الإنسان في الحضارة الغربية الحلقة العشرين بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 09:58 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-04-2019, 01:51 PM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإنسان في الحضارة الغربية الحلقة العشرين بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

    12:51 PM February, 04 2019

    سودانيز اون لاين
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر



    بسم الله الرحمن الرحيم
    (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور)
    الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية

    الجزء الثاني
    الإنسان في الإسلام
    الباب الأول
    القرآن
    الفصل الثاني
    الإنسان والوجود

    لقد رأينا، في كتاب (الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية)، إن وجود أي موجود، ينبني، فوق كل شيء، وقبل كل شيء على تصورنا للوجود.. فالوجود هو الذي يحدد للموجودات، أصلها، ومصدرها، وكل ما يتعلق بها.. ولذلك المعرفة الأساسية للوجود، هي المفتاح الوحيد، لكل معرفة حقيقية.. وصحةُ أيِّ معرفة، أو خطؤها، أمر ينبني بصورة أساسية، على صحة معرفتنا للوجود، أو خطأ هذه المعرفة.. فالاختلاف في تصور الإنسان، في الإسلام، وفي الحضارة الغربية، ينبني بصورة كلية، على الاختلاف في تصور الوجود، عند كلٍ منهما..
    وعن هذا الأمر جاء قولنا، من مقدمة كتاب (الوجود): "الأمر الذي نحب أن نؤكده، هو أن صحة أي شئ أو خطأه، ينبنيان على النظرة المبدئية للوجود، وطبيعته.. وهذا هو المجال الذي يظهر فيه الفرق الشاسع جداً، بين تصور الإسلام، وتصور الحضارة الغربية لكل القضايا الأساسية، خصوصاً تصور الوجود، والإنسان، والحياة، والفكر، والحرية، والأخلاق.. فلا يمكن مناقشة أي قضية من هذه القضايا، نقاشاً مجدياً، دون ردها إلى أصلها في الوجود، بما يحدد طبيعتها الأصلية، وموقعها من الوجود، والحقيقة التي يقوم عليها هذا الوجود.. ودون هذا المستوى، يكون تحديد المفاهيم، بالنسبة لهذه القضايا، وغيرها، أمراً مبهماً، ولا يقوم على أرض ثابته، وإنما يخضع للمتغيرات الزمانية المكانية.. فمثلاً، لا يمكن الحديث عن الطبيعة الإنسانية، دون ردها إلى أصل وجودي ثابت.. وإذا تحدثنا عنها دون ذلك، نكون قد تحدثنا عن الإنسان في حقبة تاريخية معينة، وهذا لا يعطينا المعرفة بما هو ثابت في الطبيعة الإنسانية، وما هو متغير، وما هو أصيل، وماهو طاريء.
    الجميع يسلم بأن الكون الحادث في حركة و تغير دائمين.. وبناءً على هذه الحقيقة لا يمكن تحديد المفاهيم بصورة أساسية، لا تخضع للتغيير، وإنما تجعل التغيير نفسه في إطارها، إلا إذا استطعنا أن نرد المتغيرات في الكون، إلى ثابت وجودي، تأخذ منه دلالاتها بالصورة التي يمكن معها تحديد ما هو ثابت وأصيل، وما هو متغير.
    هناك اختلاف جذري، بين أن يكون الوجود في جوهره، وجوداً واحداً، والحقيقة فيه واحدة، وبين أن يكون الوجود متعدداً، وليس فيه أي ثابت وجودي وبالتالي ليس فيه حقيقة واحدة ثابتة.. هذا الاختلاف بين التصورين هو الاختلاف الأساسي بين الإسلام والحضارة الغربية، وجميع الاختلافات الأخرى تتبع.. فإذا قلنا إنسان أو حياة أو حرية ...الخ، ونحن نتحدث من منطلق إسلامي، فإن هذه القضايا ليس لها نفس المفاهيم التي تعطيها لها الحضارة الغربية.. وليس الاختلاف اختلافاً محدوداً وهيناً، وإنما هو اختلاف جوهري، وواسع جداً.."..
    وقد ذكرنا في ذلك الكتاب أن: "القضايا الأساسية المتعلقة بقضية الوجود هي: الإطلاق والمحدودية.. والوحدة والتعدد.. الثبات والتغير، بالمعنى الوجودي، أو البقاء والفناء، والموت والحياة".. ففي حين يرى الإسلام أن الوجود واحد، ومطلق.. ترى الحضارة الغربية، في مجملها، أن الوجود متعدد ومحدود وهذا بحكم الإطار المرجعي الذي تعتمد عليه وهو العلمانية، وما تقوم عليه، من عقل مجرد، وفلسفة، وعلوم طبيعية.. في المقابل يقوم الإطار المرجعي، أو إطار التوجيه، في الإسلام على "التوحيد"، وما يقوم عليه من قرآن، ومن منهاج.. والاختلاف بالنسبة لإطار التوجيه، في المجالين، اختلاف جذري.. العقل هو الأمر المشترك بين الإسلام والحضارة الغربية.. ولكن تصور العقل نفسه، في المجالين، يقوم على تصور الطبيعة البشرية، وتصور طبيعة الوجود.. ولذلك تصور العقل في المجالين، مختلف بصورة جوهرية، كما أن وظيفة العقل، ودوره أيضاً مختلف بصورة جوهرية.. القضية الأساسية، بالنسبة للعقل، هي: هل العقل يملك الكفاية التي تؤهله، للإدراك الصحيح لطبيعة الوجود، دون الحاجة إلى توجيه يأتيه من خارجه، يقومه، ويصحح تصوره، وينميه؟ إجابة الإسلام القاطعة، لا، ليس للعقل كفاءة، وهو يعتمد بصورة أساسية على معطيات الحواس، وعلى مؤثرات أخرى كثيرة، وأساسية، وهو يحتاج بصورة دائمة إلى تصحيح خداع الحواس، وخداع العقول، والتخلص من المعطيات التي تلون رؤيته، وتنحرف بها، من عوامل داخلية، من الإنسان نفسه، وعوامل خارجية.. أما إجابة الحضارة الغربية، فهي ليست واحدة.. فهناك من يرى أنه، حتى لو قلنا أن العقل لا يملك الكفاية، إلا أننا لا نملك غيره.. والأغلبية بعد عصر التنوير، تقر بأنه ليس للعقل الكفاية.. وفي كل الحالات ليس للحضارة الغربية، وما تقوم عليه من علمانية، بديل للعقل المجرد، ولذلك رؤيتها، بالضرورة، تقوم عليه.. ولا مجال لأن تقوم رؤيتها على غيره، إلا إذا تم تغيير إطار التوجيه ـ العلمانية ـ بصورة أساسية.
    لقد ناقشنا في كتاب الوجود، قضية: الغيب والشهادة.. وقلنا أن الغيب هو ما غاب عن إدرك عقولنا وحواسنا، وهذا ما يشكل معظم الوجود.. فما ندركه أو نشهده من الوجود، هو طرف صغير جداً، وجل الوجود يغيب عنا.. ولا يمكن أن نحكم بالجزء القليل الذي ندركه على بقية الوجود الغائب عنا.. في الحقيقة، كما بينا في كتاب "الوجود"، أصل الوجود كله غائب عن عقولنا.. ولا يمكن للعقول، بصورة مبدئية أن تدركه.. هذا الأصل هو "المطلق" ـ الذات الإلهية.. يمكن للعقول أن تدرك وجوده.. ولكنها لا يمكن أن تعرف طبيعة وجوده، بحكم إطلاقه، ومحدودية العقول ـ ناقشنا هذه القضية باستفاضة في كتاب الوجود.
