الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة السادسة والثلاثون بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 04:09 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-27-2019, 00:09 AM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة السادسة والثلاثون بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

    00:09 AM April, 26 2019

    سودانيز اون لاين
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر



    بسم الله الرحمن الرحيم
    (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور)
    الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية
    الإنسان في الإسلام

    الباب التاسع
    الكمال الانساني
    الفصل الأول
    الإسلام ومرحلة الإنسانية

    الإسلام، في الحقيقة كما سبق أن ذكرنا، هو دين الخلائق جميعها.. فما من مخلوق إلا وهو مسلم لله.. وهذا هو الإسلام في مستوى الأمر التكويني.. مستوى الإرادة.. وليس بهذا الإسلام عبرة، فهو أساساً لا تقع فيه معصية.. أما الإسلام الذي به عبرة، فهو إسلام (الرضا).. إسلام العقول.. إسلام البشر..
    بالنسبة لإسلام الرضا، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يقع في مستويين: مستوى دون الإيمان، ومستوى فوق الإيمان.. فالإسلام درجات، تقع في سلم سباعي، أولها الإسلام، وثانيها الإيمان، وثالثها الإحسان، ورابعها علم اليقين، وخامسها علم عين اليقين، وسادسها علم حق اليقين، وسابعها الإسلام من جديد.. ولقد سبق لنا أن تحدثنا عن السلم السباعي، وعن النهاية التي تشبه البداية ولا تشبهها.. فالإسلام الأول هو إسلام الظاهر فقط، فهو دون الإيمان.. هو قول باللسان، وعمل بالجوارح.. قال تعالى عن هذا الإسلام: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".. فهو أثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان.. ولذلك إسلامهم هذا، هو دون الإيمان.. وفي حق الإسلام الأخير، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ".. فهو أقرهم على الإيمان "يا أيها الذين آمنوا"، ثم دعاهم ليتقوا الله حق تقاته، حتى يصبحوا مسلمين..
    فالإسلام، كما ورد في القرآن، جاء على مرحلتين: مرحلة العقيدة ودرجاتها ثلاث، وهي: الإسلام الأول، الإيمان، والإحسان.. والإسلام الثاني، هو مرحلة العلم، ودرجاته ثلاث أيضاً، هي: علم اليقين، علم عين اليقين، وعلم حق اليقين، وجميعها وارد في القرآن.. وهذا الإسلام الأخير هو المراد بالأصالة، وما الإسلام في المرحلة الأولى إلا وسيلة إليه.. ولم يحقق هذا الإسلام في التاريخ سوى الأنبياء.. أما أممهم، فقد كانت في درجات الإيمان.. محمد صلى الله عليه وسلم، كان وحده المسلم، الإسلام الأخير.. في حين أن أمته كانت (أمة المؤمنين)، وهذا هو اسمها، كما هو درجة تحقيقها.. فالقرآن عندما يخاطب الأمة، مقابل الأمم السابقة، يسميها (الذين آمنوا).. ومن أوضح ما جاء في هذا الصدد، قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا". فهو قد سماهم (الذين آمنوا) ثم ندبهم ليؤمنوا.
    الإسلام الأخير لم يجيء منه في التاريخ سوى الطلائع.. فأمة المسلمين لما تدخل بعد.. ومحمد صلى الله عليه وسلم، هو صاحب رسالتين: الرسالة الأولى لأمة المؤمنين، والرسالة الثانية لأمة المسلمين.. وقد عاش هو في قمة الرسالة الثانية، في حين عاشت أمته في القرن السابع، في مستوى الرسالة الأولى، فكانوا (أمة المؤمنين).
    وهو صلى الله عليه وسلم، رسول للإنسانية كافة.. ورسالته في هذا المستوى هي لأمة المسلمين، التي هي خلاصة وتتويج لجميع رسالات السماء، وبها الإسلام الأخير، ينفتح لجميع البشر ليحققوه، وما ذلك إلا لأن الأرض، قد استعدت لهذا التحقيق، بالطاقة به، والحاجة إليه، وقد سبق لنا أن تحدثنا عن المستويين في القرآن: مستوى الفروع، القرآن المدني، ومستوى الأصول القرآن المكي، فليراجع في موضعه.. فالفروع هي مستوى الرسالة الأولى، مستوى الشريعة، لأمة المؤمنين.. والأصول هي مستوى عمل النبي في خاصة نفسه، مستوى السنة، مستوى القرآن المكي.
    محمد صلى الله عليه وسلم في الرسالة المحمدية هو رسول لأمة المؤمنين وهم الأصحاب.. وفي الرسالة الثانية الأحمدية، هو رسول لأمة المسلمين، وهم الأخوان.. عن الرسالة المحمدية، جاء قوله تعالى: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..".. وعن الرسالة الأحمدية جاء قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم، مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي، اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ".
    وعن الاختلاف بين مستوى الرسالتين، يجيء الحديث عن الأصحاب والأخوان.. فقد ورد عن النبي أحاديث عديدة عن الأصحاب والأخوان، نذكر منها قوله: "واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي.. واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي.. واشوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد!! قالوا من إخوانك يا رسول الله؟ قال: قوم يجيئون في آخر الزمان، للعامل منهم أجر سبعيـن منكم!! قالوا: منا، أم منهم؟ قال: بل منكم!! قالوا: لماذا؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعوانا، ولا يجدون على الخير أعوانا".. فقد كان المؤمنون أصحابه، ولم يكونوا أخوانه.. وإنما أخوانه المسلمون الذين لما يأتوا بعد، كأمة.. وقد استجابت أمة المؤمنيين لدعوته، في مستوى ما يطيقون.. "وسيجئ محمد بنبوة أحمدية، ورسالة أحمدية، فيدعو أمة المؤمنين، ويدعو غيرها من سائر الأمم إلى الإسلام، ويفصل، في التشريع، وفي التفسير، ما أجمل في القرن السابع. وسيستجاب له استجابة مستفيضة"..
    نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن الرسالتين، ولم نتعرض لهما إلا من باب الحديث عن الإسلام الأخير، وذلك لأنه مرحلة الإنسانية التي نتحدث عنها.. هذا، في حين أن مراحل الإيمان، من لدن سيدنا آدم، وحتى نبينا محمد، عليهم جميعاً الصلاة والتسليم، كانت مرحلتهم هي مرحلة البشرية، أو بني آدم.. وكانت جميعها إعداد الأرض لظهور مرحلة الإنسانية (أمة المسلمين)، التي يكون بها تتويج جميع رسالات السماء، وتحقيق إنسانية الإنسان، التي هي وظيفة هذه الرسالات منذ أن بدأت بآدم عليه السلام.. من أراد التفاصيل حول موضوع الأمتين، يمكنه الرجوع إلى كتاب (الرسالة الثانية من الإسلام)، وكتاب (طريق محمد)، وهي تبين السبيل لتحقيق إنسانية الإنسان..
    يقول الأستاذ محمود في هذا الصدد: "والذي يهمنا، من كل أولئك، هو رسم طريق استخراج الأخوان من الأصحاب حتى يتضح الطريـق الذي بسلوكه يجيء إنسان الغـد، ذلك الإنسان الذي يملك القـدرة على أن يحيـا حياة عميقـة وعريضـة _حياة الفكر وحياة الشعور.. هـذا الإنسان هـو غرض الدين، منـذ أن عـرف الديـن.. بل هـو غرض الحيـاة ، قبل الديـن..".
    إذن غرض الدين هو تحقيق الإنسان على الأرض.. وهذا هو معنى، جعل الإنسان خليفة في الأرض.. وهذا الغرض لم يتحقق بعد، ولكنه يوشك أن يتحقق.. وقد اكتملت جميع أشراط تحقيقه المادية، ولم يبق سوى اكتمال الشرط الروحي.
    من كل ما تقدم، يتضح أن الإسلام، هو دين الإنسان.. فالغرض الأساسي، من دين الإسلام، هو تحقيق الإنسان _الخليفة_ في الأرض.. هذا هو الغرض الأساسي، الذي ظل جميع الرسل يعملون من أجله.. أعني بجميع الرسل، حتى الرسل السابقين على الرسل من البشر، الذين تجيء رسالاتهم عن طريق ملك الوحي.. فهؤلاء ليسوا الرسل الوحيدين!! يقول الأستاذ محمود: "الرسل الأولى رسل العناصر التي أبرزت، بالخوف، الجسد من القلب.. ثم أبرزت، بالخوف أيضاً، الحواس من الجسد.. ثم أبرزت بالخوف أيضاً، العقل من الحواس.. والرسل الثانية رسل العقول إلى كل فرد بشري.. والرسل الثالثة رسل عقول الحكماء، والأذكياء، والمجربين، إلى عقول أهل الغرارة والسذاجة.. والرسل الرابعة رسل الملائكة الأطهار، تتصل بالبشر المؤهلين، لتسوقهم، ولتسوق بهم، إلى طريق الحكمة، والصلاح، الذي به يكون العتق من الخوف، ومن الضلال الذي يوجب الخوف.. قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ، وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم،ٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ، وَهُم مُّهْتَدُونَ).. والرسل الخامسة، إذن، رسل البشر المكرمين، إلى بقية البشر المكلفين.. يأتونهم ببينات السماء، عن طرائق الوحي الأمين.. والرسل السادسة رسل العقول المرتاضة بأدب الحق، وبأدب الحقيقة، إلى القلوب التي وسعت كل شيء، لأنها بيت المطلق.. والرسل السابعة رسل هذه القلوب.. إلى هذه القلوب منها وإليها، بغير واسطة فما في الكون إلا إياها.."
    نحن في هذا الكتاب، ليس من غرضنا الحديث عن المنهاج (طريق محمد) صلى الله عليه وسلم، الذي هو منهاج تحقيق الإسلام، وبالتالي منهاج تحقيق إنسانية الإنسان.. وهو منهاج في أساسه، يقوم على العمل في التقوى، التي تكون بها رياضة العقول، حتى تقوى، ويدق فكرها، ويتسع، وتحقق الحياد الفكري.. فالحياة الإنسانية كما ذكرنا تقوم على الفكر الصافي، والقلب السليم.. ولكن لكي نعطي القاريء صورة، عن التدرج في مراقي الإنسانية، نورد هنا، حديث الأستاذ محمود عن مستويات التقوى، والفرقان، فقد قال: "فللتقوى إذن مستويات، وللفرقان مستويات تقابلها، فإنه، كما قررنا، التقوى شجرة، والفرقان ثمرة..(وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ).. وأغلظ مستويات التقوى ما يكون للمؤمن العادي، وهو مستوى الحلال البيِّن، والحرام البيِّن.. وبينهما يتأرجح "بندول" الفكر.. وأول منزلة تلي منزلة المؤمن العادي، منزلة الوَرِع.. والورع هو الحَذِر، الشديد الحَذَر، المتيقظ الوجدان، الشديد التيقظ.. فهو لا يعمل إلا إذا علم، وهو قليلاً ما يعلم، وذلك لزيادة شكه على علمه، ولذلك قيل عنه: إنه هو الذي يترك سبعين باباً من الحلال، خوف الحرام.. يترك ما لا بأس به، خوف ما به بأس.. وهذه مرحلة هامة جداً من مراحل التنبه الفكري، تلي التبلد الفكري، الذي يكون عليه المؤمن العادي.. ثم تكون المنزلة الثالثة، وهي تلي منزلة الورع، وهي منزلة صاحب اليمين.. وفيها، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة في المنزلتين السابقتين، يكون السالك قوي الفكر، قوي العزيمة.. لا تتلبس عليه وجوه الرأي، فهو يدرك بسرعة، ويميز بدقة، ويحمل نفسه على العمل بعزائم الأمور.. وهو إنما سمي صاحب اليمين لأن عمله ضد رغائب نفسه، في غالب أحواله، كأنه ضد صاحب الشمال.. ثم تلي هذه المنزلة، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة في المنازل السوابق، منزلة البَر.. والبر أكثر إدراكاً من صاحب