ثورة ديسمبر من بين أشياء كثيرة تفردت بها، انها لم ترفع شعارا أيديولوجيا يمكن أن يصنفها لجهة معينة، فقد كانت تلقائية خرج الناس لها بعفوية فرادى ثم تنظمت فيما بعد، عندما انضمت اليها التنظيمات المهنية والمجتمعية والسياسية. فالكل أجمعوا على هدف واحد يتمحور حول طلب الحرية والعدل والكرامة. قوة هذه الثورة استمدتها من كونها ارتكزت على استلهام قيم وأخلاقيات المجتمع، فلم تكن تحمل لافتة أيديولوجية تدعو لتوجه معين، كانت أيديولوجيتها " سلمية سلمية وتسقط بس"، فقد شاهدنا منذ أن تفجرت هذه الثورة في التاسع عشر من ديسمبر كيف، سادت أجواء الثورة قيم وسلوكيات افتقدها المجتمع في الفترة الماضية ، وهي التي أعادت الثقة والكبرياء للمجتمع، وهناك اتفاق من الجميع بأن هناك انجازات لهذه الثورة، وان روحا جديدة حلت بين الناس خلال هذه الفترة، وان هذه الروح تسربت إلى جسد المجتمع، وكانت بداية لتعافيه من سلبيات عديدة كانت تنخر في جسده ، فمثلا، تغيرت نظرة الناس لأنفسهم، فبدوا وكأنهم يتعرفون على أنفسهم لأول مرة، وأصبحوا أكثر وعيا في تعاطيهم مع ما يدور من أحداث في البلاد، كذلك نبذوا حالة الاستكانة التي سيطرت عليهم ردحا من الزمن وحل محلها شعور بالرفض وعدم الخنوع، كذلك شعر الناس بالتحرر من الخوف الذي لازمهم ،كما يلاحظ أن التعامل فيما بين المواطنين في الشارع وخلال الاحتجاجات أصبح فيه كثير من الود بعد أن كانوا لا يتحملون بعضهم البعض من جراء الغضب المكبوت، كما في حالات العراك بين الركاب والكماسرة في المواصلات، والاعتداء على طواقم الخدمات الطبية في المستشفيات، وقد اتضح للذين قاموا بمثل هذه الأفعال أن الطواقم الطبية في المستشفيات لا ذنب لهم وأنهم يعانون مثلهم، ومن الصور التي سجلتها يوميات الثورة، تجاوز الناس الإختلافات بكافة أشكالها بينهم، إذ أصبح الناس أكثر قربا من بعضهم، وكان من نفحات هذه الثورة إن أحيت الأمل في نفوس الناس بعد ان مات ذلك الشعور حينا من الدهر ، و اعتقد ان اهم شيء حدث في هذه الثورة هو تغير النظرة للشباب واعادة الثقة فيهم. والحقيقة أن كثير من هذه الأخلاقيات و السلوكيات لم تكن جديدة على المجتمع فإن كانت قد اختفت في الفترة الماضية فذلك كان بسبب الهدم الذي مارسته معاول الإنقاذ خلال الثلاثين سنة الماضية للمجتمع ومؤسساته ومكوناته، ولكن في لحظات الصدق النابعة من روح الثورة التي سيطرت علي الجماهير ، تمت استعادتها. فكيف نحافظ على الجديد من الإنجازات واستدامتها، ونحرص على عدم التفريط في ما تمت استعادته من القيم والاخلاقيات والسلوك والتي كانت مغيبة بفعل فاعل . المرحلة المقبلة هي مرحلة من أشد المراحل خطورة، فإذا حققت الثورة هدفها ، فإن البلاد بلا شك ستواجه بتحديات كبيرة تتطلب أن يكون الشعب على قدر عال من المسؤولية لمواجهة هذه التحديات والا فإنهم سيكونوا مثل المنبت الذي لا ظهرا ابقى ولا أرضا قطع. ستكون هناك معوقات كثيرة، لكن أخطرهذه المعوقات تلك التي يمكن أن تتسبب فيها سلبية المواطنين وعدم المبالاة ، وإذا لم يكونوا بقدر المسئولية أو يكونوا غير مستعدين لتحمل تبعات ما ضحوا من أجله، فالثورة قامت من أجل بناء وطن تسوده العدالة والمساواة وحفظ كرامة الوطن و المواطن، وبالتالي فإن عمليات إعادة البناء القادمة تعتمد اولا واخيرا على الوعي الوطني ومدى مقدرة الشعب على تقديم التضحيات وتحمله في سبيل ذلك، كنوع من ضريبة للوطن، فما حدث كان ثمنه ارواح الذين استشهدوا ودماء الذين أصيبوا في المظاهرات والذين عانوا التعذيب في المعتقلات، وبالتالي فإن التضحية أقل ما يمكن أن يقدمه كل فرد من الشعب ، فالناس تحملت الأذى والظلم والذل والفقر والتهميش والتشريد في ظل القهر، أفلا يتحملون مسئوليتهم في عهد هم أصحابه.؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د.الصادق محمد سلمان
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست