الإنسان في الحضارة الغربية الحلقة التاسعة عشر بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 08:17 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-29-2019, 01:12 PM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإنسان في الحضارة الغربية الحلقة التاسعة عشر بقلم محمد الفاتح عبدالرزاق عبدالله

    12:12 PM January, 29 2019

    Sudanese Online
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    My Library
    Short URL

    بسم الله الرحمن الرحيم
    (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور)
    الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية

    الجزء الثاني
    الإنسان في الاسلام
    (نحن نبشّرُ بعالمٍ جديد، وندعو الى سبيل تحقيقه، ونزعم أنا نعرف ذلك السبيل معرفة عملية.. أما ذلك العالم الجديد، فهو عالم يسكنه رجال ونساء، أحرار، قد برئت صدورهم من الغل والحقد، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات.. فهم في جميع أقطار هذا الكوكب متآخون، متسالمون، متحابون.. قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم، وفي ما حولهم من الأشياء.. فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب.. تسمو بهم الحياة فيه سمتاً فوق سمت، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة.. تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر، وجديد من الثمر)..
    الأستاذ/ محمود محمد طه

    الباب الأول
    القرآن
    الفصل الأول
    مدخل
    القرآن والإنسان

    من أهم ما يتميز به الإسلام عن غيره، من الأديان والفلسفات فيما يتعلق بفهم الإنسان، هو القرآن.. فالقرآن، ليس هو كتاب المسلمين.. وإنما كتاب الإنسانية جمعاء، لأنه سيرة الحياة جمعاء.. وهو بصورة خاصة كتاب الإنسان، وهذا ما يجعلنا نبدأ حديثنا عن الإنسان في الإسلام، بالحديث عن القرآن..
    الثالوث القرآني:
    القرآن بين دفتي المصحف هو كلام الله، يقول تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ".. وكلمة (كلام) كلمة واضحة في اللغة، فهي تشير إلى أصوات ذات دلالة اصطلاحية، تخرج من الحنجرة.. ولكن عندما تضاف كلمة (كلام) إلى اسم الجلالة (الله) يحدث تحول أساسي فيها، ويمتنع فيها التعريف الذي أوردناه آنفاً، من عدة وجوه، وهذا الامتناع أمر لا تعطيه مجرد اللغة، وإنما هو أمر يقتضيه التوحيد.. فالله تعالى، لا يتحدث بجارحة، وحديثه ليس مثل حديثنا، أصوات تنسل من الحناجر، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً!! إذن فما معنى (كلام الله)؟ وبأي معنى، يكون القرآن، بين دفتي المصحف، هو كلام الله؟
    فكون الله تعالى لا يتحدث بجارحة، أمر واضح، ولكن أبعاده ومقتضياته ليست واضحة عند كل الناس، الأمر الذي يقتضي الحديث عن (الله) وعن صفة الكلام بالنسبة له.
    الله تعالى، ذات، صرفة، مطلقة، وهو من حيث ذاته، يتسامى عن كل قيد، وعن كل عبارة أو إشارة، لأن كل عبارة أو إشارة إنما هي قيد، وتفيد صورة من صور التحديد، عنها تتعالى الذات الإلهية.. ولكن الذات الإلهية لكي تعرف، لابد أن تتبدّى في صورة من صور القيد، لأن العقول التي بها المعرفة، لا تدرك إلا ما هو مقيد، واللغة لا تعبر إلا عن ما هو مقيد.. فالذات الإلهية، لكي تعرف، تنـزلت إلى مرتبة الاسم (الله) وكانت هذه هي مرتبة أول قيد، ومنها تم التنـزل إلى مرتبة الصفة، ثم إلى مرتبة الفعل.. وفي مرتبة الفعل ظهر الخلق.. وصفة الكلام هي الصفة السابعة من الصفات النفسية السبع، وهي: الحياة، العلم، الإرادة، القدرة، السمع، البصر، والكلام.. وقد جاء القرآن، يحكي هذه التنـزلات، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ".. وقد كانت النزلة الأولى إلى مقام الاسم (الله)، حيث نزل القرآن جملة.. والقرآن كله، في أي تعبير، محدد ومحدود.ـ وكل تعبير باللغة، أو في مستوى إدراك العقول هو محدد ومحدود.. هو في حق التنـزل لمقام الاسم، وليس له حظ من الحديث عن الذات الإلهية المطلقة، إلا الإشارة التي تتسامى عن كل قيد تقتضيه اللغة، أو يقتضيه إدراك العقول.. وبعد أن نزل القرآن إلى مقام الاسم مجملاً، نزل مفرقاً في المقامات التي تليه.
