أفرطت الدولة في تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي. وفي إطار هذه الوصفة نفذت الدولة "برنامج خصخصة" بعض المشروعات الحكومية، بحجة ظاهرية تتناغم مع نهج الاقتصاد الحر هي "معالجة الاختلالات المتراكمة في المؤسسات الإنتاجية المسيطر عليها من قبل القطاع العام، بنقل ملكيتها إلى القطاع الخاص". إلا أن أحد أهداف سياسة التحرير ونهج الخصخصة الخفية كان هو "فقه التمكين" الذي اتبعته السلطة في بدايات عهدها بالحكم، إذ تم نقل مليكات الكثير من الشركات العامة لأهل الحظوة والولاء. وكشأن جهود معظم الأقطار النامية في ميدان الخصخصة واجه هذا البرنامج صعوبات، أهمها عدم وجود أسوق مالية (بدأ عمل سوق الخرطوم للأوراق المالية في عام 1994)، وضعف قدرات الدولة الرقابية لمتابعة نتائج التخصيص، علاوة إلى افتقار القطاع الخاص السوداني إلى أهم عناصر الخصخصة الناجحة مثل رأس المال، والإدارة الكفؤة، والقدرة على إعادة هيكلة الإنتاج التصاقاً بالدورات التقنية (التكنولوجية).
    وإلى جانب فقدان البلاد لأموال ضخمة ببيع بعض الشركات الحكومية بأقل من قيمتها العادلة، نتج عنها وللأسباب المذكورة بعالية تدهور بل إفلاس وانهيار الكثير من المؤسسات الاقتصادية التي تم بيعها، وتقف الخطوط الجوية السودانية "سودانير" ومشروع الجزيرة كأمثلة صارخة لذلك، والقائمة تطول وتطول، دون تدخل من الدولة لإقالة عثرات هذه المشاريع والمؤسسات. كذلك أطلقت هذه السياسة العنان لانفلات أسعار السلع الاستهلاكية والإنتاجية والرأسمالية لترتفع بجنون، مما أثقل كاهل "فئة محدودي الدخل". بارتفاع تكاليف المعيشة، وألجم الإنتاج الزراعي والصناعي لارتفاع التكاليف وتدني هوامش الربح، العديد من المؤسسات الاقتصادية، خاصة مع تنصل مؤسسات التمويل الدولية من المساهمة في تخفيف وطأة التحرير الاقتصادي.
    ووقوف الدولة موقف المتفرج إزاء نتائج الخصخصة دون السعي لمحاولة علاج إفرازاتها الاجتماعية إلا في حدود ضيقة تكاد لا تذكر، يجعلها "مليكا أكثر من الملك" كما يقول المثل الشعبي في شأن الاقتصاد الحر بعدم تدخل الدولة، إذ قامت الحكومة الأمريكية إبان الأزمة المالية العالمية في 2009، بضخ أكثر من 415 مليار دولار لإنقاذ البنوك المتعثرة من خلال ما يعرف بسياسة "التيسير الكمي"، وتدخلت لإنقاذ العديد من المؤسسات المنهارة بشراء أصولها، وكذلك فعلت العديد من الدول الغربية. يقول في ذلك مهاتير محمد الرئيس الماليزي السابق "أن الأمريكان كانوا ينصبون أنفسهم أوصياء وأنبياء علينا، بمطالبتهم بعدم التدخل لمساعدة المؤسسات المالية المنهارة، وها هم اليوم يضطرون لذلك". أما استراليا فرغم تبعتيها للاقتصاد الحر ممثلا في التاج البريطاني، فأنها تلتزم بتقديم الرعاية المجتمعية والتعليمية والصحية لكبار السن والأطفال والمعاقين مجانا وشبه مجان في بعض جوانبها، وقدمت دعما مقدرا للمزارعين في أوقات الجفاف بسبب شح الأمطار.

    5-4 الحكم اللامركزي:
    نفذت الحكومة نظام الحكم اللامركزي (الفدرالي والولائي والمحلي) بقصد إعادة التوازن في عملية التنمية بين ولايات السودان وتقصير الظل الإداري للدولة كأهداف معلنة ظاهريا. إلا أن كارثة نهج "فقه التمكين"، المشار إليها اعلاه، كأحد الأهداف الخفية للامركزية، خلق ترهلا في الوظائف التنفيذية والدستورية (هنالك نحو 1360 موظف دستوري وتشريعي بولايات السودان المختلفة باستثناء الخرطوم)، وأوجد صرفا إداريا مباشرا باهظ التكاليف في الفصلين الأول والثاني (الرواتب والامتيازات، والمصاريف الادارية المصاحبة على التوالي) أرهق ميزانية الدولة كثيرا. ويفسر ذلك الصرف، تسمية حزب المؤتمر الوطني الرئيس البشير مرشحا له في انتخابات 2020، إذ أصبحت هذه الوظائف مصدرا للثراء غير المشروع لمنسوبي الحزب.

    5-5 النظرة الأمنية:
    فاقم من الصرف الإداري المشار إليه، النظرة الأمنية الطاغية والمسيطرة على نهج الدولة، مما أدى إلى ارتفاع النفقات الأمنية في مناطق النزاعات، خاصة مع بروز واستمرار الحروب في دارفور وجنوبي كردفان والنيل الأزرق.
    وبرغم ارتفاع هذه النفقات التي تمثل حوالي 60 -70% من موازنة الدولة، إلا هنالك سعيا حثيثا من الدولة لتغبيش الوعي العام عن المخاطر الاقتصادية الناجمة عن الصرف المبالغ فيه على الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة وقوات الدفاع الشعبي. والمفارقة أن ما خصص من الموازنة العامة للدولة خلال العام 2011م (على سبيل المثال) للأمن والدفاع بلغ حوالي61 % وللقطاع السيادي حوالي 10%، وهذه قطاعات غير منتجة. أما التعليم والصحة فخصص لهما أقل من 10% والصناعة والزراعة أقل من 5%. يشار إلى أن التعديلات الدستورية التي أجازها "برلمان المؤتمر الوطني" مع إطلالات عام 2015، بمنح جهاز الأمن سلطات تعادل تلك الممنوحة للأجهزة النظامية الأخرى (الجيش والشرطة) قصد منها مزيدا من التمكين بخلاف من اُعلن أكثر من مرة بانتهائه دون رجعة، وفوق ذلك ستزداد النفقات الأمنية كثيرا.
    5-6 انفصال جنوب السودان:
    اعتمدت موازنة الدول بقوة على البترول في أعقاب استخراجه وتصديره في عام 1999.وبسبب ذلك "ولضيق النظرة والأفق الاقتصاديين" اُهملت قطاعات الإنتاج الأخرى خاصة الزراعة والصناعة. وبانفصال (ضياع) جنوب السودان في يوليو 2011، فقدت الدولة نحو 75% من إنتاج انتاج النفط البالغ 470 ألف برميل يوميا، وفقدت حوالي 60% من العوائد النقدية. ومثّل الانفصال نقطة فارقة في الاقتصاد السوداني، إذ طفت إلى السطح العديد من المشاكل الاقتصادية، وتفاقمت اختلالات مؤشرات الاقتصاد الكلي (جدول ص 7). ومن المؤكد أن آثار الانفصال السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستمتد لفترة زمنية لا يُتوقع أن تكون قصيرة.
    وفي هذه الخصوص دائما ما أقول إنه أصبنا ب "لعنة البترول"، أي أنه لم يصبنا من استخراج البترول إلا سوداه. شاهدي في ذلك انفصال الجنوب، إذ أن استخراجه في الجنوب كان سببا مباشرا في تمسك أهل الجنوب بحق تقرير المصير، وكذلك التوظيف الخاطئ لموارد ضخمة منه قدرت في أقل احتمالاتها بحوالي 70 مليار دولار. ويمكن مقارنة هذه المبالغ مع تكلفة أكبر مشروع تنموي في عهد الإنقاذ "سد مروي" بغض النظر عن جدواه، الذي قدرت تكلفته بحوالي 3 مليار دولار شاملة المشاريع المصاحبة للسد. والعجيب أن مصادر تمويله أجنبية بتكلفة وفوائد ستتحملها أجيال قادمة. والمثير للاستغراب والدهشة ، أي الاستغراش كم يسميها كاتب "ساخر سبيل"، أنه كان مؤملا أن يحل السلام أرجاء البلاد بانفصال الجنوب، ويعوض نقل بترول الجنوب عبر السودان العوائد المفقودة منه وبالتالي المحافظة على ما شهدته فترة توقيع اتفاقية نيفاشا من استقرار نسبي في عوائد الدولة، إلا أن بقاء بعض الملفات الحساسة عالقة (تبعية أبيي، ترسيم الحدود ... إلخ) مثّل قنابل موقوتة "تطل بوجهها مرة بعد أخري منذرة بتفجرها" في أي وقت، وفوق ذلك نشبت حروب طاحنة في دولة الجنوب الوليدة، مما يطيل أمد بلوغ الاستقرار المنشود، مع توقف إيرادات نقل بترول جنوب السودان باستمرار الحرب.