اليمين، وأكثر تسامحاً فهو رفيق بنفسه، وبالناس، وذلك بفضل سعة علمه.. فإن صاحب اليمين، حين قبضته بقية الوَرَع الذي ورثه من منزلة الورَع، التي خرج عنها، ولمَّا يتخلص من عقابيلها، بسط العلم صاحب منزلة الأبرار.. فترى البَر سمحاً، متسامحاً، واسع الأفق، يرى الوجوه المختلفة لكل قضية فكرية، أو سلوكية، تعرض عليه، بطريقة فيها سعة، وفيها دقة.. ثم تلي منزلة البر منزلة المُقَرَّب.. والمقربون هم الذين يكونون عند ربهم، غالب أحوالهم، فهم علماء، قد وسَّع العلم عليهم ما ضيَّق الجهل على سواهم.. فأصبحوا، بفضل الله، ثم بفضل سعة علمهم، رحماء، طيبين، متسامحين، محبين للأشياء، والأحياء، في سلام مع ربهم، ومع أنفسهم، ومع الناس.. يدعون إلى الرضا بالله، والمصالحة مع الناس، وينشرون الحب، والسلام، والمسرة، بين الناس، كما ينشر الزهر العطر، وكما تنشر الشمس النور، والحرارة، والدفء.. هؤلاء هم ملح الأرض، عُرِفوا، أولم يُعرفوا.. وتقوى هؤلاء هي عمل، أو ترك للعمل، ابتغاء وجه الله.. وزمنهم فكر متصل.. فجميع أوقاتهم معمورة بالفكر، والعمل.. وفكرهم ليس تعمُّلاً، وإنما أصبح طبيعة، تنبع فيهم المعاني، والمعارف، كما ينبع الماء النمير من العين الثرة، وقد تطهرت من أوساخها، وأوضارها.. وعبادة المقربين الاستقامة.. والاستقامة أن تكون على السراط المستقيم، في الفكر، والقول، والعمل، فلا تميل يسرة، ولا يمنة.. ولا تتم الاستقامة إلا لمن تخلص من ذنبه، ما تقدم منه، وما تأخر.. وهيهات!! ولكن هذا موعود الله لأهل قرباه، وموعود الله لا بد آت، فوعده، تعالى، غير مكذوب.. ولقد قال في الآية التي صدرنا بها هذه المقدمة: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ".. قوله تعالى: "ويكفر عنكم سيئاتكم" يعني يغفر لكم خطيئاتكم الموروثة من لدن آدم.. وتلك تتمثل في الكبت على العقل الباطن المتوارث عبر التاريخ البشري.. قوله تعالى: "ويغفر لكم" يشير إلى الخطيئة المكتسبة، في مقابلة الخطيئة الموروثة.. والخطيئة المكتسبة تتمثل في الكبت الواقع على العقل الباطن، المكتسب أثناء عمر أحدنا.. وإنما يكون التكفير، والمغفرة برفع هذا الكبت، الموروث، والمكتسب، وإنما يكون رفع الكبت "بالفرقان".. بنور العقل القوي الذي يتخلل السراديب المظلمة، حيث ترقد الرغائب المكبوته، على حواشي العقل الباطن خلال ملايين السنين.. وقد سمى، تبارك وتعالى، هذه السراديب المظلمة حول العقل الباطن بالرين، وإليها نسب غفلتنا، وجهلنا، وحجبنا عن الحقيقة، فقال، تبارك وتعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ".. فبقدر ما يرفع هذا الرين _هذا الكبت_ بقدر ما تكون قوة العقل، ودقة الفكر، ووحدة البنية البشرية.. وأصحاب هذه البنية الموحدة هم أصحاب العقول التي، بقوة فكرها، تفلق الشعرة، وتملك التمييز بين فلقتيها: أيهما أبيض، وأيهما أسود.. وبقدر قوة التمييز تكون سلامة السلوك، وسلامة القلب، وصفاء الذهن "
    لا بد من ملاحظة ارتباط الفكر بالقيم، وكذلك ارتباطه بإنسانية الإنسان.. فبداية إنسانية الإنسان، هي سيطرة العقل على الشهوة ـ هذا في مرحلة البشرية ـ وما دون ذلك، أدخل في مرحلة الحيوانية، ولذلك بداية المسلم العادي، معرفة الحلال البين والحرام البين، والتزام هذه المعرفة في العمل.. وهذه هي بداية الحرية أيضاً.. فمن تسيره رغبته أو شهوته _هواه_ هو العبد الحقيقي.. ومرحلة المؤمن هي بداية العمل بعقل المعاد، وتهذيب عقل المعاش.. وبالطبع ما قبلها، يقوم على عقل المعاش.. وهو دون العقل الذي يكون به الإنسان إنساناً.
    البداية الحقيقية لإنسانية الإنسان، تكون بمرحلة (المقربين)، وأهم سماتهم، هي كونهم "يكونون عند ربهم غالب أحوالهم". وبذلك استحقوا صفة القرب.. وهذه المعية هي التي بها زيادة العلم بالله، وبها زيادة الحياة.. الحياة الحية _حياة الإنسان_ ونتيجة لهذه الصلة الغالبة بالله، تأتي بقية الصفات الإنسانية، العظيمة، المذكورة، والتي سبق أن أوردناها، في حديثنا عن مستويات التقوى والفرقان.. وفي ذلك الحديث تحدثنا عن المقربين، وعن طبيعة ما يكونون عليه من كمال.. هذه الطبيعة هي الأصل.. وهي إنسانية الإنسان.. وقد ظهرت عند المقربين، نتيجة للعمل في التقوى، ونتيجة للفرقان، الذي اكتسب عن طريق هذا العمل، وبه تمت إزالة الحُجب، وإزالة الانقسام، وتوحدت الشخصية البشرية، فرجعت إلى أصلها.. ففكر المقربين ليس نحتاً، يقوم على الاجتهاد، وإنما هو أصبح طبيعة، تنبع فيهم المعاني والمعارف.. عبارة "وتطهرت من أوساخها وأوضارها" إشارة إلى إزالة الرين، عن طريق التقوى.. وكذلك عبارة "ولا تتم الاستقامة إلا لمن تخلص من ذنبه ما تقدم منه وما تأخر".. فهي تشير إلى التخلص من العقد الموروثة والمكتسبة، تلك العقد التي أورثنا إياها الخوف، فقعدت بنا عن تحقيق إنسانيتنا.. وهذه هي أيضاً إشارة لفض الكبت، الذي لا مجال للكمال من دونه.
    الخلاصة تجيء في عبارة "وعبادة المقربين الاستقامة".. فالاستقامة هي قمة الكمال الإنساني، ونهايته.. وهي نهاية، إذا صحَّ التعبير، بغير نهاية، لأنها منفتحة على الإطلاق، ولذلك جاء عنها "ولا تتم الاستقامة إلا لمن تخلص من ذنبه، ما تقدم منه، وما تأخر.. وهيهات!! ولكن هذا موعود الله لأهل قرباه، وموعود الله لا بد آت"..
    وبالاستقامة، تكون بداية إنزال مقام (أحسن تقويم) من الملك إلى الملكوت.. حتى يتجسد في واللحم الدم.. وهذه هي خلاصة التجربة الدينية.. وإليها الإشارة، في صلاة المسيحيين الأساسية، بقولهم: (أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأتي ملكوتك.. لتكن مشيئتك كما في السماء، كذلك على الأرض)".. (إنجيل متي)..
    وعن الاستقامة يجيء من تكملة النص أعلاه "وكما أنه ليس للكمال نهاية، فليست للاستقامة نهاية، وكل مستقيم يعرف تقصيره عن بلوغ المدى المطلوب من هذا الأمر الخطير.. وهذا ما جعل المعصوم يقول: "شيبتني هود وإخواتها"، كما ذكرنا.. وكل هذه المراتب التي ورد ذكرها إنما يبلغنا إياها العلم، والعمل بمقتضى العلم.. وأعلى العلم التوحيد، وأعلى العمل الصلاة.."
    قصدنا مما تقدم، أن نعطي، مجرد لمحة، لمفهوم الإنسان والطبيعة الإنسانية، من حيث التحقيق العملي.. ومجرد إشارة للمنهاج، الذي به يتحقق ذلك.. والحديث لا يزال مستمراً.. ونحن لنا عودة بصورة خاصة للعواطف الإنسانية، وفي قمتها (المحبة)، التي جاء عنها، من الحديث عن المقربين "يدعون إلى الرضا بالله، والمصالحة مع الناس، وينشرون الحب، كما تنشر الشمس النور، والحرارة والدفء".. فهذا الحب، هو خلاصة الخلاصة، في التحقيق الديني، وفي تحقيق إنسانية الإنسان، ولذلك نحن لنا إليه عودة.
    27/4/2019م























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de