    ولما كان الله تعالى، لا يتكلم بجارحة، فكلامه تعالى، في الحقيقة خلق.. "فكل ذرة من ذرات الوجود، المنظور لنا، وغير المنظور، غازاته، وسوائله، وجماداته، ونباتاته، وحيواناته، وحشراته، وإنسه، وجنه، وملائكته، وأنواره، وظلماته، كل ذرة من ذرات هذه الأجساد، كلمة من كلمات الله.. والله متكلم بكل هذه الألسن"... فالقرآن تنـزل من مقام الجمع إلى مقام الفرق، أولاً في صورته الخَلْقية، ثم جاءت صورته اللفظية مؤخراً جداً، بعد ظهور الإنسان العاقل المكلف، وظهر ذلك في أوضح صوره مع ظهور آدم النبي، ثم اكتملت صورة هذا القرآن، في صورته اللفظية، في صورته النهائية، بما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستقر بين دفتي المصحف..
    وعلى ذلك يكون القرآن ثلاث صور، أولاها الصورة الخلقية، وهي تمثل كلام الله في الحقيقة.. والكلام في هذا المستوى ليست له بداية وليست له نهاية، وإنما الله تعالى فيه متكلم سرمداً، وكلامه تعالى صفة قائمة بذاته، هي عند التناهي ليست غير الذات.. وكإشارة إلى إطلاق القرآن، في حقيقته، يجئ قول الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".. أو قوله تعالى: "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا".. فالقرآن بين دفتي المصحف، صورة لفظية للقرآن في صورته الخلقية.. وقد تنـزل القرآن في صورته اللفظية للتيسير، ولعلة أن ندرك نحن الذين لا ندرك إلا عن طريق عقولنا، وإدراك العقول يقتضي أن يكون الخطاب عن طريق اللغة، وهذا معنى قوله تعالى: "حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ". فالقرآن صب في قوالب اللغة العربية، لعلة أن نعقل نحن، وهذا معنى قوله تعالى (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون).. فهو قد جُعل عربياً بعد أن لم يكن كذلك.. فالقرآن في حقيقته ليست له لغة، وإنما هو علم الله المطلق.. وحقيقة القرآن هذه هي، في (أم الكتاب) وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم".. وكلمة (لدينا) تعني عند الذات.. (فأم الكتاب) هي في الحقيقة ذات الله، ثم هي في تنـزل مقام الاسم، حيث نزل القرآن جملة، كما سبق أن أشرنا.
    ومقام الاسم هذا الذي إليه تنـزل القرآن، أول ما تنـزل في جملته، هو أول قابل لتجليات الذات الإلهية، فهو أول الخلق.. وقد قال المعصوم، عن أول الخلق، في حديث جابر المشهور: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر..".. فالذات المحمدية، هي أول قابل لتجليات الذات الإلهية، وهي التي بها برز المحدود من المطلق، وهي في عالم الملكوت، وإليها الإشارة بقوله تعالى: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ".. فالحقيقة المحمدية هي مقام أحسن تقويم، وهي مقام الإنسان الكامل، الذي عنه تمت الردة إلى أسفل سافلين: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ".. وأسفل سافلين هذه، هي أبسط صور التجسيد في المادة.. ثم انتدب الإنسان ليسير من مقام (أسفل سافلين) إلى مقام (أحسن تقويم)، وهذه هي وظيفة الدين الأساسية، وهي تحقيق مقام (أحسن تقويم) الذي ظل في عالم الملكوت، عالم الأرواح، في عالم الملك، عالم الأجساد، وبتجسيد هذا المقام تتحقق إنسانية الإنسان..
