الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة الثالثة والثلاثون بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 11:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-08-2019, 08:38 PM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية الحلقة الثالثة والثلاثون بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

    08:38 PM April, 08 2019

    سودانيز اون لاين
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر



    بسم الله الرحمن الرحيم
    (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور)
    الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية
    الإنسان في الإسلام

    الباب السادس
    الحرية والأخلاق

    الحرية والأخلاق معاً، يمثلان جوهر إنسانية الإنسان.. فهما، معاً، يمثلان أهم خاصية للطبيعة الإنسانية، وهي الخاصية التي تميز الإنسان، عن جميع خلق الله، كما أنها الخاصية التي رشحت الإنسان، ليكون خليفة الله في الأرض.. فالحرية والأخلاق، في الإسلام، لا ينفصلان، عن بعضهما، كما أنهما لا ينفصلان عن الطبيعة الإنسانية.
    لقد رأينا، أن الإنسان خلق في عالم الملكوت كاملاً، وعالماً، وحراً.. وكانت حريته منحة لم يدفع ثمنها، فامتحنه الله تعالى ليرى كيف يصنع في حريته، فقال: "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ".. وكان هذا بداية التكليف وبه أصبح آدم صاحب أول عقل مكلف.. والتكليف هو أمر سيطرة العقل على الشهوة.. وسيطرة العقل على الشهوة، ميزت الإنسان على الحيوان، ولذلك هي بداية إنسانية الإنسان، والشرط الضروري لهذه الإنسانية.. فإذا غابت سيطرة العقل على الشهوة هبط الإنسان، في سلم التطور، إلى مرحلة الحيوانية، التي إرتفع منها.. وهذا يحدث مع كل معصية، في مستوى من المستويات.
    وقد عصى آدم، وحواء، أمر ربهما، وأكلا من الشجرة.. وكانت هذه المعصية، أهم واخطر مراحل مسيرة الإنسان، في مراقي تحقيق إنسانيته.. فالأمر الألهي إنما جاء بعد أن أعد الله تعالى الإنسان له، بإعطائه إرادة الحرية، بالإضافة إلى إرادة الحياة، وبذلك ارتفع الإنسان فوق الحيوان، واستحق أن يكون مكلفاً، وأصبح له ذكر في الملكوت، بعد أن لم يكن.. وبعد الأمر الألهي لآدم وحواء، بعدم الأكل من الشجرة، أصبحت الصورة عندهما: إما أن يطيعا الأمر أو يعصياه.. فإن أطاعا الأمر، يكونا قد اختارا مرضاة الله، وإذا لم يطيعا يكونان قد اختارا إرادتهما أو رغبتهما، دون مرضاة الله.. وهذا هو جوهر التكليف دائماً: هل نريد الله أم نريد أنفسناّ؟ هل نخضع لإرادة الله كما يجيء بها أمره في الشريعة، أم نتبع إرادتنا نحن، ونطيع هوانا؟.. منذ ذلك التاريخ، تولد هذا الصراع عندنا: الصراع بين إرادتنا وإرادة الله.. وهو صراع سرمدي المطلوب فيه دائماً أن نسلم إرادتنا لإرادة الله، ولكن لأن الله تعالى، في ذاته مطلق، فمهما أسلمنا له، يكون هناك نقص في إسلامنا، سببه جهلنا في المنطقة التي لا نسلم فيها.
    عندما عصى آدم وحواء، أهبطا من الجنة.. ولكنهما طلبا المغفرة، فغفر لهما.. وجوهر هذه المغفرة هو إنهما أعطيا حق الخطأ!! وهذا يعني أنهما لم تضرب عليهما الطاعة الدائمة، كما فعل بالملائكة.. كما لم تضرب عليهما المعصية الدائمة، كما فعل بالأبالسة.. فهذه النشأة الخطاءة، هي الميزة الأساسية للإنسان، على بقية خلق الله، إذ بها دخل عنصر الحرية في وجود الإنسان، وبها انفتح التطور في مجالات الكمال بصورة لا نهائية.. فحق الخطأ هو جوهر إنسانية الإنسان، الذي يميزه عن بقية خلق الله، وهو أساس الحرية عند الإنسان..
    وقد كرم المعصوم، حق الخطأ، أيما تكريم، حين قال: "إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله، بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم" وبحق الخطأ أصبحت عند الإنسان الفرصة، لاسترداد حريته التي كانت في الملكوت، بأن يدفع ثمنها في تجربة الخطأ والصواب ـ والصواب وحده فيه الحرية، ولكن ميزة حق الخطأ، هي أن الإنسان يأتي إلى هذا الصواب بإرادته، وليس مضروباً عليه مثل الملائكة.. الصواب هو طاعة الله، والخطأ معصيته.. وطاعة الله هي الكمال، هي الجنة، ومعصيته تعالى، هي النقص، وهي النار والعذاب.. والعذاب ليس مقصوداً لذاته، وإنما المراد به رد المعذب إلى الطاعة، إلى الجنة والكمال.. ولذلك، حكمة العذاب، هي السوق إلى الصواب، بعد التجربة.. العذاب وسيلة تعليمية، تخدم مسيرتنا إلى كمالنا، دون مصادرة حريتنا بصورة نهائية كالأبالسة، ودون أن تضرب علينا الطاعة كالملائكة.
    إذاً، حق الخطأ، هو جوهر الحرية الإنسانية، وبه أصبحت الحرية في صميم الطبيعة الإنسانية.. وبه أصبح سير الإنسان إلى ربه، إنما يكون عن طريق عقله الذي يخطيء ويصيب.. ومن هنا أيضاً تأتي فضيلة العقل.
    الحرية والأخلاق وطبيعة الوجود:
    قلنا أن كل شيء يأخذ أصل وجوده من أصل الوجود _الذات الإلهية المطلقة.. فالذات، هي وحدها الحرة، في الحقيقة، وحريتها مطلقة.. فهي لا يحدها حد، ولا يقيدها قيد، ولا يلحق بها النقص أو القصور، في أي صورة من الصور.. وهي صاحبة الإرادة المطلقة والفاعلية المطلقة، فلا شيء على الإطلاق، يمكن أن يحد من إرادتها، أو يعوق نفاذ هذه الإرادة في أي مستوى من المستويات.. وهي لا تخضع لشيء غيرها، ومستغنية عن الأغيار بصورة مطلقة، فلا تحتاج لغيرها.. وهذا هو أصل الحرية _الإطلاق.. والإسلام يرى أن الأصل في الحرية عند البشر هو الإطلاق، وأننا حين نتحدث عن الحرية، من حيث هي، وفي أي مستوى من المستويات كانت، إنما نتحدث عن الإطلاق، من حيث لا ندري، ذلك بأن الحرية المقيدة إنما هي نفحة من نفحات الإطلاق، تضوعت على أهل الأرض بقدر طاقتهم على احتمالها، فكأنما القيد ليس أصلاً، وإنما الأصل الإطلاق، وما القيد إلا لازمة مرحلية تصاحب تطور الفرد من المحدود إلى المطلق.
    فالحرية في الإسلام مطلقة، وهي حق لكل فرد بشري، من حيث أنه بشري، بصرف النظر عن ملته أو عنصره، وهي حق يقابله واجب، فلا يؤخذ إلا به، وهذا الواجب هو حسن التصرف في الحرية، فلا تصبح الحرية محدودة إلا حين يصبح الحر عاجزاً عن التزام واجبها، وحينئذ تصادر في الحدود التي عجز عنها، وتصادر بقوانين دستورية.. هذا ما ورد عن الأستاذ محمود، من كتابه "الرسالة الثانية من الإسلام".. يقول الأستاذ محمود: "والحرية الفردية المطلقة هي منـذ اليـوم المركز الذي منـه تتفـرع، وتشـع الحرية الجماعيـة، بجميع صورها، وفي كافـة مستوياتهـا، تدخل في ذلك معيشتنا اليومية، أثناء الكسب وأثناء الصرف".
    فالله تعالى هو صاحب الحرية الوحيد في الوجود، وحريته مطلقة.. وحرية عبيده، إنما هي من حريته، ينالونها كل حسب فضل الله عليه، وحسب إعداد أوانيه للتلقي من المطلق.. والتفاوت بين الخلق في الحرية، إنما سببه التفاوت في الاستعداد للتلقي، أو بعبارة أخرى (حسن التصرف في الحرية).
    ولقد خلق الله تعالى، آدم على صورته، وهذا يعني هنا، أنه خلقه حراً.. وكان هذا في الملكوت، وكانت حريته منحة من غير ثمن _كما ذكرنا_ ثم أهبطه إلى عالم الملك، ليأخذ حريته بثمنها، عن طريق التجربة في الخطأ والصواب.. فالحرية مكتوبة على الإنسان، وهي لدى الدقة، تكليفه الأساسي!! وصيرورته إليها حتمية، في حينها، ولكنها لا تكون، دون أن يحسن التصرف فيها، وهذا هو ثمنها.
    ماذا عن الأخلاق؟ هي أيضاً لله تعالى بالأصالة، ولنا نحن بالحوالة، "فأفضل الخُلق، خُلق الله الأعظم"، كما يقول المعصوم.. وأخلاق الله هي القرآن.. فالقرآن هو تَنَزُّل لهذه الأخلاق، حتى نفهمها، ونتخلق بها، وبذلك جاء الأمر الإلهي.. ووظيفة الرسالة الخاتمة _الرسالة الأحمدية_ هي إتمام مكارم الأخلاق، يقول المعصوم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. لاحظ "لأتمم"!! فمكارم الأخلاق، بادئة قبله، وهو إنما بُعث ليتممها!! فالأخلاق هي الدين كله.. وقد قال المعصوم: "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراطٍ مستقيم".. ولقد تحدثنا عن (الاستقامة) ونحن نتحدث عن خلق الإنسان (في أحسن تقويم).. فالاستقامة هي كمال الأخلاق، وهي الوجود الكامل.. جاء في القرآن "كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تعلمُونَ الْكِتَابَ، وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ".. فالرباني هو المتخلق بأخلاق الله، الواردة في القرآن.. وقد قالت السيدة عائشة عن النبي الكريم: "كانت أخلاقه القرآن"، فهو نموذج للإنسان الرباني.. ولذلك حياته _سيرته_ هي مفتاح مغاليق القرآن، وهو القرآن الحي!! ولذلك جُعل للناس قدوة، يتبعونها، ويقلدونها، وبقدر حسن اتباعهم، وتقليدهم، يكون مقدار تحصيلهم من الأخلاق الفاضلة، وتحقيقهم لإنسانيتهم.
    فحياة الإنسان هي الحياة التي تقوم على الأخلاق، ولا تكون إلا بتهذيب عقل المعاش، والانتقال به إلى أن يكون عقل معاد.. فالأخلاق دائماً مرتبطة بالفكر السليم الصافي، ولن تنفك.. ولذلك قيل عن حياة الإنسان، أنها حياة الفكر والشعور.. فالفكر الصافي هو وسيلة (الشعور)، والمقصود به هنا، القلب السليم.
    الحرية هي بنت القيد الضروري لها.. وهذا القيد هو الأخلاق أولاً، ثم هو القانون الدستوري.. والأخلاق والقانون، شيء واحد، ويعملان عملاً واحداً، وهما معاً، لازمة من لوزام الحرية.. القانون والأخلاق لا يقيدان الحرية، وإنما هما ينظمانها لتكون ممكنة.. ما تقيده الأخلاق، أو قل تكبته، هو العجز عن الحرية أو عدم الوفاء بواجب الحرية، من أجل التربية على الالتزام بقيم الحرية، بحسن التصرف فيها، الأمر الذي يعين على استحقاق المزيد منها.. القيد في الأخلاق ليس لمصادرة الحرية، وإنما لتقوية العقل للتمييز، والإرادة للتنفيذ، وفق هذا التمييز، وذلك حتى يتأهل الفرد لمزيد من الحرية.. ولذلك أفضل تعريف للأخلاق هو: أنها حسن التصرف في الحرية.. والمعيار الأساسي لحسن التصرف، هو أن نريد الله، ونريد ما يرضاه الله.. والمعيار الأساسي، لعدم حسن التصرف، هو أن نريد هوانا، عن مرضاة الله، ونتبع عقل المعاش دون عقل المعاد، ونكون مع نفسنا الدنيا، دون نفسنا العليا، ومع أنانيتنا السفلى ضد أنانيتنا العليا.. باختصار أن نكون مع حياة الحيوان فينا، ضد حياة الإنسان.. وعلى التمييز بين هذه الأمور، والالتزام الإيجابي بها، يقوم حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وعلى عدم التمييز يقوم العجز عن الوفاء بواجب حسن التصرف في الحرية، وتتم مصادرتها، في المستوى الذي تمَّ فيه العجز، حتى نتعلم من خطئنا، فنحسن التصرف في الحرية، في المرة القادمة، فننالها بحقها.
    عن تعريف الأخلاق يقول الأستاذ محمود: "الأخلاق في الإسلام ليست هي الصدق، والأمانة، ومعاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به، إلى آخر هذه الفضائل السلوكية المحمودة.. وإنما هذه نتائج الأخلاق، وثمرتها. ولكن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة. وحسن التصرف هذا بإزاء الخالق أولاً، والخلق ثانياً، وفي نفس الأمر".. "فإذا اتضح لك أن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، أصبحت الأخلاق مسئولية واضحة.. وأمام من؟ أمام الناس، وأمام نفسك، وأمام الله، الذي يرى خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفي آنٍ واحد، وبغير تسلسل زمني".
    الإنسان حر، بقدر وفائه بواجب الحرية الفردية المطلقة.. والذي يجعلنا عاجزين عن الوفاء بهذا الواجب، إنما هو جهلنا.. ونحن لفرط جهلنا، نحب جهلنا، ونكره المعرفة، إلا إذا جاءت عن طريق يناسب هوانا "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ".. والآية تشير إلى أنانيتنا، فنحن نحب أنفسنا، ونحب كل ما يصدر عنها من حماقات، ولذلك كان لزاما علينا أن ننتقل من الأنانية الجاهلة _السفلى_ إلى الأنانية العالمة _العليا_ حيث حريتنا وإنسانيتنا.. والانتقال إنما يكون عن طريق القيد الذي يقع على الأنانية السفلى، من قبل الأخلاق، ومن قبل القانون.
    الحرية، حريتان:
    الحرية في الإسلام تقع في مستويين، مستوى الحرية التي تحكمها قوانين دستورية.. وهذه هي الحرية في المجتمع.. ومستوى الحرية المطلقة.. وهذه هي الحرية الفردية.. وتعريف الحر، في المستوى الأول: هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط ألا تتعدى ممارسته لحريته في القول، أو العمل، على حريات الآخرين، فإن تعدى تعرضت حريته للمصادرة وفق قوانين دستورية، جزاء وفاقاً.
    والحر في المستوى الثاني: هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون نتيجة ممارسته لكل أولئك إلا خيرا، وبركة، وبرا بالناس.
    وأدنى مراتب الحرية الأولى العدل، وأدنى مراتب الحرية الثانية العفـو، وصاحب الحرية الثانية، لا ينطوي ضميره المحجب على ضغن على أحد، ذلك لأنه يعلم أن الجريمة إنما تبدأ في الضمير، ثم تبرز إلى حيز القـول، ثم إلى حيز العمل. والله تعالى يقول: "وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ" وهو أيضاً يقول: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ".. ويقول: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" وهو في هذه الأقوال يخاطب صاحب الحرية في المستوى الثاني، ولا يخاطب صاحب الحرية في المستوى الأول.