    على ما تقدم، تصور الإسلام الأساسي للوجود، كله يقوم على المطلق _الذات الإلهية.. هذا، في حين أن الحضارة الغربية، حتى عندما تؤمن بوجود المطلق، هي لا تملك، بحكم طبيعتها، وإطار المرجع فيها، أي سبيل لمعرفة المطلق، والتواصل معه.
    وكل الخلاف، حول تصور الإنسان، ومعرفته، بين الإسلام والحضارة الغربية، يقوم على هذا الخلاف، حول تصور الوجود الأساسي _المطلق..ـ فدون هذا الوجود، لا يوجد ثابت وجودي، ولا يمكن أن يوجد.. لا شيء سوى التحول، والتغير المستمر.
    ومن أهم ما ينبني عليه التصور الصحيح لأصل الوجود وطبيعته، قضية الحقيقة.. فإذا لم يكن الوجود واحداً لا تكون الحقيقة واحدة، وإنما هي متعددة بتعدد الموجودات، كما يقول البراغماتيون.. ولا يمكن أن يكون هنالك قانونٌ واحدٌ، يحكم كل الوجود.. كما أنه لا يمكن أن يكون هنالك معنى للوجود الإنساني وغاية نهائية له.. وكل هذه أمور أساسية جداً بالنسبة للإنسان.. فالإنسان بحكم دخول العقل في وجوده، لا تستقيم حياته إلا إذا عرف معنى وجوده، والغاية الكلية التي من أجلها وجد.. وهذا، كما رأينا، ما فشلت الحضارة الغربية، في توفيره له، وما كان من الممكن لها إلا أن تفشل.. فأزمة المعنى والغاية الكلية والنهائية للوجود الإنساني، هي أكبر أزمات الحضارة، بل هي أزمتها الأولى والأساسية.. والتصور للوجود، بالصورة التي تمكن من معالجة هذه الأزمة الأساسية، هو التحدي الأكبر والأساسي، الذي يواجه الحضارة اليوم.. وهذا أمر تدور حوله الكثير من كتابات المفكرين الغربيين، ولقد أوردنا في الجزء الأول نماذج لأقوال مفكري الغرب في هذا الصدد.
    الهدف النهائي الكلي ضروري جداً، ولا معدى عنه، لتحقيق الأمن والسلام الداخلي، عند كل فرد.. ولا يمكن أن يتم اختياره بصورة عشوائية، فهو لابد أن يقوم على قناعة عقلية، فالعقل بطبيعته لا يقبل إلا ما هو مقنع له.. وهو لن يقوم على قناعة عقلية، راسخة، إلا إذا قام على تصور للوجود، وطبيعته، التي يقوم عليها.. وبالطبع، ليس كل تصور للوجود، يعطي هدفاً نهائياً للحياة.. فالتصور الذي يقوم على العلمانية لا يعطي هذا الهدف، لأنه يبعد غائية الوجود بصورة أساسية، ويستبدلها بالتصور الميكانيكي، الذي يقوم على السببية فقط، وهي سببية تحكمها قوانين المادة، كما يعطيها العلم المادي التجريبي.. وأصحاب هذا التصور يبعدون الغائية، بصورة حاسمة، كما سبق أن ذكرنا.
    كما أن المعنى والهدف ضروريان لتحديد الوسائل والغايات، في حياة الفرد، وحياة الجماعة.. فغياب المعنى الكلي، والهدف النهائي، يجعل حياة الإنسان كلها، بلا بوصلة تحدد إتجاه السير، وإنما هو يسير في التيه.. وإذا غاب الهدف الكلي، والمعنى النهائي، من حياة الإنسان، أصبحت إلى حياة الحيوان أقرب.
    مجال الغاية، والهدف، من أهم، مجالات المقارنة، بين الإسلام، والحضارة الغربية.. بل هو المجال الذي يصنع الفارق الأساسي، بين إنسان الإسلام، وإنسان الحضارة الغربية.. فالإنسان الذي يعرف معنى وجوده، والغاية منه، يختلف عن الإنسان الذي لا يعرف.. وهذا الاختلاف ينعكس على جميع مجالات الحياة الأخرى، ولكن أهم اختلاف، وأعظمه، هو أن حياة المعنى، والهدف، تكون مفتوحة على السرمد، إذ أن مفهوم الهدف، إذا إنتهى إلى حدٍ معين، فإنه ليس هدفاً حقيقياً، ليس هدفاً نهائياً، كما يقول كولن ويلسن في عباراته التي جاء فيها: "ما يجب على الإنسان أن يفعله هو أن يحاول أن يفهم العالم، وليس العالم ما يحيط به من كون فقط، وإنما هنالك كون آخر.. خلف عينيه أيضاً.. وكل ما يحتاج إليه الإنسان هو أن يفترض شيئاً ليعمل على ضوئه.. أن يؤمن بشيء ليمنحه ذلك هدفاً.. والمحك الأخير لقيمة هذا الإيمان هو إلى أي حد يستطيع الإنسان على ضوء هذا الإيمان أن يعمل؟ لقد كان الأسكندر الأكبر يؤمن بشيء منحه قوة هادفة، إذ آمن بأنه سيحكم العالم كله.. ولما حكم العالم، جلس يتساءل يائساً: ماذا أفعل الآن؟ أجل.. هذا هو محك كل إيمان.. فإذا إنتهى مفهوم الهدف عند حد معين فإنه ليس هدفاً حقيقياً، إذ أنه ليس هدفاً نهائياً.. ولكن الدين يمنح هذا الهدف النهائي، الهدف الذي لا ينتهي ولو عاش الإنسان مليوناً من السنين" راجع كتابنا (الإسلام والسلام عند الأستاذ محمود محمد طه).. وسنرى بوضوح أن الهدف الإنساني، في الإسلام، لا ينتهي تحقيقه!! وإنما السير في مجال تحقيقه، سير سرمدي.
    أما الحضارة الغربية، فلا تستطيع أن تعطي هدفاً، أبعد من الحياة الدنيا، وذلك بحكم اعتمادها الكلي على العقل المجرد وعلى العلمانية، وهما بطبيعتهما لا يعطيان أي تصور لحياة، متجاوزة للموت.
    لقد تحدث د. ولتر ستيس، حديثاً قيماً، عن النظرة الغائية للكون، والنظرة المقابلة لها _النظرة الآلية.. وهذه الأخيرة، هي ما عليه الحضارة الغربية، وذلك بحكم سيطرة العلم المادي التجريبي عليها.. وفي إطار هذا العلم، لا يمكن إلا أن تسود النظرة الميكانيكية، وتبعد النظرة الغائية للكون، وقد سبق أن أوردنا أقواله في هذا الصدد.
    نحن هنا، نكتفي بهذا القدر من النظرة المبدئية للتفريق بين الغائية الكونية، التي يقوم عليها الإسلام والآلية الكونية التي تقوم عليها الحضارة الغربية.. وسنعود لاحقاً لبيان، كيف أن الغائية، هي جوهر التوحيد في الإسلام، وبيان كيف ينعكس هذا التصور على المعرفة، وعلى الحياة الإنسانية.

    الإنسان وحقائق الوجود:
    كل شيء، يتعلق بالإنسان، مرتبط بالوجود وحقائقه، بصورة كلية، لا فكاك منها.. وأهم حقائق الوجود، في التصور الإسلامي، بل الحقيقة الأولى والأساسية، والتي ينبني عليها كل شيء غيرها، هي أن الوجود في حقيقته واحد!! فوحدة الوجود هذه، هي جوهر التوحيد، والأساس الذي ينبني عليه كل شيء بالنسبة لتصور الوجود في الإسلام.. ونحن قد فصلنا في هذا الأمر في كتاب "الوجود"، مما يغنينا عن التفصيل هنا.. فنحن هنا، لا نتناول من أمر وحدة الوجود، إلا ما يعيننا على فهم الإنسان.
    وحدة الوجود، تعني أنه ليس في الوجود، سوى ذات الله، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله.. والأسماء، والصفات، والأفعال، ليست أغياراً للذات، وإنما هي مظهر لها.. هي ليست زائدة على الذات، ولا لاحقة لها، وملحقة بها، وإنما هي عند التناهي، عين الذات.. فالذات الإلهية لا تتعدد، ولا تقوم بالحوادث، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً.. فمثلاً إذا قلنا (الحي)، بالنسبة للذات، فإن صفة الحياة ليست لاحقة أو مضافة للذات، بمعنى أنها لم تكن موجودة، ثم وجدت أو أضيفت، كما هي بالنسبة للخلق.. ولا هي تقوم على أسباب غيرها، كما هي الحال بالنسبة للأحياء من الخلق.. وإنما هي عين الذات، في مظهر من مظاهرها.. وكذلك الحال بالنسبة لجميع الأسماء والصفات، والأفعال.. فالوجود في حقيقته ليس فيه تعدد، وإنما هو وجود واحد، هو وجود الذات الإلهية المطلقة.. هي ليست مسبوقة بعدم، ولا مصحوبة بعدم، ولا ملحوقة بعدم.. كما أنها ليست مسبوقة بوجود غيرها، ولا مصحوبة بوجود غيرها، ولا هي ملحوقة بوجود غيرها.. فكل وجود يظهر بمظهر الغيرية والسوى، هو تجلي من تجلياتها.. والتجليات لا تكون أغياراً.
    الموجودات في الكون الحادث، ليس لها وجود من ذاتها، وإنما وجودها، فقط من وجود الموجد الواحد.. بمعنى آخر، الأكوان ليست موجودة مع الله، وإنما هي موجودة به، ولا وجود لها من ذاتها.. وهذا هو مفهوم "القيومية".. الله تعالى، هو قيوم السموات والأرض، فلا شيء غيره قائم بذاته، وإنما كل شيء قيوميته به تعالى.. قوله تعالى "الله لا إله إلا هو الحي القيوم".. (القيوم)، تعنى الذي تقوم به جميع الموجودات، فلا شيء منها يستطيع أن يقوم بذاته، أو يتماسك بذاته، ولو للحظة.. فهي جميعها، في كل لحظة، قائمة بالله، لا بذاتها، فلا وجود لها من ذواتها، وإنما وجودها هو وجود موجدها.. فهي بظاهر وجودها لم تضف شيئاً إلى وجوده تعالى، ولم تغير شيئاً.. يقول الشيخ عبدالغني النابلسي:
    أشرقت أنوار سلمى فظهرنا كلنا ياخفافيش التجلي ما تبدى غيره
    فهو تعالى، أساساً، ليس معه غيره حتى يظهر بالتجلي.. ما ظهر بالتجلي، هو ذات الله، متنزلة إلى قدرته.. التجلي هو إبداء ذاته لخلقه، بخلقه، ليعرفوه.. وهذا هو الشأن المشار إليه بقوله تعالى: "يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ".
    الله تعالى هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن.. وأوليته ليست مسبوقة بشيء، وآخريته ليست ملحوقة بشيء.. وهو الظاهر بكل شيء، وفي كل شيء، كما أنه الباطن وراء كل شيء.
    ولم يكن من الممكن للذات الإلهية أن تُعرف، لولا أنها تنزلت أو ظهرت بخلقها.. فمعرفة الله، تقع في مستويين: معرفة (حقيقة) ومعرفة (حق).. أما معرفة (الحقيقة) فهي معرفة الذات، وهي مطلقة الكمال، ولا يلحق بها نقص أو محدودية، في أي صورة من الصور.. وهذه المعرفة تمتنع عن العقل، لإطلاقها ومحدودية العقل، ولوحدتها، وتعددية العقل.. فإنه تعالى ليس له كفؤ ولا ضد.. ولوجود الثنائية في عقولنا، فإنها لا تعرف إلا بالضد، ولذلك تمتنع في حقها معرفة الذات، وتنحصر معرفتها في التنزلات.. ولكن القلوب هي قوة الإدراك الوتري، فهي التي لها القدرة على شهود الذات الوترية _الذات التي لا ضد لها_ والشهود معنى من الإدراك، يتنزه عن الإحاطة، وتمتنع فيه الكيفية، لأن الكيفية تتعلق بإدراك العقول، المحدودة.. ولذلك الشهود هو علم ذوق، يتوقف على التجربة.
    أهم ما نريد أن نصل إليه، من الحديث أعلاه، هو أن الوجود الإنساني، من وجود الله، وليس وجوداً مغايراً له.. قيومية الإنسان، بالله، لا بذاته.. وهذه هي القضية الأولى، والأهم، بالنسبة للإنسان، ووجوده، وعليها ينبني الكثير جداً، والهام، كما سنرى.. بل، في الواقع، ينبني عليها كل شيء في وجود الإنسان!!
    القضية الثانية، من قضايا الوجود الهامة، التي تتعلق بوجود الإنسان، هي إمتداد لقضية وحدة الوجود التي أشرنا إليها، أعلاه.. هذه القضية هي وحدة الوجود الحادث.
    فكما أن الله تعالى، في ذاته، واحد، وحدة مطلقة، فكذلك الوجود الحادث _الأكوان_ أو الكون، هو أيضاً واحد في أصله، لأنه صورة من خالقه الواحد وحدة مطلقة.. وهذا بالطبع، لا ينفي التعدد الظاهر، في الوجود الحادث، وإنما يرده إلى أصل واحد.. فالتعدد وهم من أوهام حواسنا، فكلما تخلصنا من هذا الوهم، رأينا الوحدة، القائمة خلف التعدد، والتي ما التعدد، في كثرته وتنوعه، إلا مظهر لها..
    هذه الوحدة، هي أقرب إلى إدراك عقولنا، لأن العلم الحديث، بنظرية الإنفجار العظيم يعطي تصوراً لها.. فالوجود الحادث كله، بكل أحجامه المتفاوتة وأبعاده الشاسعة، وبكل تعدده، في المادة غير العضوية، والمادة العضوية، والأحياء في حيواتهم المتباينة، هؤلاء جميعاً، وحسب النظرية، كانوا مضغوطين قبل الإنفجار، في حيز، أصغر من جزيئ الذرة، أسموه (مفردة).. وهذه المفردة، كانت سابقة على الزمان والمكان!! ولم يظهر الزمان والمكان إلا بعد الانفجار، وظهور المادة كما هي في الصور التي نتصورها بها.. كما أن العلم رد كل صور المادة، إلى شيء واحد، هو الطاقة، فأصبحنا نعرف أن المادة، هي مظهر لشيء وراءها، هو الطاقة، ونحن لا نرى الطاقة بأعيننا، لقصور حواسنا.. ولكننا نعلم، بما علمنا الله، أن الطاقة هي الأصل، والمادة هي المظهر.
    إن لهذه المعرفة _معرفة الوحدة وراء تعدد الوجود الحادث_ قيمة كبيرة جداً، بالنسبة لمعرفة الإنسان.. وذلك لأنها تتعلق ببيئة الإنسان.. وللبيئة أهمية كبرى في معرفة الإنسان، وفي فكره وحياته، كما سنرى لاحقا.. المهم هنا، أن نقرر، أن طبيعة الوجود، تجعل البيئة واحدة.. وهي بيئة _حسب العلم_ مكونة من الطاقة، والمادة مظهر لها.. وحسب الدين، البيئة روحية ذات مظهر مادي.. وقضية البيئة من المسائل الأساسية، في تكوين الإنسان، وفي تطوره، وهنالك الكثير جداً فيما يتعلق بالبيئة يحتاج إلى تصحيح.. على الأقل أمر البيئة يحتاج إلى تمديد أعمق بكثير جداً، مما هو مطروح في الفكر البشري.. وبصورة خاصة، هنالك ضرورة ملحة، لمعرفة أصل البيئة، للتعامل معها بصورة جذرية.
    من حقائق الوجود الأساسية والهامة جداً، لمعرفة، الإنسان، حقيقة وحدة الفاعل.. ولقد ذكرنا، في كتاب "الوجود"، أن الله تعالى، عند من يؤمنون به في الغرب، أصبح إلهاً بلا فاعلية، حيث يعبّر ولتر ستيس عن هذه النظرة، بقوله: "كان الله هو العلة الأولى، للعالم، لكنه بعد أن خلقه، تولى القانون الطبيعي، الذي كان قد خلقه أيضاً، مهمة تسيير العالم، فلم يعد الله يفعل شيئاً بعد خلق الكون، بل تركه لقوانين الحركة وقانون الجاذبية لتعمل كل شيء.. إن الله يشبه صانع الساعة الذي صنع الساعة ذات مرة وملأها، ثم تركها تعمل وفق آلية داخلية.." (8 ص 106)..
    لقد تطور العلم بصورة كبيرة، والمعرفة العلمية المعاصرة تدحض هذا التصور الآلي بوضوح تام، ولكن رغم ذلك، هذا التصور الآلي، لا يزال هو السائد، والنظرة العلمية الجديدة، محصورة في كبار العلماء، كما أنها وحدها ليست كافية، لتعطي تصوراً جديداً للكون.. وإلى أن يبرز هذا التصور الجديد، ستظل النظرة المادية الميكانيكية هي السائدة.. الاختلاف حول فاعلية الله، هو الاختلاف الجذري، من الناحية العملية، بين الإسلام والحضارة الغربية.. فقد أبعدت الحضارة الغربية، الله تعالى، إبعاداً يكاد يكون تاماً، عن الفاعلية في الكون.. وعلى العكس من ذلك، أساس الإسلام _كخطاب للبشر_ هو رد الفاعلية لله بصورة مطلقة، لا يشاركه فيها شيء من خلقه!! فالله تعالى، في الإسلام، هو الفاعل الوحيد، لكل شيء في الوجود، وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهي خير ما في الإسلام، وهي قد جاء بها جميع الأنبياء، يقول المعصوم: "خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله" !! وهي تعني لا فاعل لكبير الأشياء ولا صغيرها، إلا الله.. فالله تعالى هو الفاعل الأساسي، والوحيد في الوجود.. وفعل كل فاعل محاط بفعل الله.. ولا يستطيع أي مخلوق أن يفعل أي شيء من ذاته.. فمن فعل، فبإذن الله فعل.. فالله تعالى هو الفاعل الحقيقي لكل شيء في الوجود، صغر أم كبر.
    وهذا يقودنا إلى السببية.. ففي الحقيقة لا توجد أسباب متعددة لحدوث ما يحدث في الوجود، وإنما هو سبب واحد لكل ما يحدث، هو الإرادة الإلهية.. والأسباب الأخرى، سواء أكانت قوانين الطبيعة، أو الأرادة البشرية هي أسباب ثانوية، أسباب ظاهرية فقط!! وليست لها فاعلية من ذاتها.. لا يوجد أي مخلوق، بما في ذلك الإنسان، له حول أو قوة، ليفعل شيئاً في ذاته أو في الكون.. فالفاعل واحد، هو الله، وهو مسبب الأسباب.
    هذا أمر واضح جداً، فإذا كان الموجود _أساساً_ واحد، لا يمكن أن يكون هنالك أكثر من فاعل واحد.. فالفاعلية تتبع بالضرورة للوجود.. ومن ليس له وجود من ذاته، من المستحيل أن تكون له فاعلية من ذاته.. وهذا يجعل الاختلاف بين الإسلام والحضارة الغربية، ليس في مجال الغائية وحسب، وإنما هو أيضاً في مجال السببية.. وهو في المجالين، اختلاف يكاد يكون تاماً وشاملاً.
    بالطبع نحن البشر نشعر أننا أصحاب إرادة، ونفعل بإرادتنا هذه.. ولكن هل إرادتنا هذه إرادة حقيقية، مستقلة، ومستغنية بذاتها، أم هي إرادة متوهمة، وليس لها فاعلية في الوجود إلا عندما تتفق مع إرادة الله المحيطة بها، بل والتي هي أساساً لا وجود لها إلا بها؟
    إن موضوع الإسلام كله هو الإرادة!! نحن أصحاب إرادة ظاهرة، والله تعالى صاحب إرادة، فما هي حقيقة العلاقة بين الإرادتين!؟ وما الذي ينبغي أن نفعله بإرادتنا!؟ هذا هو موضوع الإسلام الأساسي، كما إنه مجال تفرد الإنسان، وتميزه على بقية خلق الله، وستكون لنا معه وقفة، فهو من أكبر حقائق الوجود، التي تحدد الطبيعة الإنسانية، والمصير الإنساني.. كما أنه يشكل الفارق الجوهري بين إنسان الإسلام، وإنسان الحضارة الغربية.
    ومما ينبني على (وحدة الفاعل)، من حقائق الوجود الأساسية، وحدة القانون!! فالقانون الذي يسير الوجود كله، في الإسلام، قانون واحد، هو الإرادة الإلهية.. فهذه الإرادة، هي ما يدخل بها كل شيء في الوجود، ولا يستطيع أي شيء من دونها أن يدخل.. فكل ما يحدث في الوجود فبإرادة الله حدث.. ثم أن الإرادة الإلهية هي التي خطّت للأشياء في الوجود بداياتها ونهاياتها، كما خطّت لها سيرها بين ذلك.. وهذا هو مفهوم "القانون الطبيعي" في الإسلام.. فهو قانون واحد يحكم كل شيء.
    وكل ما دخل الوجود، بإرادة الله دخل، ودخوله لا يكون عبثاً _عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً_ وإنما هو لحكمة.. فوراء أي حدث يحدث في الوجود، صغر أم كبر، حكمة.. وهكذا فإن الغائية تتلبس الوجود وأحداثه جميعها، دون، استثناء.. والصدفة لا وجود لها على الإطلاق.. ومعرفة هذه الحكمة _كما سنرى_ هي المعرفة الدينية الحقيقية.. وهذا يبين البون الشاسع جداً بين المعرفة في الإسلام والمعرفة العلمانية.. فهذه الأخيرة لا ترى أي حكمة من حدوث الأحداث، يمكن معرفتها، الأمر الذي يجعل المعرفة، بالمفهوم الديني، غائبة تماماً، في العلمانية.
    ويتبع لموضوع وحدة الفاعل، موضوع الحق والباطل.. ففي الإسلام، الحقيقة واحدة.. وهي الذات الإلهية المطلقة.. وكل شيء في الوجود هو وجه لهذه الحقيقة الواحدة، وهو حق.. ووجود الحق والباطل وجود عقلي.. الباطل، باعتبار الحقيقة _اعتبار نظر الله للوجود_ لا وجود له!! وإنما وجوده وجود عقلي، يقوم على ظاهر الأشياء، فكل ما دخل الوجود، فبإرادة الله دخل، كما ذكرنا، وإرادة الله حق، ولا يعلق بها الباطل.. يقول تعالى، مثلاً: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ، وَمَا بَيْنَهُمَا، بَاطِلًا، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ".. فالسموات والأرض وما بينهما حق في ذاتها، وخلقت بالحق.. فالباطل هو وجه الحق البعيد عن الحقيقة، في حين أن الحق هو الوجه القريب من الحقيقة..
    فالكفر بالله مثلاً، دخل الوجود بإرادة الله، فهو من حيث الإرادة حق، وإنما يجيء باطله من حكم الشريعة.. يقول تعالى، على لسان سيدنا هود: "إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم، مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ".. وهذا يعني، أنه ما من دابة، من حيث الحقيقة، إلا وهي على السراط المستقيم، وهي مهتدية.. فالكفر لا وجود له في الحقيقة، وإنما هو حكم شرعي فقط.. فالوجود كله، في الحقيقة، مسلم لله، ومطيع له، وعابد له.. يقول تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ".. وهذا قضاء نافذ الآن وفي كل آن، في الحقيقة ـ فالكافر، إنما كفر بقضاء وقدر، ولذلك هو مطيع للأمر التكويني الذي لا تكون فيه معصية، وإن كان عاصياً للأمر التشريعي.. في الأمر التكويني، لا توجد معصية، وإنما المعصية في الأمر التشريعي.. فالكافر عابد لله، في مستوى من مستويات تنزلاته، وهو محجوب بهذا التنزل عن الله.. فهذا الحجاب هو معنى الكفر.. الكفر يعني الحجاب.. فالكافر محجوب بفعل الله عن الله.. والكافر، في الحقيقة، يسبح لله، يقول تعالى: "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ، وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ".. قوله (وإن من شيء).. يعني ما من شيء.. كل شيء، في الحقيقة، يسبح، المؤمن والكافر في ذلك سواء.. يقول تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ، مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".. الله تعالى يعلم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. هم لا يدعون من دونه من شيء، لأنه، في الحقيقة، لا يوجد من دونه شيء، إلا في وهم الواهمين.. فهم عندما يدعون، من هم دون الله، إنما هم يدعون الله في مستوى من مستويات تنزلاته، ولا يدعون غيره، لأنه لا شيء غيره.. فالغيرية شرك غليظ، إذ أنها زعم بوجود غير الله مع الله.. فتنزلات الله، عند التناهي، هي ليست غير الله.
    الحق هو القانون الطبيعي الذي يسير الله به الوجود _الإرادة الإلهية.. يقول تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ* مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ".. ويقول: "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ، تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ".. فالحق هو القانون الذي يسير الله تعالى به الوجود، في طريق رجعاه إليه.. ويقول تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ".. "أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً؟" يعني: لغير حكمة، ولغير غاية؟ وهو تعالى قد حدد الغاية بقوله: "وأنكم إلينا لا ترجعون؟".. فالعوالم راجعة إلى الله، بفعل قانون الحق _قانون: المعاوضة_، وهي راجعة عن طريق الحق والباطل، والكفر والإيمان، وهما وجهان لشيء واحد.. هذه الرجعة إلى الله حتمية، وهي أعظم بشارة، إذ أنها تجعل الحق والخير هما المصير الحتمي.. ونحن لنا إلى ذلك عودة.
    عالم الخلق والأمر:
    من قضايا الوجود الأساسية التي ينبني عليها فهمنا للإنسان، وطبيعته، قضية الخلق.. فالله تعالى، لم يخلق الخلق من شيء سابق عليه، ولا من شيء موجود معه، عن ذلك تعالى الله علواً كبيرا.. فالخلق بالنسبة لله، هو تنزل من مرتبة الذات، إلى مرتبة القيد، مع بقاء الذات في صرافتها.. الذات المطلقة لا يلحق بها التغيير.. الخلق تنزل من عالم الأمر إلى عالم الخلق.. يقول تعالى: " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ* وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ".. موضوع الأمر والخلق، هو موضوع القضاء والقدر.. فالقضاء هو عالم الأمر.. والقدر هو عالم الخلق.. والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان في الإسلام.. القضاء هو الأمر الواحد، الذي خرج عن الزمان والمكان، كما تفيد العبارة (كلمحٍ بالبصر).. والقدر هو تنفيذ القضاء، وإبرازه، في حيز الزمان والمكان.. وهذا الإبراز، يتم على مكث وتلبث، وتطور.. وفي قوله تعالى: "يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء، وَيُثْبِتُ، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" المحو والإثبات (يمحو الله ما يشاء ويثبت) إشارة إلى التطور، بتعاقب صور الكائنات.. وقوله (وعنده أم الكتاب) إشارة إلى القضاء.. القضاء منطقة وحدة، والقدر منطقة تعدد.
    الله تعالى أوجد الوجود الحادث بالعلم والإرادة والقدرة.. عالم العلم والإرادة، هما عالم الأمر، وهو عالم سابق على عالم الخلق، ومهيمن عليه.
    مع بروز الخلق، من عالم الأمر، برز الزمان والمكان وبرزت المادة بالصورة التي نعرفها _التجسيد_ وبرز التعدد، الذي بدأ مع بداية قيد المطلق.. وبداية القيد هذه هي بداية التنزل إلى مقام الاسم (الله).. وبذلك ظهرت الذات والاسم.. وهذه هي أعلى صور التعدد وأقربها إلى الوحدة.. فبالتنزل إلى مقام الإسم (الله)، برز المحدود من المطلق، وبدأت الثنائية كأعلى صورة للتعدد.. وكل هذا في عالم الأمر.. وبذلك أصبح هنالك الاسم (الله)، والذات في إطلاقها.. وبهذا القيد أصبحت المعرفة العقلية لله ممكنة، بعد أن لم تكن كذلك.. فأعلى المعرفة العقلية تنتهي عند معرفة الاسم، ولا تتعداها.. فالعقل كما سبق أن ذكرنا، يدرك وجود المطلق، لكنه لا يستطيع أن يعرفه، لإطلاقه، ومحدودية العقل.. وكلمة (الله)، كما سبق أن تحدثنا عن مثاني القرآن، هي اسم يُطلق على معنيين: معنى بعيد، هو ذات الله المطلقة، وهي فوق الإدراك العقلي.. فكلمة الله، تشير إشارة إلى الإطلاق الذي منه تنزلت.. والإطلاق فوق العبارة.. فهو لا يسمى، ولا يوصف، ومن ثم لا يُعرف بالعقل.. ولولا أنه تقيد في منزلة الاسم، (الله) لما كان إلى معرفته من سبيل..
    فالمعنى الثاني للكلمة (الله)، هو تجسيد لطرف التنزل القريب منا.. فمقام القيد مقام تجسيد.. فهو خلق.. فالخالق من حيث ذاته لا يتقيد، وإلا أصبح محدوداً، ومتجسداً، وعن ذلك تعالى الله علواً كبيراً.. فكل وصف لله فيه نقص أو قيد أو محدودية، هو في حق التنزل، ولا يكون في حق الذات المطلقة، إلا في معنى إشارة المحدود إلى المطلق، والخلق إلى الخالق.. فمجرد قولك محدود، تفيد ضمناً أن هناك ما هو غير محدود.. ومجرد قولك خلق، يفيد أن هنالك خالق، والمخلوق، من حيث مخلوقيته، غير الخالق، وإن يكن من حيث الذات، لا غيرية، ونحن لنا إلى هذا التنزل إلى مقام الاسم عودة.
    لقد أوجد الله تعالى العالم بالعلم والإرادة والقدرة.. وفي منطقة القدرة جاء التجسيد، فهي تمثل عالم الملك.. أما منطقة العلم والإرادة، فهي تمثل عالم الملكوت، وهو عالم أرواح.. وهذا لا يعني أنه ليس عالم تجسيد، وإنما يعني أنه عالم تجسيد لا تدركه حواسنا، وهذا هو معنى قولنا عالم أرواح.. ففي التوحيد المادة والروح بينهما اختلاف مقدار فقط.. اختلاف في اللطافة.. فالمادة هي روح في مستوى من الذبذبة تدركها حواسنا.. والروح هي مادة في مستوى من الذبذبة لا تدركها حواسنا.. ففي التوحيد اختلاف النوع يمتنع، امتناعاً تاماً.. ويمكن أن يقال، من وجه آخر، أن العوالم ثلاثة هي: عالم الملكوت من أعلى، وعالم الملك من أسفل، وعالم البرزخ في الوسط بينهما.. وهذه العوالم، ثلاثتها، هي عالم الخلق.. فعالم الملكوت عالم لطائف _عالم مادة لا تتأثر بها حواسنا_ عالم أرواح.. وعالم الملك، عالم كثائف _عالم مادة مجسدة، تتأثر بها حواسنا، وهو من ثم، عالم أجساد.. وأما عالم البرزخ فهو عالم المزج بين اللطائف والكثائف _عالم عقول ركبت في الأجساد.. وهذا هو عالم الإنسان.. والاختلاف بين العوالم كلها اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.
    من المهم أن نقرر هنا، الحقيقة الوجودية الهامة، ألا وهي، أن جميع المخلوقات: ما يعقل منها، وما لا يعقل، بأقيستنا نحن، جميعها، أتباع دين واحد.. هو دين الإسلام العام.. يقول تعالى: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، طَوْعًا، وَكَرْهًا، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ".. وسنتحدث لاحقاً عن الإسلام الخاص، إسلام البشر، بعد أن نبدأ حديثنا المباشر، عن موضوعنا (الإنسان).
    بعد التنزل إلى الاسم، بدأ عالم الخلق، وبدأت الثنائية في الوجود.. فقد أصبح هنالك، في أعلى الثنائية: الخالق والمخلوق، أو الرب والعبد.. ثم تتالت الثنائيات _أو الأزواج ـ وجميع الثنائيات تقوم على خلفية من الوحدة.. فالوحدة، هي أصل الوجود، والتعدد مظهره.. وبظهور الثنائية تدلت الفروع من الأصول.. ووجود الأصل هو وجود حقيقة، فهو ثابت، ومهيمن على الفرع.. أما وجود الفرع فهو وجود حق، وجود حكمة، فهو فانٍ، ومعنى فاني أنه متحرك، ومتقلب في الصور، يطلب أصله..
    وعن قضية الأصول والفروع هذه، ورد في كتاب "الإسلام ديمقراطي اشتراكي" ما يلي:
    الأصل في الوجود هو المطلق.. وما المحدود إلا مظهر المطلق.
    المطلق هو الثابت الوجودي الوحيد.. وكل من عداه، وما عداه، لا يقوم بذاته، وإنما يقوم بالمطلق، ولذلك حاجته للمطلق حاجة تامة، لا مجال فيها للاستغاء، وهي حاجة دائمة.. وهذا هو جوهر العلاقة بين الخالق والمخلوق.. الخالق في حالة استغناء تامة.. والمخلوق في حالة حاجة للخالق تامة، مطلقة وسرمدية.
    الأصل في الوجود الوحدة، وما التعدد، وفي قمته الثنائية إلا مظهر لهذه الوحدة.
    الوجود الحادث متحرك، حركة حسية ومعنوية، ولن ينفك.. وفي حركته، يطلب غاية واحدة، أساسية، هي المطلق.. ولذلك الحركة، هي حركة من النقص إلى الكمال.. ومن الجهل إلى العلم، ومن القيد إلى الحرية، ومن الباطل إلى الحق.. ومن الحق إلى الحقيقة.
    الأصل في الوجود هو الخير، والخير مطلق.. وما الشر إلا فرع من الأصل، ومظهر له.. متنزل عنه لحكمة سوق المحدود إلى المطلق.. فالشر، وجنود الشر جميعاً، موظفون لخدمة الخير، الذي هو طرف منه.
    القانون الذي يحكم الحركة، في جميع مستوياتها، وفي مختلف أشكالها، هو القانون الطبيعي ـ الإرادة الإلهية ـ وهو الأصل وماعداه من قوانين هي الفرع.
    البيئة الطبيعية، في جميع مستوياتها، هي بيئة روحية ذات مظهر مادي.. فالروح هي الأصل، والمادة هي الفرع، والمظهر.. والاختلاف بين المادة والروح هو اختلاف درجة.. اختلاف في درجة اللطافة.. فالمادة هي روح في حالة من الذبذبة تتأثر بها حواسنا.. والروح هي مادة في حالة من الذبذبة لا تتأثر بها حواسنا.. فالروح هي الطرف اللطيف من كل شيء، والمادة هي الطرف الكثيف.. والحركة، كلها، هي حركة من الكثافة إلى اللطافة.
    الحياة هي الأصل، والموت فرع ومظهر لها، وهو لا يختلف عنها اختلاف نوع، وإنما اختلاف درجة.. والأصل في الحياة هو حياة الله في ذاته المطلقة.. وكل حياة أخرى، هي مظهر لهذه الحياة، ومستمدة منها، وتقوم عليها.. وأدنى مستويات الحياة، هي حياة المادة غير العضوية ـ تلك التي نسميها إصطلاحاً ميتة ـ لأنها حياتها كامنة فيها.. أما البداية للحياة التي نصطلح على تسميتها حياة، فهي حياة حيوان الخلية الواحدة.. وكل حياة في أي مستوى من المستويات، هي متطورة ونامية تطلب أصلها.
    عن طريق قانون المعاوضة في مستوى الحقيقة، برزت المادة العضوية من المادة غير العضوية.. وأصبح عندنا ما أسميناه (إرادة الحياة).. وقانونها طلب اللذة بكل سبيل، والفرار من الألم بكل سبيل.. ثم بفضل الله، وبفضل صراع الحياة، الذي يقوم على قانون المعاوضة في مستوى الحقيقة، برز الإنسان، ببروز العقل المكلف.. وظهرت إلى جانب (إرادة الحياة)، (إرادة الحرية) وهي مستوى جديد من الحياة.. ولتوجيه هذه الحياة جاء قانون المعاوضة في مستوى الشريعة ـ قانون الروح ـ وهو يقوم على شريعة الحلال والحرام.. فيتوجه بخطابه إلى العقل (إرادة الحرية) ليقيده بقانون يحاول أن يصاقب قانون المعاوضة في الحقيقة.. ولقد ظل هذا القانون يتطور، بتطور الفرد البشري، والمجتمع البشري.. مستنداً في تطوره على التعلم من خلال التجربة في الخطأ والصواب.
    الإرادة الإلهية هي الأصل، والإرداة البشرية هي فرع ومظهر.. والعقل الإلهي هو الأصل، في حين أن العقل البشري هو مظهر وفرع.. والله تعالى هو الفاعل الحقيقي في الوجود، وكل فاعل عداه هو فاعل مباشر، وفعله محاط به من قبل فعل الفاعل الحقيقي.
    النعيم هو الأصل، والعذاب فرع ومظهر.
    الحق هو الأصل، والباطل فرع ومظهر.
    هذا ما ورد في المصدر المذكور، أوردناه كما هو.. بما في ذلك بعض جوانبه التي لم نصل إلى تناولها بعد في هذا الكتاب، ولكن رأينا أن إيرادها يفيد.
    نخلص إلى أن حقائق الوجود المذكورة هي ما ينبني عليها التصور الأساسي لأصل الإنسان وطبيعته في الإسلام، ولا يمكن معرفة هذا الأصل، وهذه الطبيعة دون هذه الحقائق.. وهذا يشكل جوهر الاختلاف بين تصور الإنسان في الحضارة الغربية، والإسلام.. فالحضارة الغربية تنطلق في تصورها للإنسان، من النظر إليه كواقع تاريخي.. والإسلام ينظر للإنسان من منطلق طبيعة الوجود، فهي التي تحدد طبيعة الإنسان وأصله.. فنظرة الحضارة الغربية للإنسان نظرة منبتة، لا علاقة لها بالإنسان في الأعالي، حيث طبيعته وأصله.. ثم هي لا تملك أي تصور للغاية من وجود الإنسان، ومعنى وجوده.. فهي لا تعرف عن الإنسان، ولا يمكن لها أن تعرف، إلا الظاهر فقط.. وحتى الظاهر، هي تعرفه في إطار تاريخي معين، ودون أي صلة تربطه بأصل الوجود وطبيعته.