    فالإنسان مشروع، بدأ من أسفل سافلين، في أبسط صور تجسيد المادة، ثم أخذ يتبلور عبر المسيرة الطويلة والشاقة، في التطور، الذي توجهه فيه، وترعاه، الإرادة الإلهية المتفردة، في مسيرة، كل شيء فيها بمقدار موزون.. وها هنا يكون لقاء الأكوان بالإنسان والقرآن.. فهذه الأشياء الثلاثة، ليست سوى شيء واحد، منظور إليه من زوايا مختلفة.. فالأكوان هي الإنسان في صيرورته من أسفل سافلين إلى أحسن تقويم، والقرآن بين دفتي المصحف هو قصة الإنسان معبر عنها باللغة العربية، فالقرآن هو كتاب الإنسانية جمعاء، لأنه سيرة الحياة جمعاء.. يقول الأستاذ محمود:
    "هذا الكتاب هو قصة النفس البشرية الخالدة في الجوهر، المتقلبة في الصور المختلفة، في الأزمنة المختلفة، والأمكنة المختلفة.. فلم يمر عليها زمان قط، لم تكن فيه في مكان ما، تبحث عن الخلود.. تريد أن تكون خالدة في الصور، كما هي خالدة في الجوهر.. وهيهات. هذه القصة الطويلة هي قصتي، وقصتك، وقصة كل فرد بشري، ولكنا جميعاً نسيناها.. ومعنى أننا نسيناها، أنها رسبت في العقل الباطن، ثم غطت عليها طبقة كثيفة من الأوهام والمخاوف، التي ورثناها من عهود الجهل والخرافات.. وليس لنا إلى السعادة من سبيل إلا بكسر هذه القشرة الكثيفة التي أحكمت سبكها، وافتنَّت في حياكتها، يد الخرافات، والأوهام، والمخاوف، التي حجبت صور العقل الباطن، من أن تنعكس على صفحة العقل الواعي، فتستجلى بانعكاسها، الحقيقة الكبرى ـ حقيقة الحقائق المحجبة بستائر الأنوار...".
    فالذات التي في القرآن، هي الذات المحمدية _الإنسان الكامل_ فالقرآن إنما يتحدث عن هذه الذات في المكان الأول.. أما الذات الإلهية الصرفة فهي فوق العبارة وفوق الإشارة، ولا يكون القرآن صفة لصرافة الذات إلا عند التناهي، حيث ينقطع التعبير، وينبهم الكلام، وينتهي الأمر إلى ما وراء الحروف التي تفتتح بها بعض السور مثل "الم".. و"كهيعص" و"يس" إلى آخر ما هنالك مما لا تحمله اللغة.
    وموضوع الإطلاق، والتنـزل إلى مرحلة القيد، بالنسبة لله، هو الذي يحدد معاني التنـزيه والتشبيه، والقدم والحدوث.. فالذات الإلهية قديمة، ومنـزهة تنـزيهاً مطلقاً، فهي تتعالى عن كل وصف أو عبارة، أو إشارة، وفي ذلك يجيء قوله تعالى: "سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"..
    "سبحان ربك رب العزة عما يصفون" تعني تنـزه الله في ذاته عن كل وصف، و"سلام على المرسلين" تعني أن خير من وصف الله هم المرسلون، لأنهم وصفوه بما وصف به نفسه، وفق ما تقتضيه حكمته في التنـزل ليُعرف، ومن هنا يأتيهم السلام.. وفي هذا المعنى يجيء قول المعصوم: "تفكروا في مخلوقات الله، ولا تتفكروا في ذاته، فتضلوا".. فذات الله لا يحيط بها الفكر، لأنها مطلقة، والفكر محدود، ولأنها وحدة، والفكر يقوم على الثنائية، ولذلك قيل "كل ما خطر ببالك فالله ـ من حيث ذاتهـ بخلاف ذلك".
    لقد ورد عن السيدة عائشة قولها في حق النبي صلى الله عليه وسلم "كانت أخلاقه القرآن".. والقرآن هو أخلاق الله، ولكنه هو أخلاق الله في مستوى التنـزل إلى مقام الاسم، وهذا هو المستوى الذي يصح فيه وصف بشر، بأن أخلاقه هي القرآن، أما الإطلاق فلا مقام فيه لأحد من الخلق، وفي هذا الإطار تجيء الوصية النبوية: "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على صراط مستقيم".. والوصية القرآنية: "كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ". فأخلاق الله هنا هي مستوى التنـزل إلى الاسم، وهي القرآن.
    نخلص مما تقدم إلى أن هنالك ثلاث صور للقرآن، فهنالك القرآن في صورته الخلْقية، وهو الأكوان جميعها، وهذا هو كلام الله الحقيقي.. وهنالك القرآن الحي، وهو الإنسان، خلاصة الأكوان وصفوتها، وهذا هو التعبير الأكمل عن كلام الله، والصورة الثالثة هي القرآن اللفظي كما هو بين دفتي المصحف، وهذه الصورة هي تعبير عن طريق اللغة عن المستويين الأولين، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ، وَفِي أَنفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ".. فآيات الآفاق هي الأكوان، وآيات النفوس هي الإنسان، وهذه الأخيرة هي حقيقة القرآن وموطن إعجازه.. فالاختلاف بين آيات الآفاق، وآيات النفوس كالاختلاف بين الإنسان والأكوان..
    فالإنسان في الحقيقة هو الكون الأكبر، وجميع العوالم هي الكون الأصغر.. والأكبر والأصغر هنا بالطبع ليس باعتبار الحجم، وإنما باعتبار القيمة.. يقول تعالى، في الحديث القدسي: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن".. والسعة هنا سعة علم، وليست سعة مكان، وهذا ما جعلنا نقول أن حقيقة القرآن في التنـزل هي العلم المطلق، وهي الإنسان، فالعلم المطلق في الإنسان، في حالة كمون، ولا يفْترُّ منه إلا في الزمان والمكان، وما يكون في الزمان والمكان هو النسبي..
    فالإنسان هو مقصود الله بالأصالة، وهو موضع نظره إلى خلقه.. والأكوان جميعها هي مقصود الله بالحوالة، وهي مطية الإنسان، ووسيلة سيره إلى ربه _إلى كماله_ وإنما يأتي شرف الأكوان من الإنسان الذي إليه صيرورتها.. فليس في الكون الحادث، سوى الإنسان، في طور من أطواره.. وشرف القرآن إنما يأتي من أنه تعبير عن الإنسان، ووسيلة إلى تحقيقه، يقول تعالى: " بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ"
    المثـاني:
    الوحدة هي أصل الوجود الأول والأساسي، والثنائية هي أصله الثاني، فهي تنتظم جميع مظاهر الوجود الحادث، يقول تعالى: "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ".. ويقول: "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنفُسِهِمْ، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ".. فالوجود الحادث في جميع مستوياته يقوم على الثنائية.. فالأكوان ثنائية والإنسان ثنائي.