    وأما أصحاب مرتبة الحرية المقيدة فإن حديث المعصوم يعنيهم حين قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفوسهم ، حتى يقولوا أو يعملوا"
    والحريتان متداخلتان، فالأولى منهما مرحلة إعداد للثانية، إذ لا يبلغ الفرد منازلها إلا بالتمرس بالمجهود الفردي في تربية النفس، بمراقبتها، ومحاسبتها، وترويضها لتصبح موكلة بالتجويد، كلفة بالإحسان.. والمراقبة تعني الحضور مع الله دائما حتى لا تتصرف الجوارح فيما لا يرضيه، من فكر، أو قول، أو فعل.. الأمر الذي يؤدي إلى مصادرة الحرية، بالقدر الذي تم فيه العجز عن الوفاء بحسن التصرف فيها.. والمحاسبة تعني استدراك ما فلت من ضبط المراقبة.
    واضح جداً من تعريف الحرية في المستويين، أنها مرتبطة بصورة لا فكاك منها بالأخلاق _حسن التصرف في الحرية.. فالحرية قيمة إنسانية أساسية، أدناها كما رأينا العدل.. وليس دون العدل حرية، في أي مستوى من المستويات.. والعدل يعني إعطاء كل ذي حق حقه، أو وضع الأشياء في مواضعها، وهذا أمر ليس بالهين.. ووجوه العدل هي: العدل بين العبد والرب، والعدل بين العبد ونفسه، والعدل بين العبد وأهله، والعدل بين العبد والناس، والعدل بين الناس.
    نحن في هذا الكتاب، لسنا معنيين بالحديث عن سُبل تحقيق الحرية، ولكنها مفصلة تفصيلاً دقيقاً في مصادر دعوة الأستاذ محمود للإسلام.. ويكفي أن نقول هنا، أنه لما للحرية من مكانة سامقة، فقد طوع الإسلام جميع عباداته، وتشاريعه في المعاملة، لتبلغ بالفرد هذا المبلغ العظيم من الحرية، وحسن التصرف فيها، وجعل هذا هو سبيله الوحيد، لتحقيق إنسانيته.. وهذا ما يستوجب العمل لأن نكون أحراراً، وأخلاقيين.
    ويلاحظ أن مجال الحرية، وهو نفس مجال الأخلاق، من الإسلام، يقوم على العمل من أجل وحدة البنية البشرية.. فالمستويان من مستويات الحرية، يقومان على وحدة البنية البشرية.. والاختلاف بينهما في الشرط.. في المستوى الأول الشرط العدل، وفي المستوى الثاني الشرط العفو.. ووحدة البنية البشرية لا تتحقق إلا للأحرار.. يقول الأستاذ محمود: "هذه النظرة القائمة على التوحيد المجود هي نظرة الصوفية.. ولذلك فإن رياضة الصوفية التعبدية تقوم على اكتساب المقدرة على النظر إلى الوجود بعين الله، وذلك بتوحيد الذات البشرية، أسوةً بالذات الإلهية. وذلك بالرياضة على توحيد الفكر، والقول، والعمل.. والقاعدة الذهبية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ؟ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ". وعندهم لا يستطيع القرب من مقام هذه الوحدة إلا الأحرار. والأحرار عندهم أندر الأشياء وجوداً.. قال أحدهم: 
 تمنيت على الزمان محالاً * أن ترى مقلتاي طلعة حر"
    الحرية من الخوف:
    لقد رأينا أن الخوف كان صديقاً في أول النشأة، فهو الذي حفز الحياة في مراقي التطور.. وقد أدى الخوف دوره الإيجابي المرحلي، وأصبح أكبر عقبة أمام الكمال الإنساني.. الخوف اليوم هو العقبة الأساسية أمام تحقيق الإنسان لإنسانيته.. وهو الأب الشرعي لجميع آفات السلوك.. والطمع والهوى صنوا الخوف، وعندما نتحدث عن الخوف نحن نتحدث عنهما.. الحياة لن تبلغ كمالها إلا إذا تحررت من الخوف تماماً.. فالخوف هو سبب البطش والتجبر عند القوي، وهو سبب النفاق والخنوع عند الضعيف.. وهو سبب الكذب في جميع الحالات، ولا توجد خصلة ذميمة عند الإنسان، لا يمكن ردها إلى الخوف.. والخوف هو سبب قصور الحواس عندنا، كما أنه سبب التواء الفكر، ونقص الحياة.
    الخوف هو أساساً، بسبب الجهل، ولذلك لا سبيل إلى التخلص منه إلا بالعلم.. العلم الذي به يطمئن صاحبه على حياته، وعلى رزقه، بصورة تجعله لا يخاف عليهما مما يمكن أن يكون مخبوءاً في رحم الغيب، في المستقبل.. وهذا هو العلم بالغيب ـ العلم بالله ـ وهو العلم الذي يقوم عليه منهاج الدين كله.
    المهم أنه لا سبيل للحرية، إلا بالتحرر من الخوف، ولا سبيل للتحرر من الخوف إلا بالعلم بالله _العلم بالله بالذات_ وليس أي علم آخر.
    العبودية لله هي الحرية:
    هنالك العبودية العامة، وهي تشمل كل الخلائق.. فخلق الله جميعهم عبيد لله، ولكنها عبودية هم لم يختاروها لأنفسهم، عن رضا وعلم.. وهنالك العبودية الخاصة، وهي عبودية الصفوة من أهل الله، وهي عبودية يكونون فيها على علم ورضا بها.. قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: "خيّرت بين أن أكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً، فأخترت أن أكون نبياً عبداً".. العبودية هذه هي تكليفنا الأساسي.. يقول تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".. يعني ما خلقتهم إلا ليعبدوني كما أمرتهم على لسان رسلي، ليكونوا عبيداً لي كما أمرتهم على لسان عزتي، حيث قلت: "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا".. فالعبودية هي التكليف الأساسي، والعبادة وسيلتها.
    لقد ذكرنا أننا، ونحن في عالم الأرواح، شهدنا لله تعالى بالربوبية، ولأنفسنا بالعبودية، يقول تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بَلَى! شَهِدْنَا! أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ".. فهذه الشهادة هي الأصل، هي الفطرة التي فطرنا عليها، كما فطرت عليها جميع الخلائق.. وعندما نزلنا إلى عالم الملك، نسينا ما شهدنا به، فأرسل الله رسله، وأنزل كتبه، ليذكرنا بما نسينا.. فالقرآن هو وسيلة تذكيرنا بعبوديتنا لله.. يقول تعالى: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ".. والله تعالى غني عن عبادتنا، وعن عبوديتنا.. فالعبودية إنما من أجلنا نحن.. هي ما به كمالنا وكمال حريتنا.. فالعبودية لله، هي الحرية الفردية المطلقة، لأن بها الانعتاق من كل رق لغيره تعالى.. فسيرنا لله إنما يكون بالانتصار على ما يستعبدنا من العناصر.. فنحن تستعبدنا العناصر، عن طريق شعورنا بالحاجة إلى ما نحتاج إليه منها، فيبدو لوهمنا أنها هي من يسد حاجتنا، كما أن الأسباب الظاهرية في الطبيعة، تحجبنا عن مسبب الأسباب، فننسب لها فاعلية، ليست لها.. بل الوهم، يمد لنا، أن الأشياء في الكون، صاحبة وجود مع الله..
    وأكبر عنصر له علينا سلطان إنما هو عنصر (الزمان، المكان)، ولذلك، قيدنا الأخير دون الذات، هو قيد الزمان.. والعبودية لله هي حرية من كل قيد، بما في ذلك، قيد الزمان، ولذلك هي الحرية الفردية المطلقة.. يجب ملاحظة أن الإطلاق هنا، إطلاق صيرورة، إذ ليس للمطلق نهاية فتبلغ.. كمالنا يقتضي صفاء الفكر، وسلامة القلب، وصفاء الفكر، يعني التخلص من الأوهام والأباطيل، والعبودية لله، هي الوسيلة لهذا الصفاء، إذ بها يتم التخلص من الأوهام والأباطيل.. وكل الأوهام والأباطيل، تتعلق بإشراكنا مع الله غيره.
