في ظل التدهور المريع الذي اجتاح بلادنا تضاءلت مقدرتنا على إعمال الفكر واتخاذ القرارات الصائبة فيما ينفع البلاد والعباد حتى صرنا في ذيل الأمم ننافس دولا أنهكتها الحروب والمجاعات. ورغم اتساع رقعة التدهور وعظم الكوارث التي حلت في وطن مشبع بالفساد وحب السلطة إلا أن الثورات التي تزلزل أركان الأنظمة البائدة تبعث شعاعا من أمل في مستقبل يعيد للبلاد سابق عهدها إن لم ينقلها لمصاف الدول المتطورة. ورغم بصيص الأمل الذي أعيانا انتظاره عقب ثلاث ثورات شعبية، استبشرنا خيرا بثورة الشباب لاسباب ثلاث أولها ما أظهرته من روح وطنية عالية تسامت فوق الظلم ومراراته وثانيها ما عكسته من تكافل عملي أذاب طبقات المال والقبيلة والجهوية وآخرها ما أبدته من رغبة صادقة في اجتثاث سرطان الفساد (سلمية سلمية ضد الحرامية). ولعل الشعب السوداني قاطبة- باستثناء القلة- موقن بأن الفساد الذي استشري في نظام البشير يفوق كل تصور فلا عجب أن يشمر الناس سواعد العدالة لاجتثاث ذلك الداء المهلك من جذوره. ومع تسليمنا التام بأهمية ملف الفساد في سلم أولويات الثورة الشبابية إلا أننا ما زلنا نعاني من ضعف في مقادراتنا على اصابة الهدف الصحيح وأخشى ما أخشى أن تضيع جهود محاربة الفساد هباء وتنطلق سهامنا الطائشة لتصيب قوما بجهالة. ولعل ما دعاني للمضي في هذا الطريق مطالعاتي لبعض الحملات الشرسة في هذه الأيام وآخرها الحملة المنظمة التي استهدفت البنك الزراعي وقيادة البنك تحديدا. بالتاكيد لست من المتابعين لدولاب العمل داخل البنك الزراعي ولست من المدافعين عن أي فساد في أروقة ذلك الصرح الوطني العملاق – وقلما تخلو مؤسسة حكومية من فساد في ظل التمكين- لكنني ضد التشهير بمن قضى عمره في خدمة البنك في ظروف غير طبيعية بذل فيها الغالي والنفيس في خدمة العاملين بالبنك وعملائه – خاصة صغار المزارعين. في زمان جميل مضى وفي أحضان مؤسسة جامعية كان يشار لها بالبنان جمعتنى الدراسة في كلية الزراعة بالأخ صلاح حسن المدير الحالي للبنك الزراعي وثلة من أبناء السودان لا يعرفون القبلية ولا الجهوية وعازمون على خدمة بلادهم حيثما كانت الحاجة للتنمية. عرفت الأخ صلاح بعيدا عن الانتماءات السياسة الصارخة ومثابرا وخلوقا وظل هذا ديدنه كلما تقاطعت طرقنا في هذه الدنيا الواسعة. بدأ حياته من أدنى السلم الوظيفي للجامعيين في البنك الزراعي وظل وفيا لتلك الموسسة وترقى بجدارة في السلم الوظيفي للبنك مما أكسبه الماما كاملا بحال البنك وواقع التمويل الزراعي في السودان. وغني عن القول أن البنك شهد تراجعا كبيرا في ظل سياسات التمكين العرجاء خاصة عندما تبوأ موقع القيادة في البنك سياسون لا علم لهم لا بالزراعة ولا بالتمويل وتصحر البنك من جراء كتاحة التمكين وفقد ثلة ممن أسهموا في تشييد ذلك الصرح في حين ظل الأخ صلاح يواصل دوره بذات القيم التي آمن بها ووهب حياته لها. وكان من الطبيعي في ساعة تهاوي البنك أن يبحث الانقاذيون عن من ينقذهم من فعلتهم تماما مثل ما طلبوا النجاة من حمدوك وقد اوشك قارب اقتصادهم على الغرق. فعجموا عيدان الزراعيين في البنك فلم يجدوا مثل صلاح في قيادة سفينة البنك الى بر الأمان. نجح المهندس صلاح في مهمته أيما نجاح رغم تدخل جهات أعلى منه بين الفينة والفينة وتلك صلاحيات معروفة لمن هم فوق منصب المدير في كل مؤسسة مصرفية لأن صلاحيات مجلس الادارة في أي مصرف لا يستطيع المدير تخطيها وأفضل ما يمكن عمله هو المجاهرة برأيه وتبيان الخطأ دون أن يتحمل هو تبعات قرار الجهات الأعلى منه. ولعل السؤال الذي يتبادر للذهن هل من الافضل الاستقالة أم مواصلة العطاء في حالة التدخل من أعلى؟ ورغم أن مثل هذا القرار يخضع للكثير من الموازنات إلا أن تجربتي الشخصية تذهب في اتجاه أفضلية البقاء حتى لا نترك الجمل بما حمل للمفسدين في الأرض ونحاول جهدنا في تدارك ما يمكن تداركه وتقديم الخدمات لبعض مستحقيها إن فاتنا مساعدة الكل. وللحقيقة والتاريخ شهد البنك الزراعي نهضة حقيقة في ظل قيادة المهندس صلاح شهد بها العاملون في البنك والمزارعون والمنظمات المحلية والدولية وقد كان لي شرف المشاركة في العديد من البعثات السنوية لتقييم الموسم الزراعي في السودان علما بأن تلك البعثات تضم خبراء من جهات عدة مثل وزارة الزراعة والمنظمات الدولية كالفاو وبرنامج الأغذية العالمي والمعونة الأمريكية وغيرهم. وبقراءة سريعة لتقارير السنوات الأخيرة وما عكسته من توفر التمويل الزراعي في كل أرجاء البلاد بل ووجود فائض في العديد من فروع البنك الزراعي لخير دليل على دور البنك الرائد في فترة عصيبة من تاريخ البلاد. ولو اكتفى البنك الزراعي بدوره التمويلي لكان ذلك كافيا للاشادة بنجاحه لكنه مضى قدما في تقوية المزارعين عبر انشاء كيان ضخم خاص بالتمويل المتناهي الصغر ودعم المزارع عندما تتدنى الاسعار من خلال الشراء المباشر والتمويل بالسلم وكذلك دعم المستهلكين عندما تقفز الاسعار عبر طرح كميات من مخزونه الاسترتيجي من الحبوب كما صنع في دارفور عندما أسهم في توفير وخفض أسعار الدخن. صحيح أن مثل هذا الجهد الكبير يمكن أن تصاحبه اخفاقات أحيانا من بعض ضعاف النفوس هنا وهناك لكن العبرة بالنتائج والأهداف السامية. ونختم هذا المقال بما لمسته شخصيا من جهد كبير من المهندس صلاح في خدمة القطاع الزراعي كلما طلبنا التعاون معه في اطار مشروعات تنمية للنازحين في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة ورغم أن معظم المشروعات عانت من التدخلات السياسية والأمنية إلا أن المهندس صلاح قام بدوره كاملا وأعلن استعداده لتوفير المطلوب من البنك بل وكلف العديد من القيادات في البنك بالمتابعة. ويبقى السؤال لمصلحة من تستعر الحملات ضد الشرفاء من أبناء الوطن دون معرفة بصلاحيات الوظيفة وحدودها؟ أم ينطبق علينا مقولة الفرنج: Doing the right thing in the wrong way.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
سيد أحمد حسن بتيك
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست