(من أجل حراكٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ)(2) فما هي حقيقة الدّيمقراطيّة؟ بقلم صلاح عباس فقير فضل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 00:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-27-2019, 04:32 PM

صلاح عباس فقير فضل
<aصلاح عباس فقير فضل
تاريخ التسجيل: 02-27-2019
مجموع المشاركات: 2

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
(من أجل حراكٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ)(2) فما هي حقيقة الدّيمقراطيّة؟ بقلم صلاح عباس فقير فضل

    03:32 PM February, 27 2019

    سودانيز اون لاين
    صلاح عباس فقير فضل-السعودية
    مكتبتى
    رابط مختصر




    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه من والاه،
    والتّحيّة الوطنيّة الخالصة لجميع القرّاء الأعزَّاء،
    أمّا بعدُ، فهذه المقالة هي الحلقة الثّانيّة، ضمن السّلسلة الموسومةِ: "من أجل حراكٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ"، والّتي تجيء في غضون هذا الحراك الوطنيِّ الثَّوريّ، الّذي فجّره شعبُنا منذ اليوم التاسعَ عشرَ من شهر ديسمبر 2018م، مُعبِّراً -مرَّةً أخرى- عن رفضه للديكتاتوريّة، وتوقهِ للدّيمقراطيّة، وغرامه بالحرّيّة.
    في الحلقة الأولى، جرى التّنويهُ بالدِّيمقراطيّة، والإعلاءُ من شأنها، وبيانُ كونِها الغايةَ الّتي ما برح الشّعبُ السُّودانيّ يهفو إليها منذ استقلاله عام 1956م؛ والّتي من أجلها حقّقَ ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م، بيدَ أنّ الطّليعة المثقّفة قد عجِزَتْ عن ترجمة هاتينِ الثّورتين إلى نظامٍ تُرفرفُ فوقه أعلامُ الدّيمقراطيةِ والمواطنةِ وحقوق الإنسان، فالأملُ معقودٌ في ظلّ هذا الحراك الشّعبيّ الرّاهن، على هذا الشّباب النّاضر المناضل: أن يُدركَ حقيقة الدِّيمقراطية، فيجعلها أُهزوجةَ نضالهِ، ويسعى لإقامة صرحِها الكبير- فلذا تجيء هذه الحلقة الثّانية، من أجل التّعريف بالدّيمقراطيّة، وبيان حقيقتها، وتوضيح علاقتها بالحرّيّة، وما إلى ذلك من المسائل المهمّة.
    [أ][فما هي حقيقة الدّيمقراطية؟]
    (1)(المشهد الإنسانيّ):
    فأقول: لكي نتصوّرَ حقيقةَ معنى الديمقراطية: دعونا نتأمّل في مشهدٍ إنسانيٍّ، تدور وقائعُه بين شخصينِ (أو أكثر)، تجمع بينهما سُكنى دارٍ واحدة، ما يعني أنّ هناك أموراً ومصالح مشتركةً بينهما، تقتضي ضروباً من التَّنسيق والتّشاور، بطرح الرأي والرأي الآخر، ثمّ اتِّخاذ القرار المناسب إزاءَها؛ فلو أنّ أحدهما فرض رأيه، واستبدّ بالأمر دون الآخر، فإنّ هذا الآخر، سيشعرُ عندئذٍ بوجود انتهاكٍ صريح لشخصيّتهِ المستقلّة، وعدمِ احترامٍ لها، واعتداءٍ عليها، وسيجدُ نفسَه مدفوعاً لصدّ هذا العدوان، وإعادةِ الأمور إلى نصابها، أي إلى الاحترام المتبادل والشُّورى.
    إنّ هذا المشهد الإنسانيّ ليُجسّدُ حقيقة الدّيمقراطية، ونلحظ فيه: أنّ ذلك (الآخَرَ) قد اعتبرَ هذا الفعل الاستبداديّ جُرماً أخلاقيّاً، ولم يعتبره مجرّد خطأٍ إجرائيٍّ أو عفويّ.
    (2)(الدّولة الدّيمقراطيّة):
    *إذا قمنا بتوسيع دائرة ذلك المشهد الإنسانيّ، على امتداد ربوع الوطنِ، فسوف يبقى أنَّ لكلِّ فردٍ من أفراده، ولكلِّ فئةٍ من فئاته: الحقَّ في الشُّعور بالانتماء إلى هذا الوطن، وذلك ما يتمّ تلقائيّاً عبرَ إقرار الآخَرين واعترافهم بهذه الحقيقة.
    ثمّ ينبغي أن يقوم على قاعدة هذا الاعترافِ المتبادلِ: الاحترامُ المتبادل، فهذا هو "المجتمع المدنيّ الدّيمقراطيّ"، الّذي هو البيئةُ الحيويّة، والبنية التّحتيّة، والتُّربة التي ينبغي أن تُغرس فيها شجرة الدِّيمقراطيّة.
    *في ذلك "المجتمع المدنيّ الدّيمقراطيّ"؛ لكلّ فردٍ أن يُعبّر عن آرائه ومواقفه، وأن يُسهم في عمليّة بناء النظام السّياسيّ الّذي يحكمه، وذلك من خلال مشاركته في انتخاب هيئةٍ شعبيّةٍ عامّة (=السُّلطة التّشريعيّة)، الّتي تقومُ بانتخاب حكومةٍ تُدير أمر البلاد (=السّلطة التّنفيذيّة)، وذلك في ظلّ القانون الأساسيّ للدّولة (=الدّستور) الّذي يحدّدُ الأسس والمبادئ التي تحكم كلّاً من السُّلطتين أعلاه، إضافةً إلى "السُّلطة القضائيّة" المستقلّة- فهذه هي "الحكومة الديمقراطيّة"، التي تنبثقُ من الشّعب وفقاً لاختياره الحُرّ، وتقوم على الشُّورى والتّداول السّلميّ، ويحكمُها "مبدأُ سيادةِ القانون"، لا سيادةُ فئةٍ معيّنة، أو أيديولوجيّةٍ معيّنة، إن هو إلا أنت وأنا والشّعب كلُّه، نسعى للتّعبير عن أنفسنا، وعن قيمنا ومُثُلنا، من أجل إنشاء دولةٍ مستقرّة، ذات جذورٍ راسخة في تربة مجتمعنا.
    إنّ هذا "الكِيان الديمقراطيّ"، حال انبثاقه انبثاقاً طبيعيّاً من المجتمع المدنيّ، الذي تحكمه قيمُ الاحترام المتبادل، والشّورى، يُمثِّلُ بالنسبة للفرد دائرةً كبرى، مركزُها ضميره الإنسانيّ، ومن ثمّ يكون معنى الوطنيّة في قلوبنا معنىً نابضاً بالحيويّة، ذو إيقاعٍ منسجمٍ مع ما يجري في سياق الواقع.
    (3)(البنية الديمقراطية الكامنة):