    طبيعة الإنسان وأصله:
    قلنا إن الذات الإلهية مطلقة الكمال.. وهو إطلاق يجل ويتنزه عن أن تدركه العقول، لأن ما تدركه العقول بالضرورة محدود، وناقص، ويقع في إطار الزمان والمكان.. فيستحيل في حق العقول، أن تدرك عن المطلق إلا وجوده، وتنزلاته _خلقه.. فالله تعالى، كما ذكرنا، لكي يُعرف، تنزل من إطلاقه إلى مرتبة القيد، وظل المطلق في إطلاقه.. وقد كان أول التنزل إلى مرتبة الاسم _الله_، ثم مرتبة الصفة _الرحمن_، ثم مرتبة الفعل _الرحيم.. وفي مرتبة الفعل برز الخلق، وببروز الخلق أمكن معرفة الله.. والخلق، قبل البروز، موجود في منطقة العلم والإرادة، وبالقدرة برز من هذه المنطقة إلى منطقة التجسيد.. وفي منطقة القدرة ظهر الخلق في صورة، في تجسيد.. وقد جاء عن الخلق في الحديث القدسي، قوله تعالى: "كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني".. (كنت كنزاً مخفياً)، يعني في حضرة الإطلاق، وحضرة الإطلاق لا تعرف، وهذا معنى (مخفياً).. فهو من حيث ذاته المطلقة، كان، ولايزال، ولن ينفك، في حضرة خفاء، تجل عن أن تعرف.. ولكن لكي يُعرف، تنزل إلى مرتبة الخلق.. وإلى ذلك الإشارة بقوله (فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق).. فالله تعالى، إنما يُعرف بخلقه.. وخلقه هم فعله، وفعله في التناهي ليس غيره..
    وقمة الخلق وأكملهم في الدلالة على الله، الإنسان، الإنسان الكامل بالذات، ومقامه هو مقام التنزل إلى الاسم (الله)، الذي ما فوقه إلا الذات.. فالإنسان الكامل بين الذات المطلقة في إطلاقها، وبين جميع الخلق.. هو أول الخلق.. هو أعظم أسماء المطلق.. وهو الذات المحمدية، التي أشار إليها المعصوم، بقوله: (أول ما خلق الله نور نبيك ياجابر).. فهو مخلوق بالذات، وهذا معنى أنه أول تنزل منها.. وكل من عداه، وماعداه مخلوق بالواسطة، بالأسماء، وبالصفات، والأفعال.. الإنسان الكامل هو الأمر الواحد، المشار إليه في قوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ* وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).. وهذا الأمر الواحد، هو التنزل إلى مقام الاسم (الله)، وعبارة (كلمحٍ بالبصر)، تشير إلى لحظة بروز المحدود من المطلق، وهي بداية الزمن، وهو زمن يكاد يلحق بالمطلق.. ومن هذا الأمر الواحد، تم بروز، جميع الوجود الحادث، في الزمان والمكان.. وبه يتم عروج جميع أفراد الوجود الحادث، في سيرهم السرمدي إلى الإطلاق.
    وقد كان الزمن مرتتقاً، في وحدة، وهي (الآن).. وفي (الآن) لا شيء مع الله (كان الله ولا شيء معه.. وهو الآن على ما عليه كان).. يعني وهو الآن ولا شيء معه!! الأشياء بالله لا مع الله!! والمعية الممكنة، لا تكون إلا بمعنى الحضور.
    هذا عن الخلق، في (عالم الأمر).. والأمر هو الإرادة، عندما تفضي فيها الثنائية إلى الوحدة، لأن الوحدة هي الأصل، والثنائية مظهر.. فالتعدد مظهر الواحد.. ولله الخلق والأمر (ألا له الخلق والأمر).. والأمر هو الروح، كما هو العلم.. والروح هي الطرف اللطيف من كل شيء، يقول تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً".. ولما كان الأمر أخص من الإرادة، فهو في منطقة الوحدة، ولذلك هو فوق الزمان في تعدده.. يقول تعالى: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ* وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ".. والأمر هو العلم، لأنه الطرف الرفيع من الإرادة، فثالوث الخلق هو: العلم والإرادة والقدرة.. فالإرادة صفة بين صفتين، من أعلاها العلم، ومن أدناها القدرة.. فالقدرة في تنزلها، أكثر كثافة من الإرادة، وأكثر تعدداً، والعلم أكثر لطفاً من القدرة، وأكثر وحدة.. ولكن لما كانت الإرادة صفة وسطاً بين العلم والقدرة، فإن فيها خصائصهما معاً، فكلما ذكرت الإرادة منفردة فهي تعنيهما معاً.
    نريد أن نخلص مما تقدم، أن الإنسان هو أول الخلق قاطبة!! وهذه حقيقة هامة جداً، وينبني عليها الكثير جداً، فيما يتعلق بتصور الوجود الحادث، وتصور أصل الإنسان وطبيعته.
    يقول الأستاذ محمود: "في الحقيقة ليس في الوجود الحادث غير الإنسان.. وجود الإنسان وجود أزلي، أبدي، سرمدي، فهو ينزل المنازل في البعد من الله، وفي القرب.. هو مغترب وراجع من الاغتراب إلى وطنه، الأصلي، إلى الله في إطلاقه.. وليس لهذا السير نهاية، وإنما هو سير في السرمد، لأنه سير إلى المطلق.. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).. خلق الإنسان في أحسن تقويم في الملكوت عند الله، ثم جاءه التكليف فعصى أمر الله بإغواء إبليس إياه فأبعد هو وزوجه وإبليس.. أبعدوا إلى أسفل سافلين، وهو مستوى ذرة غاز الهيدروجين.."
    (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، يعني في أحسن صورة من الاستقامة.. فكلمة (قَوَمَ) تعني جعله مستقيماً، لا ميل فيه ولا إعوجاج.. وهذا التقويم، هو أعلى حالات الكمال، لأنه حال القرب من الكامل، مطلق الكمال _الله.. والقرب من الله ليس قرب مسافة، وإنما هو قرب صفات.. وأعلى صور الاستقامة، على الإطلاق، هي ما عليه الرب، يقول تعالى على لسان هود: "إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم، مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ".. ونحن لنا إلى الاستقامة عودة.. المهم أن الإنسان خلق، ابتداءً، في أعلى صورة من الكمال _الاستقامة_ أحسن تقويم.. وهذا هو أصل الإنسان، الذي منه صدر، وإليه يعود، كما سنرى.. وهو أيضاً يمثل طبيعة الإنسان الأساسية.. فأصل الإنسان، وطبيعته، في الإسلام، هما شيء واحد، وهو حالة الكمال التي خلق الله عليها الإنسان ابتداءً.. وهذا الأصل ثابت وغير قابل للتغيير، كما سنوضح في موضعه.. وثباته، يأتي من أنه يقوم على أصل الوجود _الكمال.. والكمال، من حيث المبدأ، لا يتغير، لا يفنى.. الذي يتغير هو الدرجات الدنيا من الكمال، وتغيرها هو تطور نحو أصل الكمال، عند الكامل مطلق الكمال _عند ذات الله.. فالذي يفنى هو وجه النقص، في الكمال، وفناؤه هو تحوله إلى ما هو أكمل منه.. وقد عرفنا هذا الأمر بشيء من التفصيل في كتابنا (الوجود) الذي سلفت الإشارة إليه، كما أننا سنعود إليه، عندما نتحدث عن الفطرة..
    هذا الكمال الذي نتحدث عنه، والذي هو أصل الإنسان، وطبيعته، هو في الملكوت، في عالم الروح، وهو سيتحقق في عالم الملك، عالم الأجساد، وهذه هي رسالة الإسلام، ورسالة الإنسان في الأرض.. وهو ما سخر الله تعالى، جميع عناصر الوجود لتحقيقه!!