    ومن الجانب الآخر، القرآن أيضاً يقوم على الثنائية، فهو كله مثانٍ، وفي ذلك يقول تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، كِتَابًا مُّتَشَابِهًا، مَّثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء، وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ".. (مثاني) يعني أنه ذو معنيين، كل آية فيه، وكل كلمة وكل حرف، له معنيان.. وأمر المثاني من أهم مفاتيح فهم القرآن، التي لا يمكن أن يفهم من غيرها.. ونحن هنا سنذكر بعض أسباب كون القرآن مثاني، والحكمة في ذلك، كما سنذكر بعض أوجه المثاني الأساسية:
    1- إن السبب الأساسي في كون القرآن مثاني هو أنه خطاب من الرب في عليائه إلى العبد في الأرض، وهو بذلك خطاب من حضرة إطلاق، إلى مستويات قيد تتنـزل في أوقاتها إلى مستوى القيد في اللغة الذي يفهمه الرجل العادي الذي يفهم اللغة العربية، يقول تعالى: "حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" ولقد سبق لنا أن أوردنا الآية، وقلنا عن عبارة "وإنه في أم الكتاب لدينا.."، لدينا تعني عند الذات في إطلاقها، ومن لدن الذات تنزل القرآن في المنازل المختلفة، حتى صب في قوالب اللغة العربية، لعلة أن ندرك نحن الذين ندرك عن طريق اللغة، فالمثاني هنا، معنى بعيد عند الذات، ومعنى قريب عند العبد، وما يدركه العبد، لا يمكن أن يكون هو كل ما عند الرب، ولكن العبد ندب ليسير من مستوى ما نزل إليه، حسب طاقته، إلى مستوى ما عند الرب، وذلك بزيادة طاقته في الإدراك، وهذا أمرٌ السيرُ في مضماره سرمدي لا انتهاء له، فمهما علم العبد عن الله من القرآن، يظل ما يجهله أكبر مما يعلمه بما لا يقاس، وعلى ذلك فإن المثاني طبقات من المعاني لا انتهاء لها.
    2- ومن المثاني، ذات الأهمية في فهم القرآن: الشريعة والحقيقة.. واستخدام الكلمتين هنا استخدام اصطلاحي.. فالشريعة: تعني ما يتمشى مع ظواهر الأشياء أو مع الإرادة البشرية، والحقيقة ما يقوم على أصل التوحيد.. وللاصطلاحين مقابل من اصطلاحي الظاهر والباطن.. فالقرآن يساير وهم الحواس، ووهم العقول، ويعبر عن الأشياء كما تبدو في الظاهر، ريثما يتم تجاوز الوهم إلى الحقائق التي وراء الظاهر _الباطن_ فإذا كان الظاهر، حسب البديهة المعاشة يعطي أن الأرض مسطحة، فإن القرآن يجاريه فتجيء آيات مثل قوله تعالى: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا".. فإذا تم تجاوز وهم الحواس، تم الانتقال إلى الآيات التي تفيد أن الأرض ليست مسطحة إلا في ما يعطيه ظاهر البديهة المعاشة، القائمة على النظر المجرد، وإلا فإنها حسب ما تعطيه إدراكات العقول فهي كروية.
    ولما كانت الشريعة تقوم على اعتبار أن للبشر إرادة بالترك والعمل، فإن القرآن في مستوى الشريعة يقوم على اعتبار هذه الإرادة، فيجيء قوله تعالى مثلاً: "لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ" فيفهم العبد أن له إرادة أو مشيئة بالاستقامة أو عدمها، فيعمل في العبادة والمعاملة، بمقتضى هذه المشيئة، فإذا جود العمل في العبادة والمعاملة، طالعته الحقيقة، المتمثلة في قوله تعالى: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"، فيعلم أن إرادته في الحقيقة هي مظهر لإرادة وراءها هي إرادة الله، فإذا لم يشأ له الله أن يستقيم، لا يستطيع هو أن يستقيم من عنده، متجاوزاً المشيئة الإلهية.. ففي البداية يكون العابد محجوباً بإرادته عن إرادة الله، فيحجب بـ (لمن شاء منكم أن يستقيم) عن (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)، أي يحجب بالشريعة عن الحقيقة، وفي هذه الحالة تكون العبادة عمل من العبد للرب، وبعد تجويد التوحيد يدرك العبد أن أي شيء لا يبدأ منه تعالى، لا يمكن أن يبدأ منا نحن، فحتى عبادتنا هي منه وإليه، وعندما يشاهد العبد أن كل شيء منه تعالى، يتضاءل اعتماده على عمله، فيؤدي العمل في تجويد، ويكون نظره للفضل، وراء العمل، وليس لمجرد العمل.
    ومن أهم مفاتيح فهم المثاني في القرآن، والتي يعتمد عليها فهم القرآن، وفهم الدين كله، أمر العبادة والعبودية، وهذا أمر يتمشى مع حديثنا السابق عن الشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن.. فتكليفنا الأساسي هو العبودية لله، عن طريق وسيلة العبادة، يقول تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".. "ليعبدون" ظاهرها عبادة، وباطنها عبودية، يعني ما خلقتهم إلا ليعبدوني كما أمرتهم على لسان رسلي، ليكونوا عبيداً لي كما أمرتهم على لسان عزتي، حين قلت: "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا".
    وهو نفس المعنى، الوارد في سورة الفاتحة، في قوله تعالى: "إياك نعبد، وإياك نستعين".. "فإياك نعبد" عبادة.. "وإياك نستعين" عبودية.. و"إياك نعبد" ظاهر "وإياك نستعين" باطن.. ونحن في بداية الأمر نكون محجوبين بالعبادة عن العبودية، ثم إذا جودنا العبادة، يتضح لنا أنها وسيلة للعبوديةـ والعبودية لله هي الحرية المطلقة، كما سنبين في موضعه. فالعبادة جسد، والعبودية روح هذا الجسد.. فكلمة "إياك نعبد" في الظاهر، ينبغي أن تقوم على "وإياك نستعين" في الباطن.. والشريعة والحقيقة، ينبغي أن يقوما معاً وفي نفس الوقت.. ففي الشريعة الحقيقة موجودة، وفي الحقيقة الشريعة موجودة، ولا تنفك.
    وفاتحة الكتاب _أم الكتاب_ هي السبع المثاني المشار إليها في الآية "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ".. فآياتها سبع، وكل آية لها معنيان، والسورة في جملتها مقسمة بين العبادة والعبودية.
    3. ومن المثاني الهامة، في القرآن والتي تتمشى مع موضوع الشريعة والحقيقة، موضوع الأمر التكويني والأمر التشريعي.. فالأمر التكويني يقوم على الحقيقة، وإليه تشير الآيات مثل قوله تعالى: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ* وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ".. وقوله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا".. ومن آيات الأمر التشريعي، مثلاً، قوله تعالى: "وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا، وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا! قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء، أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ؟"، وقوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ".. وعلى الأمر التكويني يقوم الإسلام العام، وعلى الأمر التشريعي يقوم الإسلام الخاص _إسلام العقولـ ونحن لنا إلى الإسلامين عودة.. وفي الشريعة لا حساب إلا على الفعل الإرادي، في حدود طاقة الإنسان "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ".. وفي الحقيقة حتى حديث النفس محاسب عليه "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ..".
    4. داخل الإنسان وخارجه يقومان على الثنائية.. فالإنسان مكون من نفس ومن روح، وله عقل وله قلب، وجوارحه وحواسه ثنائية، وكذلك خطاب القرآن له، وإدراكه هو للقرآن يقوم على هذه الثنائية في تكوينه، فعندما يقول تعالى مثلاً "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" فالذكرى حسب الآية للقلب في المكان الأول، ثم للعقل في المكان الثاني فقوله تعالى (أو ألقى السمع وهو شهيد)، يعني استمع وهو حاضر الذهن.. وهذه إشارة للعقل.. فالقلب هو منطقة الإدراك الوتري، والعقل منطقة الإدراك الشفعي.. والإدراك الشفعي هو منطقة الحق، وهي منطقة ثنائية، فالحق ضده الباطل.. والإدراك الوتري هو منطقة الوحدة، منطقة حقيقة، والحقيقة لا ضد لها.
    5. وهنالك القرآن المكي والقرآن المدني، والاختلاف بينهما ليس فقط في مكان وزمان النـزول، وإنما هنالك اختلاف أساسي في مستوى الخطاب.. فالقرآن المكي يقوم على المسئولية، في حين أن القرآن المدني يقوم على الوصاية.. والقرآن المكي أقرب للتوحيد من المدني، وعليه يقوم عمل النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، ولذلك هو أصول القرآن، في حين أن القرآن المدني هو تنـزل لمستوى الأمة في القرن السابع الميلادي وعليه يقوم تكليفها، وهو دون مستوى القرآن المكي، ولذلك هو فروع القرآن.. والقرآن المدني ناسخ للقرآن المكي في حق الأمة.. والناسخ والمنسوخ من الوجوه الهامة في فهم القرآن، وهذه الأمور سنفصل فيها لاحقاً.
    6. إن أمر المثاني في القرآن هذا، هو من أهم مفاتيح فهم القرآن، وعليه ينبني حديثنا عن تصور الإنسان في الإسلام.. كما عليه يقوم الجانب العملي في تحقيق إنسانية الإنسان.
    القرآن بين التفسير والتأويل:
    يقول الأستاذ محمود: "القرآن لا يزال بكراً، لم يفض الأوائل من أختامه غير ختم الغلاف".. وختم الغلاف هذا هو ظاهر القرآن كما تعطيه اللغة العربية في التفسير، وهو المدخل على حضرة القرآن، وحضرة القرآن تكاد تكون كلها وراءه.. وحتى تفسير ظاهر القرآن، لا يمكن أن يتم بمجرد فهم اللغة وحدها، ولابد فيه من تعاون اللغة مع التوحيد.. واللغة إنما تأخذ دلالاتها من التجربة في الحياة، والتجربة في العبادة بالنسبة للقرآن.. فاللغة مصطلحات ليست لها دلالة تنبع من طبيعتها، وإنما دلالتها مستمدة من استخدامات المجتمع لها حسب تجارب هذا المجتمع، وتجارب أفراده، في الحياة، وفي استخدام اللغة.. واللغة _أي لغة_ لا تنفصل عن المتكلم والمتلقي للكلام، والموضوع الذي يتم نقله عن طريق اللغة.. والمتكلم في القرآن هو الله، والمتلقي هو الإنسان، والموضوع الأساسي في جملته هو معرفة الله.. فالأطراف الثلاثة مرتبطة بقضية التوحيد..
    بيان القرآن ليس على النبي، وإنما هو على الله، يقول تعالى: "فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا".. ويقول تعالى: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ".. "ثم إن علينا بيانه" تعني أن بيان القرآن على الله، وكلمة "ثم" تفيد التراخي في الزمن، فبيان القرآن يتم في الزمن، فكلّما علمنا من آيات الآفاق، ومن آيات النفوس، علمنا عن الله من القرآن، علماً جديداً، وهذا من غير انتهاء، في السرمد، وهذا هو معنى قوله تعالى: "يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ".. فشأنه هو إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه، ويومه هنا هو وحدة زمنية التجلي، وهي وحدة تدق حتى لتخرج من الزمن.. ففي كل لحظة الله تعالى يبدي ذاته لخلقه ليعرفوه، وهذا أمر إلى غير انتهاء، وجميعه من القرآن..
    نخلص من كل ذلك إلى أن فهم القرآن حتى في أبسط مستوياته، في مستوى التفسير، في حدود ما يعطيه ظاهر اللغة، لا يكون إلا عن طريق التعاون بين اللغة والتوحيد، فالتوحيد هو الذي يفيض المعاني على اللغة، ففهم القرآن، وتفسيره في المستويات المختلفة يقوم على: اللغة، والمعرفة النظرية بعلوم القرآن، والتوحيد الذي يقوم على التجربة الفردية في العبادة والمعاملة (التقوى)، وثقافة العصر.. وتخلف أي عنصر من هذه العناصر، يؤثر على فهم صاحبه للقرآن.. وهذه العناصر ليست متساوية في قيمتها، فالتوحيد هو الأكثر أهمية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: "وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".. فالتقوى هي إعداد لأواني المعرفة _العقل والقلب_ لتلقي المعرفة، عن طريق تنظيف هذه الأواني، وتوسيعها، وشحذها، وبالتالي زيادة طاقاتها لتلقي المعرفة، وزيادة سرعتها في التلقي، يقول تعالى: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ".. "فرقاناً" يعني نوراً في عقولكم، تميزون به، وتفرقون، بين قيم الأشياء.. ويقول تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" ، ولا سبل إليه تعالى، إلا سبل المعرفة.. ومما يؤكد أولوية دور التوحيد في فهم القرآن، قوله تعالى في حق المشركين: "وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا".. فمشركو العرب هم أهل اللغة العربية، ولو كان القرآن يفهم عن طريق اللغة وحدها، لكانوا هم أولى الناس بفهمه، ولكن شركهم جعل بينهم وبين القرآن حجباً، لا يفهمونه إلا إذا رفعوها.