    هذا المفهوم الأخلاقيّ للدّيمقراطيّة، عند التّأمُّل فيه، نجدُه يُشير إلى وجود بنيةٍ عميقةٍ كامنةٍ في ضمير أيّ مجتمعٍ من المجتمعات، بيد أنّها تحتاج إلى الوعي بها واستخراجِها، حتّى تكونَ ممارسةً واقعيّةً، وهذا هو السِّرُّ في أنّ كلّ مجتمعٍ من المجتمعاتِ أو دولةٍ من الدُّول، يلهج وتلهج بذكر القيم والمُثُل العُليا التي يعتقدُ كلُّ مجتمعٍ بأنّها تنبعُ من صميم وجوده الحضاريّ، ولذلك فإنّ هذه القيم عادةً ما تثور في نفوس المواطنين، وتنداحُ بينهم، في أوقات الانتصارات الوطنيّة الكبيرة، وكاتبُ هذه السُّطور لم يُدرك ثورة أكتوبر 1964م، كما لم يتسنَّ له أن يُعايش الحِراك الوطنيّ الرّاهن، لكنّه عايش أحداث انتفاضة السَّادس من أبريل 1984م، ورأى بعينيه ثوَران تلك الأحاسيسِ الوطنيّة الرّائعة، وكيف سالت مشاعرُ النّاس على امتداد ربوع الوطنِ الحبيبِ جداااااولَ من الفرح، تعبيراً عن تلك القيم والمثل المكنونة في صدورهم، ويؤكّدُ لنا هذا المعنى كلٌّ من محمد المكّي إبراهيم ومحمد وردي في أهزوجتهما عن أكتوبر الأخضر، والتي مطلعُها وجوهرها:
    كان أكتوبر في أمّتنا منذ الأزل!
    (4)(الديمقراطيّة حامي حمى الحرّيّة):
    أظنّ أنّنا بقليلٍ من التّأمّل في المعاني السّابقة، ابتداءً من ذلك "المشهد الإنساني" وانتهاءً بهذا المشهد الإنسانيّ أعلاه؛ سيتّضح لنا: أنَّ دوائرَ حياة أيّ إنسان، تدورُ انطلاقاً من مركزٍ واحدٍ، هو ذاتُه الفرديّة المستقلّة، ثُمّ تنداح بينه وبين مَن يُشاركونه في الحياةِ: سُكنى دارٍ واحدة (=مبدأ المساكنة)، أو حيٍّ واحد (=مبدأ الجوار)، أو مهنةً واحدةً (=مبدأ الزّمالة)، أو وطناً واحداً (=مبدأ المواطنة)، فهذه الأرضيَّة المشتركة (=الدّار، الحيّ، موقع العمل، الوطن)، تقتضي في البدء إدراكاً لها واعترافاً بحقيقتها الواقعيّة، ثمّ هي تقتضي في ثاني الحال: أن يسودَ مبدأُ الاحتِرام المتبادل بين طرفيها أو أطرافها.
    وهذا الاحترامُ المتبادل، هو القاعدةُ التي يتأسَّسُ عليها -كما رأينا- المجتمع المدنيُّ الديمقراطيّ، الّذي هو البيئة الطّبيعيّة للنّظام السّياسي الديمقراطيّ. ومعنى هذا الاحترام المتبادل: شعورُ المواطنِ بأنّ عليه لأخيه المواطن حُرمةً ينبغي احترامها.
    فإن أتَحنا لأنفسنا أن نتفكّر في مدلول هذه الحُرمةِ، فسوف نجدُ أنّ الأمر يتعلّقُ بتلك الجوهرة الثّمينة التي ينطوي عليها كِيانُ كلّ إنسانٍ، ألا وهي الحرّيّة، التي هي مركز كلّ هذه الدَّوائر الإنسانيّة.
    ففي كلِّ سياقٍ من تلك السّياقات، ولدى كلِّ علاقةٍ من تلك العلاقاتِ، تطرح الدّيمقراطيّةُ نفسَها باعتبارها: حلّاً منطقيّاً وواقعيّاً ذا طبيعةٍ أخلاقيّة، يُحقّقُ من خلاله كلُّ فردٍ حرّيّته، عبر آليَّةِ الاحترام المتبادل، ومن خلال التّواصل الإنسانيّ، بالحوار والشُّورى والجدال بالحُسنى.
    فالديمقراطيّة، هي النظام الأخلاقيُّ الّذي يُحقّقُ كلُّ فردٍ من خلاله حرّيّته، هذا هو معناها الحقيقيّ، وقد أكّده أوّلُ باحثٍ معروفٍ في علم السّياسة، وهو الفيلسوف اليوناني أرسطو- ببيانِه: أنّ الحرّيّة (هي الغرضُ الثَّابتُ لكلّ ديمقراطيّة)(1)، فمن خلال هذه الحريّةِ، يُعبّرُ المواطن عن حقيقة ذاته وشخصيّته، بناءً على ما يجدُه من احترامِ سائر الأفراد، فهذا الحدُّ الأدنى من الشُّعور بالاحترام على أرضيّة مبدأ المواطنة هو القاعدة الأولى لبناء الدّيمقراطيّة، وهو القاعدةُ الأساس لإعادة بناء مجتمعنا على مبادئ العدل والأُخوَّة والمساواة، [ولا ريبَ أنا في هذا السياق نتداول حول بعض الحقائق، ولسنا نردِّد أيّ نوعٍ من الشّعارات].
    فنقول: إذن، هي خمسُ دوائر متداخلة، نرتِّبُها من المحيط إلى المركز على النَّحو التّالي:
    (النِّظام الأخلاقيُّ/ الدّيمقراطيّة/ الاحترام المتبادل/ العِرفانُ بحقّ الآخر في الحريّة/ الحرّيّة)، فالحرية هي مركز الدائرة، ذلك أنّها قاعدة السُّلوك الأخلاقيّ للفرد، وعندما ألمسُ وجودها في نفسي فينبغي أن يدفعَني ذلك إلى الاعتراف كذلك بحقّ (الآخرين) فيها، ثمّ أسعى لتأسيس علاقتي معهم على قاعدة الاحترام المتبادل، وعندئذٍ ينبثقُ نظامٌ سياسيّ يهدف إلى حفظ حقوق كلّ الأفراد، على قاعدة الشّورى والتّداول السّلميّ للسُّلطة، هو "النظام الديمقراطي"، فهذه هي حقيقة الديمقراطيّة: أنّها نظامٌ أخلاقيٌّ للارتقاء بالفرد والمجتمع والدّولة.
    فالقاعدةُ الأساسُ التي يُفترض أن تنبني عليها الديمقراطية، هي قاعدةُ الاحترام المتبادل بين أبناء الوطنِ، بناءً على اعتراف كلِّ فردٍ أو جماعة، بكلّ فردٍ آخر أو جماعة أخرى، ينتمي وتنتمي إلى هذا الوطن.
    هذا المضمون الأخلاقيّ للديمقراطيّة، عزيزي القارئ، ليس اختراعاً نخترعُه، ولا دعوى ندّعيها، لكنّه حقيقةٌ مقرّرةٌ كامنةٌ في جذر مفهوم الديمقراطيّة، كما عُرفَتْ في بلاد اليونان، وكما نظَّرَ لها فلاسفة عصر الأنوار الّذين أسَّسوا الحضارة الأوربيّة، وهذه المسألة ستكونُ محلّ معالجةٍ في الحلقة القادمة من هذه السّلسلة بإذن الله.
    (5)(وأمرُهُم شُورَى بينهُم):