    يشار إلى أن إصرار حزب المؤتمر الوطني على ترشيح الرئيس البشير لانتخابات الرئاسية 2020، وهو ما يعني استمرار النظام القائم بكل سوءاته هذا الانتخاب سيكون ضد إرادة ورغبات السواد الأعظم من الشعب السوداني. وبالتالي سيؤجج صراعا سياسيا ظاهرا وخفيا ليس بين الحكومة والمعارضة فحسب بل بين الحكومة والشعب أيضا، وسيعقّد من الوضع الاقتصادي القائم بإعادة إنتاج الأزمات.












    (6) الحلول والمعالجات:
    يُقصد بالحلول والمعالجات "كيفية تحقيق إصلاحات جذرية لمعالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة والوصول باقتصاد البلاد إلى مرحلة حيوية من النمو الجيد والمستمر وخلق الفرص الاستثمارية وفرص العمل. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أي محاولة لوضع حلول لانتشال البلاد من وهدتها وأزماتها الاقتصادية، يجب أن تمر عبر بوابتين رئيسيتين: إصلاحات سياسية وثقافية اجتماعية، ومن ثم اقتصادية هيكلية بإجراء تغيير جذري في نماذج النمو الاقتصادي الأساسية في المدى الطويل من خلال خطة استراتيجية شاملة، واضحة الأهداف وآليات التنفيذ والموارد اللازمة لها للنهوض بالاقتصاد، ومحاولة الاعتماد (المرحلي) في ذلك على الذات. ويمكن تقسيم هذه المعالجات (الجهود المطلوبة) إلى قسمين رئيسيين:

    جهود داخلية:
    6-1-1 سياسية:
    العمل على تحقيق الاستقرار السياسي بتوصل الكتل السياسية المختلفة للاتفاق على برامج "الحد الأدنى". هذا الاتفاق ذو أهمية خاصة للغاية لأنه يشكل مدخلا هاما لصياغة دستور البلاد الدائم. يشار إلى أن الحوار الذي أصطلح على تسميته "بحوار الوثبة" الذي أجرته الحكومة خلال العام 2014 واستمر لقرابة العامين، كان يمكن أن يكون مفتاحا لحل مشاكل البلاد السياسية ومن ثم الاقتصادية. إلا أن أهل الحكم قصدوا من اطلاقه الدعاية السياسية وكسب ود المجتمع الدولي وحيكت مخرجاته بمقياسهم.
    صياغة وإجازة الدستور الدائم للبلاد، لكونه الضمانة التي تراعي وتحقق المصالح الوطنيَّة للبلاد والعباد. وذلك لما يتضمنه الدستور من أسس دستورية تحترم فيها الحريات الفردية وحقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة بين المواطنين، والمشاركة على أساس الكفاءة، والتعددية الحزبية، والتداول السلمي للسلطة، والعمل عند مستوي رفيع من الحوكمة، وفي ظل فصل تام بين السلطات الثلاث المعروفة. وكذلك يتم فيه التأكيد على دور الدولة في اداره الاقتصاد وتحديد النهج الاقتصادي الذي تسلكه، ويوجه بوضوح مسار العلاقات السودانية الخارجية دون ربطها بأي رابط أيديولوجي.
    الوصول إلى حلول سياسية للملفات العالقة مع دولة جنوب السودان (ترسيم الحدود، منطقة أبيي، الملف الاقتصادي، الملف الأمني ... إلخ) لمنع نشوب حرب جديدة لا سمح الله.
    وقف الحرب الدائرة في مناطق دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، كوسيلة للاستقرار السياسي ولخفض الإنفاق الحكومي، خاصة الأمني منه. مع الوضع غي الاعتبار أهمية إنشاء صندوق لمحو آثار الخراب الذي أحدثته هذه الحروب.
    تفكيك دولة الحزب الواحد، ومراجعة الحكم اللامركزي القائم على الترضيات الجهوية والقبلية، لدعم جهود خفض الإنفاق الحكومي.
    استرداد الأموال المنهوبة، بعد حصرها ومراجعتها بدقة.


    6-1-2 اقتصادية- اجتماعية:
    دراسة متعمقة لبناء العقل الثقافي السوداني ومراجعة الظروف التي تم بها تأطيره. وتبرز هنا أهمية الدراسات الاجتماعية الاقتصادية، وإبراز دور الشباب في التغيير المنشود بعيدا عن بعض الجوانب الثقافية السالبة السائدة في المجتمع، وإيلاء ذلك المزيد من الاهتمام في مراكز البحوث ومناهج ودراسات الجامعات.
    زيادة الدخل القومي الإجمالي بخلق مصادر حقيقة من استغلال موارد الدولة الطبيعية والموقع الجغرافي والإفادة من الميز النسبية التي يتيحها التباين البيئي، وإيجاد مصادر دخل جديدة غير تقليدية لتنويع مصادر الدخل. ويمكن الوصول إلى ذلك بالاستثمار في التوسع الزراعي الرأسي (لزيادة الإنتاجية والغلة) والأفقي بالتوسع وإدخال سلالات حيوانية ومحاصيل نقدية جديدة إلى قائمة المنتجات الزراعية الحالية، وخلق قيمة مضافة للمنتجات الزراعية من خلال التصنيع الزراعي، ودعم القطاع الزراعي التقليدي الذي يوفر سبل العيش لنسبة مقدرة من السكان، بالإضافة إلى الاستثمار في السياحة واقتصاد المعرفة على سبيل المثال (كقطاع غير تقليدي). ومن الأرجح أن تدعم هذه الاستراتيجية "الموازين الخارجية" لتغطية الفجوة الكبيرة في الميزان التجاري التي ظهرت منذ يوليو 2011م، والتي نتجت عن فقدان نسبة عالية من عائدات الصادرات بخروج النّفط من الموازنة بعد انفصال جنوب السّودان (كما أشرنا). وهنا لا بد من الإشارة أن دولا مثل ماليزيا قفزت باقتصادها قفزات هائلة، معتمدة على الذات وفي فترة وجيزة، لتضع نفسها ضمن مجموعة دول النمور الأسيوية (Tiger Countries). وهنا لا بد من الإشارة لأمرين هامين هما إعادة التوازن البيئي وحماية البيئة للمحافظة على هذه الموارد الطبيعية لفائدة الأجيال القادمة.
    إصلاح السياسات النقدية والمالية لإحداث توازن في ميزان المدفوعات (الذي يتكون من الحساب الجاري والتحويلات التي تأتى من الخارج) وفق برنامج للصادرات والواردات والاحتياطي النقدي المحول من الخارج والموجود بالداخل، ومعالجة العجز في الموازنة العامة بخفض الإنفاق الحكومي والتخلّص من الدين الخارجي وتكاليف خدمته الباهظة، وتقليل حجم الديون غير الميسرة، وإصلاح المالية العامة من خلال بسط ولاية المالية على المال العام والرقابة عليه.
    جذب الاستثمار الأجنبي بتوفير بيئة جيدة، لتطوير قطاعات السياحة والتعدين والزراعة، وإعطاء الاستثمارات التي تحقق عوائد إيجابية أولوية في ذلك. وتتمثل مقومات بيئة الاستثمار الجيدة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي بخفض معدلات التضخم، وتطوير أسواق المال، واستقرار أسعار صرف الجنيه مقابل الحملات الحرة، ومنح الحوافز للمستثمرين ...إلخ.
    التأكيد على عودة وقومية مؤسسات الدولة الناجحة التي تم تفكيكها في القطاعات الإنتاجية مثل مشروع الجزيرة، وقطاعات الخدمات مثل النقل الميكانيكي، والأشغال والمخازن والمهمات، والنقل النهري، ومؤسسة السكر، والمؤسسة العامة للإمدادات الطبية والبيطرية، والمؤسسة العامة للنقل البحري، ... إلخ.
    الحصول (في مرحلة لاحقة) على قروض أجنبية ميسرة واستخدامها في المجالات التي تحقق عوائد إيجابية.
    رفع معدلات الادخار الفردي بتوعية الأفراد ونشر ثقافة الادخار، ورفع المدخرات الوطنية من خلال تحفيز قطاع المغتربين لإدخال العملات الحرة من خلال النظام المصرفي، وهذا يتطلب توحيد سعر الصرف.
    تربية المجتمع على منظومة قيم عالية، بإعلاء الوطنية، ونشر ثقافة النزاهة، ودفع الوازع القيمي الذاتي، بما يتفق وقيمنا الإسلامية وقيم العالم المتحضر.
    دعم الجهاز المركزي للإحصاء، وإدارة الاقتصاد الزراعي والإحصاء التابعة لوزارة الزراعة، لتقوم بدورها في توفير الإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية الدقيقة والحديثة، لأهمية المعلومات في اتخاذ القرارات الاستثمارية في القطاعين العام والخاص.

    جهود داخلية إدارية:
    معالجة ما لحق بالخدمة المدنية من دمار، وجعل الكفاءة وليس الولاء معيارا للاختيار في كل المناصب الدستورية والتنفيذية، وتحسين الكفاءة في كل مجال الخدمة، خاصة التعليم والرعاية الصحية والمالية والاستثمار العام.
    تحسين هيكل وكفاءة التعليم، وربط مخرجاته بالتقنية وسوق العمل، وفوق ذلك ربط مناهج التعليم بالقيم الوطنية والأخلاقية.
    حصر ولاية المال العام على وزارة المالية، وإيقاف الصرف خارج الميزانية العامة الذي أضر كثيرا بميزانية الدولة، وتعزيز الشفافية والحوكمة الرشيدة بتضييق المجال أمام فرص الفساد والممارسات غير الشفافة.
    مراجعة وإصلاح النظام المصرفي وسياسات بنك السودان على وجه الخصوص لتقوية الرقابة على تنفيذ السياسة النقدية.
    تفعيل مؤسسات الضمان الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني، كالنقابات، واتحادات الطلاب.. الخ.
    إخضاع تنفيذ المشاريع الرئيسية من بنية تحتية (طرق وسدود) ومشاريع خدمية (صحية، تعليمية، تقنية) ... إلخ، وكذلك المشتروات الحكومية للإجراءات الرسمية في تقديم العطاءات وإرساء عقود التنفيذ، إذ أن عدم الخضوع للإجراءات الرسمية حمّل الدولة أضعاف تكلفتها الأساسية.
    إصلاح سوق العمل تفاديا لظهور "جيل ضائع" من الشباب، لما يمكن أن يتركه امتداد البطالة لفترة مطولة من آثاراً سلبية عميقة وممتدة على الشباب ومستويات دخولهم وصحتهم وأحوالهم بشكل عام. وفي هذا الخصوص لا بد من مراجعة هيكل الأجور وإزالة التشوهات في حدود الأجور العليا والدنيا.
    6-3 الجهود الدولية:
    الضغط على الطغمة الحاكمة لقبول الحل السياسي بتوسع قاعدة المشاركة، وتفكيك دولة الحزب الواحد.
    الضغط على الطغمة الحاكمة في الخرطوم لتبيان مصادر دخل الدولة، وملاحقة الأموال المنهوبة من الشعب السوداني.
    الدعم المالي لتحفيز الاقتصاد، ولتعمير ما دمرته الحروب (ما دمرته حرب دارفور يتطلب نحو ستة مليار دولار).
    (8) المراجع:
    8-1 مراجع عربية
    الصادق المهدي (الإمام) خطبة عيد الأضحى، أغسطس 2018.
    الوليد العتباني، مؤتمر للمانحين 2013.
    الـمـجــلـة الاقــتــصــــادية، الخرطوم– السودان، سبتمبر 2013.
    المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين، تقرير مقدم للجهاز القومي للاستثمار في السودان، اكتوبر 2014.
    إنصاف أحمد، الصادرات السودانية، عقبات في الطريق، الموقع الإلكتروني سودارس، سبتمبر 2012.
    بيار كالام بالتعاون مع أورور لالوك، بحث في الاقتصاد العادل، ترجمة محمد صالح فليس، الطبعة الأولى ديسمبر 2014.
    وزير الصناعة، (2500) مصنعا معطلا بولاية الخرطوم، صحيفة الراكوابة الإلكترونية الصادرة في 30/12/2014، نقلا عن جريدة الجريدة.
    حسين أحمد حسين، حيثيات الواقع الاقتصادي الاجتماعي في السودان، وآفاق التغيير السياسي، موقع (Sudanese Economist)، 04 مايو 2013.
    محجوب محمد صالح، الانقاذ هي اسوأ نظام مر على الصحافة السودانية، حوار صحفي، صحيفة الراكوبة الإلكترونية، 7 يناير 2015.
    نزار قنوع (دكتور) - الخصخصة الاقتصادية بشكل عام، ايجابياتها وسلبياتها، مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية، 2005.
    ندى غانم وأحمد زكي و أحمد أبو بكر و محمد الحسين، الحروب الأهلية العربية - قراءة استشرافية.
    قيس الصديق أحمد محمد، صحيفة الرؤية، الصادرات غير النفطية في السودان، العودة للجذور، ديسمبر 2014.
    سيد البشير حسين، (دكتور)، قبل فوات الأوان، موقع سودانايل الإلكتروني، 2010.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(دكتور)، وا سوداناه، جريدة الأحداث، 19 اكتوبر 2011.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(دكتور)، الزراعة هي بترول السودان الحقيقي، جريدة الأحداث، 28 اكتوبر 2011.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(دكتور)، العودة إلى الجاهلية، جريدة الأحداث، 17مايو 2012.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (دكتور)، في المشكل الاقتصادي، جريدة الأحداث، 13 يونيو 2012.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(دكتور)، إلي صديق وزير الزراعة، حكاوي ومحاور خطة، جريدة التغيير، ديسمبر 2012.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(دكتور)، حوار اقتصادي، جريدة التغيير، مارس 2013.
    عدنان عبد الله الشيحة (دكتور)، استمرار الفساد – المرض الاجتماعي الخفي، الاقتصادية، 10 يناير 2015.
    صبري محمد خليل، الاقتصاد السوداني ومعوقات النمو، قسم الفلسفة بجامعة الخرطوم، موقع سودارس، أبريل 2011.
    صدقي كبلو (دكتور)، العالم فقد الثقة في النظام المصرفي السوداني ، حوار ل(صحية الطريق الإلكترونية)، مارس 2014.
    علي خليل إبراهيم التميمي (أستاذ دكتور)، فجوات التعليم والتدريب والبحث العلمي وسوق العمل العربية (لا يوجد تاريخ).
    فرح حسن آدم (أستاذ دكتور)، الزراعــة السودانية بين البقاء والفنــاء، موقع الاقتصاد السوداني الإلكتروني، أبريل 2011.
    قيس الصديق أحمد محمد، الصادرات غير النفطية في السودان، العودة للجذور، صحيفة الرؤية، ديسمبر 2014، تحقيق صحفي (صحيفة حريات الإلكترونية) بتاريخ 18/11/2014م.
    8-2 مراجع إنجليزية:
    IMF-Sudan: Staff Monitored Program-Staff Report; Press Release; and Statement by the Executive Director for Sudan (July 2014).
    IMF-Sudan: Staff Article IV Consultation –Press Release; Report; and Statement by the Executive Director for Sudan (December 2017).
    USA, UK, Norway blame government for ‘intensifying conflict in Sudan’.
    US lobby to hit Sudan government financially.
    Watching the Bubble Burst, Political Implications of Sudan's Economic Implosion”, published by the US advocacy Organization, 26 September 2014".
























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de