    فالإنسان، في الأساس، كائن رباني، كماله من كمال ربه.. وكمال الرب باقٍ بقاء الرب، فهو مطلق، وما يحققه منه الإنسان، دائماً نسبي.. والكمال هو دائماً عودة إلى الله، وقرب منه.. الكمال أصل، والنقص فرع، والسير كله إنما هو من الفروع إلى الأصول.. والأصول، لا تفنى، وإنما تفنى الفروع، كما سبق أن بينا، وفناء الفروع يعني، أيلولتها إلى الإصول، وما لها من ذلك بد.
    هذا الذي تحدثنا عنه، من أصل الإنسان وطبيعته، يشكل الاختلاف الجوهري بين تصور الإسلام للإنسان، وتصور الحضارة الغربية.. وهو في الواقع اختلاف جذري، وكله يرجع للاختلاف المبدئي، في تصور الوجود، في المجالين.
    إن تغييب فاعلية المطلق _الذات الإلهية_ في الحضارة الغربية، هو السبب الأساسي، في قصور تصور الحضارة الغربية، للوجود وقصور تصورها للإنسان.. والقصور في تصور كل ما يتعلق بهما.. فهذا التصور، في جميع الحالات، والمجالات، تصور منبت، لا يملك، بصورة مبدئية، إمكانية رد الأشياء إلى أصلها، ومعرفة طبيعتها الأساسية.. وعلى العكس من ذلك تماماً، يكون تصور الوجود الذي يقوم على المطلق، باعتباره الوجود الحقيقي الوحيد.. والفاعل الحقيقي الوحيد.. فهذا التصور، هو مصدر كمال تصور الإسلام للإنسان، وأصله وطبيعته، وكل ما يتعلق به.. وهذا اختلاف، لا مجال فيه للحلول الوسط: إما أن يسود التصور الإسلامي، أو يسود التصور الغربي.. وبالطبع التصور الغربي هو السائد، حتى الآن، وهذا هو السبب الأساسي، في قصور الإنسان، وشقائه في الأرض.
    رأينا، أنه في الإسلام، الإنسان هو أصل الوجود الحادث، وبدايته، وهو في نشأته الأساسية أكمل موجود، وهو الوحيد الذي ليس بينه وبين الذات المطلقة شيء.. وهو على العكس من ذلك، في الحضارة الغربية الإنسان هو آخر الموجودات ظهوراً، ولم يظهر إلا نتيجة التطور بالمفهوم الداروني.. فالإنسان في الحضارة الغربية، ليس له اصل رباني، وهومحكوم بقوانين الطبيعة المادية، مثل بقية المخلوقات الأخرى، ولا يستطيع أن يتجاوز واقعه هذا.. بل بصورة خاصة، هو لا يستطيع أن يتجاوز عقبة الموت..
    وفي المقابل الإنسان، في الإسلام، كائن رباني، وجد قبل وجود الأكوان الأخرى.. وهو وسيلة وجود هذه الأكوان، وهو أصلها الذي منه تنزلت، كما أنه غايتها.. فالأكوان، جميعها، تستمد وجودها، من بعد الله، من الإنسان!! والإنسان هو الكائن الوحيد المنفتح على المطلق، فليس لتطور كماله حد ينتهي إليه.. هذا مقابل الطبيعة الدنيوية للإنسان في الحضارة الغربية.
    وعلى هذه الاختلافات الأساسية، تقوم العديد من صور الاختلافات المهمة، بين إنسان الإسلام، وإنسان الحضارة الغربية، وهذا ما ستظهر أبعاده في بقية الكتاب.
    على أن الأمر المشترك بين التصورين بالنسبة لطبيعة الكون، مما ينعكس على الإنسان، هو أن الإسلام والحضارة الغربية، كل منهما يرى أن الوجود الحادث بدأ (بمفردة) هذا من حيث المبدأ.. ولكن يوجد حول تصور هذه المفردة اختلاف جذري..
    فالمفردة، في الحضارة الغربية، التي تشكل بداية الكون، حسب نظرية "الإنفجار العظيم" ، هي كما يقول عنها ستيفن هوكنق: "في لحظة من الماضي، منذ نحو 13.7 بليون سنة، كانت المسافة بين المجرات (تبعاً للحسابات الرياضية) تساوي صفراً، وبعبارة أخرى كان الكون محصوراً في نقطة مفردة حجمها صفراً!! مثل كرة نصف قطرها صفراً، ثم كان ما نطلق عليه الإنفجار الأعظم The Big Bang وهذه كانت البداية" (3 ص 42).
    أما المفردة في الإسلام التي بدأ بها الخلق، فهي التنزل إلى مقام الاسم (الله)، وهي مقام الإنسان الكامل _الحقيقة المحمدية_ وقد تحدثنا عن ذلك..
    في الإسلام البداية كانت بالكمال، وهو صادر من الكمال المطلق، وليس بينه وبينه شيء، وهو تجلي العقل الكلي، كما هو النور الأول.. وفي التصور الغربي، الوجود بدأ بالمادة _بالنقص_ ولا يوجد تصور محدد لما قبل الإنفجار العظيم، ولا لأثره على الوجود من بعده.. البداية التي تبدأ منها الحضارة الغربية، في تصورها للوجود، هي ما يساوي في الإسلام الهبوط إلى أسفل سافلين!! كون الحضارة الغربية، هو منطقة (أسفل سافلين) حسب التصور الإسلامي، وهذه هي المنطقة المشتركة بين التصورين.. ويجب أن يكون واضحاً، أن تصور الإسلام، وتصور الحضارة الغربية، كليهما يقوم على العقيدة.. بالطبع هنالك أدلة علمية على بداية الكون الذي ذهبت إليه الحضارة الغربية.. ولكن علميتها هذه، في كل جوانبها، تقوم على العقيدة!!
    المهم، إذا نظرنا إلى بداية الإنسان، في الفكر الغربي، مع بداية الإنفجار العظيم، أو إذا نظرنا إليها وفق التصور الداروني للتطور _وهذان هما أهم مصدرين معتبرين في الغرب_ فإن البداية في الحالتين، هي من النقص.. هذا، في حين أن بداية الإنسان في التصور الإسلامي، من الكمال _الحقيقة المحمدية_ والاختلاف بين النظرتين هو أن التصور الغربي، يجعل أصل الإنسان هو المادة، في أدنى مستوياتها، وأن التطور في الكمال، جاء نتيجة التعقيدات التي حدثت في المادة، إلى أن ظهر البشر بصورتهم الحالية.. وهذا تصور يغفل بصورة تامة، مرحلة الوجود في الملكوت.. والاختلاف بين التصورين، ليس هو الاختلاف بين المادة، والحقيقة المحمدية، وهو اختلاف هائل جداً، وإنما أكثر من ذلك هو الاختلاف بين: الذات المطلقة الكمال، والتي يقوم عليها كل شيء، وبين المادة، كأصلين للوجود، حسب التصورين.
    لكل ذلك، في حديثنا عن الإنسان، نحن نتحدث، حديثاً مختلفاً تماماً، عن التصور الغربي.. ونقاط الإلتقاء لا تكون إلا في المجالات الدنيا من الوجود الإنساني، وحتى هذه _مع الإلتقاء_ توجد اختلافات أساسية.
    هذه كانت خلفية ضرورية جداً للحديث عن الإنسان في الإسلام، لا يستقيم الحديث من دونها.. والآن، نذهب إلى بداية حديثنا المحدد عن الإنسان في الإسلام.. ولا بد أن نصطحب معنا الخلفية المذكورة عن حقائق الوجود.. فنحن سنرجع إليها من وقت لآخر، إذ هي الأساس الذي ينبني عليه كل شيء يتعلق بحديثنا عن الإنسان.

    4/2/2019م























                  


1 صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de