    وفي مثلِ هذا السّياق الّذي ترفرف فوقه قيمُ الاحترام المتبادل والحرّية والحوار- ورد التّوجيهُ القرآنيّ بالشّورى على أساس أنّها إحدى صفات المؤمنين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، (يعني أنَّ جميعَ أمورِ المؤمنينَ وشئونهم، واستجلابَ مصالحهم، واستدفاع مضارِّهم، معلَّقٌ بالشُّورى والتَّعاون على الاهتداء إلى الأمر الذي يجرون عليه في حلّ مشكلاتهم)(2).
    وقال العلامة أبوبكر ابن العربي: (الشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ، وَسَبَبٌ إلَى الصَّوَابِ، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُوا، وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ:
    إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ*** بِرَأْيِ لَبِيبٍ أَوْ مَشُورَةِ حَازِمٍ
    وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً** فَإِنَّ الْخَوَافِيَ نَافِعٌ لِلْقَوَادِمِ)(3).
    وهنا يبرز -من الإخوة السّلفيِّين خاصَّةً- تساؤلٌ مشروع: لماذا -في هذه السِّلسلة- نستخدمُ مصطلح الديمقراطيّة، ولا نستخدم مصطلح الشُّورى القرآنيّ، وجوابُ هذا السؤال سيجيء واضحاً بإذن الله في حلقةٍ قادمة، لكن يُشارُ هنا إلى أنّ الدّيمقراطيّة في أحدث تجلّياتها الغربيّة، قد اقترنت بمفهوم الشُّورى، وذلك في فلسفة (شيخ الفلاسفة المعاصرين) المفكر الألمانيِّ يورجين هابرماس (1929م- ...)، من خلال نقده للنظام الديمقراطيّ الغربيّ، ودعوته إلى ديمقراطيةٍ قائمةٍ على قاعدة الشُّورى، عبر إقامة جسور للتَّواصل بين كلِّ مكونات المجتمع، بلا استثناءٍ، لأيِّ فردٍ أو فئةٍ، سواءٌ بأيِّ حجَّة أو تعِلَّة، وذلك انطلاقاً من فلسفته المستندة إلى نظريّتهِ في "الفعل التّواصُليّ".
    (5)(تعريف الديمقراطية: عودٌ على بدء):
    من كلِّ ما سبق يتبيَّن لنا: أنّ التّعريف الدّارج للدّيمقراطية بأنّها: حكمُ الشَّعب، بالشَّعب، وللشَّعب. أو: أنّها حكم الشعب نفسَهُ بنفسِه، إمّا مباشرةً كما رُوي أنّه قد جرى في اليونان القديمة (=الديمقراطية المباشرة)، أو عبر التّمثيل النّيابيّ بطريقٍ غير مباشر، كما يجري الآن (=الديمقراطيّة النّيابيّة)- هذا التّعريفُ الدّارجُ وما جرى مجراه، لا يُصوّرُ حقيقة الدّيمقراطيّة؛ لأنّه يحصِرُ دلالتها ودائرة ممارستِها في المجال السّياسيّ فقط، ومن ثَمّ فهو يُفرغُها من مضمونها الحقيقيّ، الّذي يمتدُّ -كما رأينا- إلى ما هو أعمقُ غوراً، وأوسعُ دلالةً.
    فالدّيمقراطيّة -في الحقيقة- مفهومٌ علميٌّ، يُحدّدُ القيم المؤطِّرة للنّظام السّياسيّ الأمثل، وبما أنّها مفهومٌ علميٌّ فإنّه رؤيةٌ مفتوحةٌ، تغتني عبر التَّجربة البشريّة، منذ أقدمِ العصور، وحتّى عصرنا الرّاهن، وما تزالُ، بيدَ أنَّ البون شاسعٌ بين هذه الحقيقة، وبين الواقع التّطبيقيّ للديمقراطيّة كما نراه اليومَ، سواءٌ في أمريكا أو فيما عداها من (دول المركز الرّأسماليّ)، وما يتبعُها من (دول المحيط الرأسماليّ) التي ترفعُ راية الديمقراطيّة- وذلك البونُ الشّاسع هو الفارق ما بين المثال والواقع.
    إذن، فالدّيمقراطيّة تتأسَّسُ في الواقع، على قاعدة الاحترام المتبادل، الّذي يستند إلى مبدأ المواطنة، وعليهما يتأسَّس المجتمع المدنيُّ الديمقراطيّ، الّذي يُشكّل البيئة الطّبيعيّة للنّظام السّياسي الديمقراطيّ، ويُمثّلُ الضّمانةَ الأكيدة لحماية هذا النِّظام من مغامرات المستبدّين.
    يؤكّدُ هذه المعاني بعبارته الخاصّة الدكتور محمد عزيز الحبابي فيُعرّفُ الديمقراطيّة بأنّها (النِّظامُ الذي يُخوِّلُنا "بصفتنا أشخاصاً" الوسائلَ النَّاجعة لكي نحيا "في وعينا وفي سلوكنا" القيم العليا المشتركة)، (فليستِ الديمقراطيةُ إذن غايةً في ذاتها، بل ممرٌّ للتّعالي: الانتقال من فردٍ منغلقٍ على ذاته، إلى شخصٍ يتفتّح باستمرار نحو جميع امتداداته المادية والمعنوية والفكرية)(4)، ومن خلال ارتقاء الأفراد، ترتقي العلاقات بينهم، وتترسّخُ الديمقراطيّة.
    وعموماً، فإنّ المنظّرين السِّياسيِّين اليوم، لم يعودوا يُعوِّلون في إقامة الديمقراطية، على الدور الاحتجاجيِّ الذي يُمكن أن تقوم به منظَّماتُ المجتمع المدنيِّ في مواجهة السُّلطة الحاكمة فقط، ولكن في المقام الأول، على الثَّقافة الأخلاقيّة التي يمكن تحقيقُها من خلال الحِراك الاجتماعيّ لهذه المنظمات في الحيّز المستقل المتاح لها، أي المجتمع المدني(5).
    [ب][وما هي حقيقة الحرّيّة؟]:
    (1)(متى استعبدتم النّاس؟):
    قلنا: إنّ الحرّيّة هي الجوهرة الثمينة التي ينطوي عليها كيانُ كلِّ إنسان، وإنّما تنشأ الديمقراطيّةُ من أجل حمايتها.
    وفي سبيل التعريف بهذه الحرّيّة، نبدأ بتلمُّس معانيها، في تلك المقولة الرّائجة في ثقافتِنا الإسلاميّة، وهي قولُ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مستنكراً: (متى استعبدتم النّاسَ وقد ولدتهم أمَّهاتُهم أحراراً؟!)، فبناءً على هذه المقولة تعني الحريّة: أن لا يكون الإنسانُ مستعبداً لبشرٍ مثلِه، ونشرح هذا التّعريف بما قاله ألكسي توكفيل أحدُ أقطاب الليبراليّة في القرن التّاسع عشر: (إنّ معنى الحرّيّة الصَّحيح، هو أنّ كلّ إنسانٍ نفترضُ أنّه خُلق عاقلاً، يستطيعُ إحسانَ التّصرّفِ، ويملك حقّاً لا يقبل التّفويت في أن يعيش مستقلاً عن الآخرين في كلّ ما يتعلّقُ بذاته، وأن يُنظّم كما يشاء حياته الشخصيّة)(6)، وهو معنىً فطري وبدهيّ كما ترى، فمن ذا الّذي يرضى بأن يكون أحدٌ وصيّاً عليه في شؤون حياته؟!