    لقد طُردنا من الجنة بالمعصية، ونحن لا نعود إليها إلا بالطاعة، هذا هو قانون المعاوضة.. والطاعة إنما هي لمرضاة الله.. وبهذه الطاعة، نعمل على أن تكون إرادتنا منسجمة مع القانون الأساسي، الذي يسير كل الوجود ـ الإرادة الإلهية.. والحرية في جميع مستوياتها، إنما تكون بأن نجعل إرادتنا في إتساق مع القانون الطبيعي.
    خلاصة الأمر، هي أن نهج العبودية هو عمل في ان تكون حياتنا كلها، في جميع تفاصيلها متسقة مع القانون الطبيعي.. وذلك بالعمل وفق موجهات، مستمدة من هذا القانون، احتواها القرآن، وفصلتها السنة النبوية، وبهذا الصنيع نحن نروض عقولنا، ونحررها، ونروض نفوسنا، ونحررها.
    العواطف الإنسانية:
    مما تقدم يتضح أن جوهر إنسانية الإنسان، هو الحرية والأخلاق، وهما لا ينفصلان.. فالإنسان، إنما هو إنسان، بالقدر الذي يكون به حراً، وعلى خُلق.. هذا هو المعيار، الذي لا معيار غيره، لتحديد إنسانية الإنسان.. في إجابة على أحد الأسئلة، جاء رد الأستاذ محمود: "ثم ما هي الإنسانية؟ وما هي الأخلاقية التي تفكر فيها أنت، وأفكر فيها أنا؟ فأما الإنسانية فهي القيمة الأخلاقية التي تميز بها الإنسان عن الحيوان، وعن الملك.. فهناك، مثلاً، في الحيوات العليا الحيوان، الإنسان، والملك.. فالإنسانية صفة وسطى بين الحيوان، والملك.. هي نقطة إلتقاء الحيوان والملك.. وهي أكمل من كليهما، وذلك لمكان الحرية فيها، وهنا تجيء الأخلاقية.. فإن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.. والحرية من حيث هي مقيدة، أو مطلقة، إنما هي نفحة من الله تضوعت على أرض الإنسانية.. وإنما يجيء القيد من عجزنا نحن عن التلقي عن المطلق.. فالحرية المقيدة، إنما هي تدلي نسبي، عن الحرية المطلقة.. والحرية المطلقة هي الله.. لأنها صفته، ولأنها أخلاقه.. ومن أجل ذلك قال المعصوم: "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على صراطٍ مستقيم".. وقال تعالى: "كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تعلمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ".. أي كونوا علماء و كونوا أحراراً بغير حدود للحرية، إلا حدوداً تجيء من واجب حسن التصرف في الحرية.. وهذه هي الأخلاقية التي تسأل عنها أنت، وهي، هي التي جعلت الإنسان إنساناً، فوق مرتبة الحيوان، و فوق مرتبة الملك..".
    جميع القيم الإنسانية، تبدأ بالتكلف والمجاهدة، ثم تصير في مرحلة الإنسانية، طبيعة، لا تكلف فيها..
    وفي قمة هذه الطبيعة الإنسانية، تجيء العواطف الإنسانية، فهي قمة الشعور وأساسه.. والشعور هو الحياة _حياة الإنسان.. ونحن نعني بالشعور هنا، الحس السليم، الذي يكون للقلب السليم.. وجماع هذا الشعور هو الحب.. الحب في الله.. حب الأحياء والأشياء.. وهذا لا يكون إلا لأصحاب القلوب السليمة، يقول تعالى، على لسان سيدنا أبراهيم: "وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".. فالقلب السليم هو القلب السلام، الذي سلم من أمراض الغل والحقد والعداوات.. فهو قد نُزع عنه الضغن، ليصل إلى ما في سويدائه من حُب.. ونحن لنا للحديث عن العواطف الإنسانية عودة.

    8/4/2019م























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de