    ونقول: إنّ من يرضى بالوصاية على نفسه في شؤون عقله وتفكيره، يرضى بالوصاية عليها في شؤون حياته ومصيره كذلك.
    وبالمقابل، فإنّ من يرضى لنفسه أن يكون وصيّاً على الآخرين، يسعى لإلزامهم بما يراه أنّه الحقّ، فلا ينبغي له أن يستنكر وقوع الناس تحتَ وصاية الدّعوات الأخرى، بل ينبغي أن يرضى إذا ما تعرّض هو نفسُه للوصاية من قِبل قوّةٍ مستبدّة!
    ولله درُّ من أكّد أنّ: مبدأ الحرّيّة أوّل، لا ينبغي أن يُحوّر، ولا يجوز أن يُؤوَّل.
    فالحرية معناها -في الحقيقة-:
    (2)(أن تبسط سلطانَ وعيك أنتَ على حياتك):
    في كتابه عن (حرية الإنسان في الإسلام)، يُشير الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد -رحمه الله- إلى أنّها تستندُ إلى جمهرةٍ من الآيات القرآنيّة، تتضمَّن معنيين يلمسُهما بوضوح كلُّ من يتلو القرآن:
    -في المعنى الأول، يمتنُّ اللهُ تعالى على عباده، بما ميّزهم به من قدرةٍ على السّمع والبصر والفكر، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
    -وفي المعنى الثّاني، يتوجّهُ من الله تعالى ذمٌّ شديدُ اللّهجة، على الإنسان الّذي يُعطّل قدراتِ الوعي التي خصّه بها، لأنّه عندئذٍ قد يفقد إنسانيّته، ويندرجُ في مصاف الصُّمّ البُكم الّذين لا يعقلون.
    فالحرّية تعني: أن يبسط الإنسانُ سلطانَ وعيِه وعقله على حياته وعلى علاقاته، فلا يصدر في كلِّ أخذٍ وردٍّ إلا عن العقل الّذي خصَّه الله تعالى بهذا المقام، وليس صدفةً أنّ الفقهاء المسلمين قد أجمعوا على أنّ أساس التّكليف الشّرعيّ، هو العقلُ، وليس صُدفةً كذلك: إجماعُ العلماء على أنّ الشّرط الأساس لقبول الأعمال عند الله تعالى، هو قيامُها على قاعدة النّيّة الخالصة، وهل تصفو النّيّةُ إذا كان فضاءُ ذاتك مزحوماً بالأغيار؟ بالطّبع لا، فلا تصفو النّيةُ إلا بأن يكون عملُك خالصاً لله وحده.
    عزيزي القارئ، ولن تكون هناك مصادفةٌ، إن وجدنا أنّ هذا المفهوم، أي مفهوم حرية الإنسان في الإسلام، يترادفُ أو يسبح في ذات الفضاء الإنسانيّ الّذي يسبحُ فيه "مفهومُ التّنوير" لدى الفيلسوف الألماني عمانويل كانط.
    يقول كانط: (التَّنويرُ هو: تحرُّرُ الفرد من الوصاية التي جلبها لنفسه)، وما هذه الوصايةُ؟ يقول: (هي عدمُ قدرة الفرد على استخدام فهمهِ الخاصّ دون توجيهٍ من الآخر)، وما هو سببُ جلب الإنسانِ هذه الوصاية على نفسه؟ يَقول كانط: (السَّببُ انعدامُ الإقدام والشَّجاعة على استخدامه [أي العقل] دون توجيهٍ من الآخر).
    ثمّ يدعوك قائلاً: (فلتكن لديك الشَّجاعةُ لاستخدام عقلك الخاص! هذا هو شعار التَّنوير).
    ثمّ يؤكد كانط العلاقة الصَّميمة بين التنوير والحرية، قائلاً: (التنوير لا يتطلّب إلا الحرية؛ وأبسطُ ما يمكن تسميته حريّة هو: أن يكون الفردُ حراً لاستخدام عقله الخاص علنيّاً، في كل الأمور)، ثمّ يقول متعجّباً:
    (لكنَّني أسمعُ من الجميع: لا تجادل!
    الضابط يقول: لا تجادل، نفّذ!
    جامع الضرائب يقول: لا تجادل، ادفع!
    القسِّيس يقول: لا تُجادل، آمِنْ!)(7).
    إذن، مبدأ الحرّية هو انطلاقُ العقلِ من جميع القيود التي تُكبّلُه، لارتياد عوالم الأنفس والآفاق، فحريةُ العقل شرطٌ مبدئيٌّ لتحقيق حرية الإنسان، وتحليقِه في ملكوت السّماواتِ والأرض.
    وهذا التّعريفُ، وما سبقه، ربما سيستثيرُ ذلك الظّنّ الخاطئ والرّائج عن معنى الحرّيّة، وهو أنّها شيءٌ مطلقٌ، ولا قيد يُقيّده.
    (3)(دفع ظنٍّ خاطئٍ):
    يظنُّ كثيرٌ من النّاس أنّ الحرّيّة بطبيعتها مُطلقةٌ لا يُقيِّدُها قيدٌ، إلا أن تصطدم بحريّة الآخرين، وفي الواقع: هذا هو مفهومُ الحرّيّة السّائدِ الآن في أمريكا وأوربا، في إطار ما يُسمّى باللِّيبرالية الجديدة، وهو مفهومٌ يبدو منطقيّاً في حدّ ذاته، لكنّه إذ يتغذَّى بالقيم المادّيّة الّتي تؤطّرُ الوعي الإنسانيّ المعاصر، تَلزمُ منه لوازمُ تجعله منافياً للفطرة الإنسانيّة والأخلاق الحميدة، كما هو الحال في بعض بنود اتفاقيَّة "سيداو" 1979م.
    أمّا في مرحلة الليبراليّة الأصيلة أو الكلاسيكية، التي تأسّست عليها الحضارة الأوربيّة، فإنّنا نجد أنّ الحرية -كما عبّر عنها جون لوك أحدُ أبرز مؤسِّسي المذهب الليبرالي- حرّيّةٌ مؤطَّرةٌ بالقيم الأخلاقيّة، ومن ثمّ فهي مبدأ إنسانيّ فطريّ، يتوافقُ مع معناها في الإسلام، وهذا البعد الأخلاقيّ في الحضارة الأوربيّة، الّذي قد نلمح بعضَ آثاره في اللباس المحتشم للممثّلات في الأفلام السينمائيّة القديمة، يرجع إلى عاملين أساسيّين:
    -أوّلهما: تأثير بقايا القيم الدّينيَّة اليهوديّة ثم المسيحيّة، خاصّةً المذهب البروتستانتي.
    -ثانياً: ما يُسمّى بنظريّة القانون الطبيعيّ، التي تأسَّس عليها وعيُ الإنسان الأوربي، حيث كان الفلاسفة ورجال العلم في أوربا، يستلهمون هذا القانون الطبيعي، الّذي يعتقدون أنّه مُستكِنُّ في الوجود، معبّراً عن إرادة الله عزّ وجلّ(8). [مفهوم القانون الطبيعيّ هو ذاته مفهوم الفطرة في الإسلام].
    فهذان العاملان، كان لهما دورٌ كبير، في تأسيس الحضارة الأوربيّة، وظلّا مؤثِّرَين فيها طوال القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، قبل أن يحصل الانحرافُ عنها في القرنين التّاسع عشر والعشرين، وسيجيء هذا القول مفصّلاً في الحلقة القادمة بإذن الله.
    [ج][روح الديمقراطيّة وجسدها]:
    (0)(مقدمة):
    هذا المفهوم الأخلاقيّ للديمقراطيّة، يؤكّدُ أنّها ليست في الحقيقة ظاهرةً أوربيّةً، بل هي ظاهرةٌ إنسانيّة في المقام الأول، وبالتالي فليس الوعيُ الديمقراطيّ رهيناً بدرجةٍ من التطور الاقتصادي أو التّقنيّ العلميّ، لا يتيسّرُ إلا لبعض المجتمعات!
    بل هو خيارٌ مُتاح للبشريّة في كلّ مكان وزمان، وشرطُه الأساس يتمثّل في الإنسان الّذي يمتلكُ قدراً من الوعي، ونزاهةً في الخُلق، واستقلالاً في الشّخصيّة، لا يقول: ((إِنَّمَا أَنَا مَعَ النَّاسِ إِنِ اهْتَدَوُا اهْتَدَيْتُ، وَإِنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ))(9).
    لكنّ الديقراطية -وإن كانت لا تتقيّدُ في نشأتها بتلك القيود- تتجسّدُ بحسب طبيعةِ كلِّ عصرٍ، وتطوُّرهِ الاجتماعيّ والثّقافيّ والتَّقنيّ، وبناءً على ذلك اعترف علماء السياسة بأنَّ الديمقراطيّة، قد نشأت منذ وقتٍ مبكرٍ في بلاد اليونان، أي إنّها لم تنتظر حتى تشرق أنوارِ عصر النهضة الأوربيّة، بل قد يُقال: إنّها قد عُرفت قبل ذلك بكثير، كما في حضارة كوش القديمة، وعُرفت بعد ذلك بقليل، كما في عصر الخلافة الرَّاشدة:
    (1)(الدّيمقراطيّة في حضارة كوش القديمة):
    يؤكد الأستاذ عبد الله حسين، الكاتب بالمنبر العام لموقع سودانيزأونلاين: (أنَّ أقدم ملمحٍ لممارسة ديمقراطيَّةٍ جنينيَّةٍ في التّاريخ -حسب علمي- مثبتةٌ بنصٍّ تاريخيٍّ صحيح- تعود إلى مملكة كوش، إلى عهد الملك اسبلتا 593 ـ 568 قبل الميلاد، والأرجح أنها أقدمُ من هذا التَّاريخ بكثير، حيث يقول المؤرخ اليونانيُّ ديودور الصقليِّ، أنَّ الملكيَّة الكوشيَّة كانت ملكيَّة انتخابيَّة، فالملك يتم اختياره من بين 18 فرداً: ستة يعينهم الجيش، وستة يعينهم رئيس المالية، وستة يعينهم البيت المالك،... وبعد عمليَّة انتخابية هي مزيج من الإجراءات السياسيَّة والإدارية والطقوس الدينية، يتمُّ اختيار الملك بمساعدة كهنة آمون ومباركة الإله آمون رع، وكانت ساحةُ هذا الانتخاب، التي يمكنُ أن نعتبرها أقدم برلمان في العالم، هي الساحة التي تقع أمام معبد آمون في سفح جبل البركل، والذي ما زالت آثاره باقية إلى هذا اليوم)(10).
    [وههنا خاطرة عابرة، وتصحيحٌ لظنٍّ رائج، حول مصدر وعِلّةِ أخلاق السُّودانيّين عامّةً، فينسبُها البعضُ إلى تأثير الحركة الصّوفيّة، والحقيقةُ أنّ مردّها إلى الحضارة السّودانيّة الضَّاربة في أعماق التّاريخ، التي تمخَّضت عنها تلك الديمقراطيّة المبكّرة].
    (2)(الدّيمقراطيّة في عصر الخلافة الرّاشدة):
    لئن تأسّست الدولة الحديثة في أوربا، نظريّاً وفلسفيّاً، على فكرة "العقد الاجتماعيّ"، الذي افترض فلاسفةُ النهضة الأوربيّة: هوبز، لوك، روسو، وغيرُهم أنّه قد جرى الاتفاق عليه بين الحاكم وعامّة الناس، حتى يكون ذلك دليلاً على أنّ الدولة الحديثة، قد تأسَّست على قاعدة الحرّية، أي على الوعي والاختيار- فإنّ الدولة الإسلاميّة الأولى والمثاليّة، دولة الرّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد قامت فعلاً على أساس التّعاقد المستند إلى التشاور الحرّ، الذي تمّ بين الرّسول -صلَّى الله عليه وسلم- وبعض قيادات المدينة، في بيعتي العقبة الأولى والثانية، كما يؤكد الدكتور محمد ضياء الدّين الرّيّس في كتابه: "النظريّات السياسيّة الإسلاميّة".
    إذن، فالرّكائز الإيمانيّة والأخلاقيّة للنّظام السّياسيّ في الإسلام، قد وُضِعت في ظلال الوحي والنُّبوّة، فأسّست -كما يقول الأستاذ الجابري- لنظامٍ سياسيٍّ مفتوح، يقوم على أربعة معالم أساسيّة: آيتين وحديثين، الآيتان: {وأمرُهُم شُورَى بينهُم}، و{شَاوِرْهُم في الأمْرِ}، والحديثان: ((أنتُم أدرَى بشُؤونِ دُنيَاكم))، و((كلُّكُم رَاعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته))، يقول الجابري: (إنّ اعتبار هذه المعالم كضوابط موجّهةٍ، أو كأصول تأسيسية يسدُّ الباب أمام جميع أنواع التسلط والاستبداد، وهذا ما حصل فعلاً في سقيفة بني ساعدة)(11)، بعد وفاة الرّسول -صلى الله عليه وسلم- وظهورِ الخلاف بين الصّحابة -رضي الله عنهم- حول كيفيّة تعيين شخص الحاكم، حيث لم يرد نصٌّ يُلزم الصَّحابة، باتّباع إجراءٍ معيّن، فدارت المناقشاتُ والمشاورات الحُرّة بينهم، فكان أن (أقرّوا مبدأً خطيراً، هو: أنّ اختيار رئيس الجماعة أو "الدولة" إنّما هو بالبيعة، أي الانتخاب، ونبذوا جميعاً بسلوكهم الفعليّ مبدأ الوراثة)(12)، الّذي كان ينبغي أن يكون حاضراً بقوّة -فالأمر يتعلّق بقرابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم- لولا ذلك الوعي الكبير والشُّعورُ بالحرّية الّذي تميّز به جيلُ الصَّحابة -رضي الله عنهم- ممّا دعا كاتباً غربيّا هو الأستاذ ماكدونالد، إلى أن يشهد بـ (أنّ هذا الاجتماع يُذكّرُ إلى حدٍّ بعيدٍ بمؤتمرٍ سياسيٍّ، دارت فيه المناقشاتُ وفق الأساليب الحديثة)(13).
    وفي تقييم فترة حكم الشَّيخين أبي بكرٍ وعمر -رضي الله عنهما- يقول الدكتور طه حسين: (وما رأيُك في أنّ الإنسانيّة لم تستطع إلى الآن، على ما جرّبَتْ من تجاربَ وبلغتْ من رُقيّ، وعلى ما بلت من فنون الحكم وصور الحكومات، أن تُنشئ نظاماً سياسياً يتحقق فيه العدل السّياسيّ والاجتماعيّ بين النّاس، على النّحو الّذي كان أبوبكر وعمر يُريدان أن يُحقّقاه)(14).
    ويرى الأستاذ الجابري أنّ هذا النظام السياسيّ النّبويّ، بما أنّه نظام مفتوح، فإنّه يتفاعل مع المتغيّرات التّاريخيّة، ويتواءم معها بحسب ظروف كلّ زمانٍ ومكان، يقول: (وفي العصر الحاضر، ليس هناك غيرُ أساليب الديمقراطيَّة الحديثة، التي هي إرثٌ للإنسانيّة كلّها)(15)، أي: فإنّ النظام السياسي النّبويّ المفتوح، قادرٌ على استيعاب هذا الإرث الإنسانيّ المشترك، وبالتالي أقول: فكلُّ مسلمٍ بحسب المرجعيّة الشّرعيّة، المؤكّدةِ لدور العقل، وأهمية الحرّيّة، وضرورة الأخلاق، يجد نفسه -بكلِّ عفويّةٍ- تهفو لتُعانق قيم الديمقراطيّة والحرّية والعدل، في هذا العصر.
    ختاماً:
    (1)(أُسُّ فساد الدّولة الجبهجيَّة):
    بناءً على ما سبق في هذه السلسلة، ينبغي أن نعلمَ ويعلمَ كلُّ مواطنٍ، ويعلمَ كلُّ ناشطٍ من أجل الوطن:
    أنّ الجرم الأكبر لحكومة الإنقاذ، وللطائفة الجبهجيّة هو جُرمٌ أخلاقيٌّ في المقام الأول، يتمثّل في انتهاك حرية وكرامة هذا الشّعب الأبيّ.
    وأنَّ كلَّ جريمةٍ أخلاقيّةٍ أخرى، من سفكٍ لدماء الأبرياء، وإهدارٍ لأموال النّاس وممتلكاتهم، وتشريدٍ عن وظائفهم، وتضييعٍ لحقوقهم، إنّما هو ثمرةٌ لتلك الجريمة الكبرى، فمن لا يحترمُ رأيك ووعيك، لن يعترفَ لك بحقٍّ من الحقوق، بل شعورُه: أن قلِ الحمدُ لله، إذ أتيناكم بهذا (المشروع الحضاريّ!).
    وأنّ النّضال والجهاد من أجل إزالة هذا النظام، هو دعوةٌ للانعتاق من نير العبوديّة، وتحريرٌ للوجدان الفرديّ، وتطهيرٌ للمجتمع من كلّ القيم الدّخيلةِ التي تسرّبت عبر دوائر الكبت والقهر، وتشبُّثٌ بالقيم الأخلاقيّة، قيم هذا المجتمع السودانيّ الأصيلة.
    ولا أقول: إنّ الإنقاذَ هي أساسُ كلّ الفساد في نظامنا السّياسيّ، بيد أنّها حاضنةُ كلّ ضربٍ من ضروب الفساد التي شهدها أيُّ عهدٍ من عهودِ الحكم الوطنيّ، منذ الاستقلال، وذلك بسبب الأيديولوجيا الكلّيّة التي تعتنقها والطبيعة الشّموليّة التي تميّزت بها، على قاعدة سيّئ الذّكر المُسمّى بالمشروع الحضاريّ.
    (2)(ديمقراطيّة تنبع من دواخلنا):
    إنّ حاجتنا ماسَّةٌ إلى نظامٍ سياسيٍّ منفتح، يستوعبُ ما تتميَّز به تركيبتُنا الاجتماعيّة والسّياسيّة من غنىً وتنوُّع، وأعتقد أنّ هذه الديّمقراطيّة الموشّاةَ بديباجة الخُلق الكريم، ستروقُ لعامّة النّاس، وتجد منهم التّجاوُبَ الكبير، كيف لا والأمرُ قد صار يتعلّقُ بشيءٍ ينبعُ من أعماق قلوبهم؛ ويُعالج المشكلات السّياسيّة والاجتاعيّة المزمِنة للنظام السياسي السودانيّ، ويؤدّي إلى توطين الديمقراطيّة، وبناء قاعدةٍ وطنيّةٍ راسخةٍ لها، في زمنٍ قياسيٍّ.
    فكلُّ ما نأمله أن تُسهم هذه المباحثُ، في الارتقاء بالحراك الشّبابيّ الرّاهن، حتّى يرفع سقفَ طموحاته إلى أعلى المراتب؛ فلا تكون الغايةُ هي إسقاط هذا النّظام الفاسد فقط، وإنّما كذلك تحقيقُ البديل الدّيمقراطيّ، عبر منهجيّةٍ ديمقراطيّة، تستند إلى مبدأ النّضال المدنيّ السّلميّ، عبر وسائله المختلفة، فلا بدّ من حِراكٍ ثقافيٍّ ثوريّ، هدفُه: غرسُ بذرة التّنوير (=الوعي والحرّيّة)، في تربة النّفس، وتعاهدها بالرّعاية، فعندئذٍ سنجد أنفسنا نطرق أبوابَ ديمقراطيّةٍ تنبع من أعماق نفوسنا.
    (3)(تانك الفئتان):
    لكن، هناك فئتانِ أحسبُ أنّ كلّاً منهما ستقفُ موقف الرّيبةِ والشّك، من هذه الرُّؤيةِ الدّيمقراطيّة الأخلاقيّة، فإحداهما تيّارٌ من العلمانيِّين، والأخرى تيّار السّلفيِّين عامّةً، فكلا هذين التّيّارين قد يستثيرُ الشّكوكَ (العلمويّة) حول مشروعيّة هذه الرُّؤية، ويتّهمها بالتَّحريف، فبعض الإخوة في الوطن من العلمانيِّين يُريدونها بلا تأصيلٍ أخلاقيٍّ، تَبَعاً لواقع الممارسة الديمقراطيّة في أمريكا وأوربا، وخشيةً من أن تؤدّي أخلاقيّةُ الديمقراطيّة إلى وقوعها في مصيدة الدّين.
    ومعظم السّلفيّين لا يتوقّعون أبداً حدوث لقاءٍ بينهم وبين الديمقراطيّة، إذ إنّ وعيهم مبرمجٌ على أنّ الديمقراطيّة هي الفلسفةُ المؤسّسة لواقع أوربا اليوم، بكلّ ما فيه من تقنيةٍ علميّة، ولا مبالاةٍ بالدّين، وانطماسٍ للفطرة الإنسانيّة السّويّة.
    ولمناقشة كلا هذين التّيّارين، نخصّص الحلقتين القادمتين من "سلسلة الحراك الوطنيّ الديمقراطيّ" بإذن الله، وذلك على النَّحو التالي:
    الحلقة الثَّالثة: الديمقراطية في سياق الحضارة الغربيّة المعاصرة.
    الحلقة الرَّابعة: السّلفيُّون والديمقراطيّة.
    والله الموفّق لما فيه الخير.

    صلاح عباس فقير
    [email protected]
    الهوامش:
    1/ كتاب السياسة، الترجمة العربية، ص 365، عن كتاب "الحرية والديمقراطية والمواطنة"، للدكتور مصطفى النشار، ص51.
    2/ القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 105).
    3/ أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (4/ 91).
    4/ من الحريات إلى التحرر، ص 30.
    5/ راجع: د. أحمد عبد الحليم عطية، الفلسفة والمجتمع المدني، ص 13.
    6/ الحالة الاجتماعية والسياسية في فرنسا سنة 1863م (2/26)، عن كتاب: "معركة الثوابت بين الإسلام والليبراليّة"، للدكتور عبد العزيز كامل، ص37.
    7/ موقع الإحيائيّة الجديدة، ما التنوير، كانط، https://neorevivalism.com/2015/04/15/whatisenlightement/.
    8/ جون لوك، رسالة في الحكومة المدنية، عن كتاب: الليبرالية مشارب متعددة، منوبي غباش، ص 46 - 48.
    9/ المعجم الكبير للطبراني (8765).
    10/ موقع سودانيزأونلاينز، ما هي الديمقراطية، للكاتب، http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2
    11/ نقد العقل السياسي، ص 367.
    12/ النظريات، ص40.
    13/ Development of muslim Theology, P13، عن النظريات السياسية الإسلامية، ص39.
    14/ الفتنة الكبرى: ص 15، عن النظريات السياسية: ص 44، 45.
    15/ نفسه، ص372.
























                  

02-27-2019, 06:38 PM

زنقه زنقه


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: (من أجل حراكٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ)(2) فما هي حق (Re: صلاح عباس فقير فضل)

    خذو الحكمه وخذو التعريف الصحيح للديمقراطيه
    ولو من افواه المجانين

                  

02-28-2019, 05:28 AM

ود الشريف


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: (من أجل حراكٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ)(2) فما هي حق (Re: صلاح عباس فقير فضل)

    صلاح فقيرن تود السلام عليكم
    كلام جميل وطرح عقلاني ولكنك حشرت (الشوري ) حشراً وكأنك تريده
    إعادة صياغتها (إسلاماوية)
    هل الشوري لا تتقاطع مع الإنتخابات والأحزاب
    يعني مثلاً حصل إنتخابات وحزب (العمال) فاز وخسر حزب الموظفين
    يقوم حزب العمال يعمل (شوري) ويشاور حزب الموظفين !!!
    أنا عايز أفهم حكاية الشوري دي بس
    هيرقو
                  

03-01-2019, 04:09 PM

صلاح عباس فقير
<aصلاح عباس فقير
تاريخ التسجيل: 08-08-2009
مجموع المشاركات: 5482

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: (من أجل حراكٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ)(2) فما هي حق (Re: ود الشريف)

    أهلا ود الشريف،
    صدقني ما حشرتها،
    هي وجدت منفذ معاصر من خلال أفكار هابرماس،
    ولو لاحظت أن الديمقراطية عندي هي الأصل،
    ود في نظري لا يخالف الإسلام.
    شكرا لك.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de