    وأهمية ثقافة العصر لفهم القرآن تجيء من أهمية آيات الآفاق، وآيات النفوس، فنحن إنما نعرف الله بخلقه، فينا، وفي الأكوان، وقد جاء القرآن، بين دفتي المصحف معبراً عن هذا الخلق، فكلما عرفنا في الآفاق وفي النفوس، واتجهنا إلى الله بتوحيده، علمنا عنه تعالى، من القرآن.. ولما كانت المعرفة بطبيعتها تراكمية، خصوصاً بالنسبة للآفاق، فإن حظ اللاحقين منها، في الغالب، أوفر بكثير من حظ السابقين، ولذلك فرصهم في فهم القرآن أكبر.. والفرق بين معرفة الأوائل لآيات الآفاق، ومعرفة المعاصرين لها، هو كالفرق بين استخدام الحواس المجردة في معرفة الأكوان، عظيمها ودقيقها، واستخدام الوسائل العلمية الحديثة.. فمن يستخدم العين، مثلا، في معرفة الأكوان، عظيمها ودقيقها، معرفته لا تساوي شيئاً بالنسبة لمن يستعمل الوسائل العلمية الحديثة، كالمراصد الفلكية الحديثة، والمجاهر الحديثة، وعلى ذلك قس كل معرفة متعلقة بالآفاق.
    يقول الأستاذ محمود: "وللقرآن تفسير، وله تأويل.. وبين التفسير والتأويل اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. فالتفسير قاعدة هرم المعاني، والتأويل قمته.. وتتفاوت المعاني بين القاعدة والقمة، من صور الكثافة إلى صور اللطافة.. فلكأن التأويل هو الطرف اللطيف من التفسير. وقمة هرم المعاني عند الله، حيث لا عند"، ولذلك السير في المعرفة، في إطار القرآن سير سرمدي لا انتهاء له.. وهو سير يقع جله في منطقة التأويل، وليس في منطقة التفسير.. فالتفسير يتناول القرآن فيما تعطي ظواهر الكلمات العربية.. وهذا حظ مشترك، أو يكاد يكون مشتركاً بين العارفين.. ثم تتفاوت حظوظ العارفين من القرآن في التنـزلات، من منـزلة صفة الكلام، إلى منزلة صفة الحياة.. والصورة العامة لهذا التفاوت ما حكته الآية: ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)، إلى أن ينتهي العلم إلى (علام الغيوب)، في معنى الآية: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب، إلا الله).. وهذا هو مستوى التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، ويؤمن به الراسخون في العلم: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ، وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب)..
    ولقد أخطأ قوم، فظنوا أن التأويل من حيث هو، لا يعرفه إلا الله، وهذا غير الحق لأن معرفة العارفين لا تنقطع إلا عند الذات، فإنه، في حضرة الذات مبلغ العلم الحيرة.. وفي الحيرة خير كثير.. لأن بها يعرف العقل قدر نفسه.. و(من عرف نفسه فقد عرف ربه).. وقد اعتصمت الذات العلية عن أن يعرفها أحد معرفة استقصاء، وإحاطة، لأنها تفردت بالوحدة المطلقة، فليست ذات تشابهها، فتعرفها، ولذلك فقد قيل: (لا يعرف الله إلا الله). وإنما من ههنا، جاء قوله تبارك وتعالى، في الآية التي أوردناها قبل قليل (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).. فالغيب هنا هو الله، في إطلاق ذاته، فإنه لا يعلمه أهل السماوات، ولا أهل الأرض.. أما مستويات التأويل دون هذا المستوى، فهو يتعلق بتنـزلات الذات، من صرافتها إلى مراتب الصفات.. وهذه الصفات أعلاها صفة الحياة وأدناها صفة الكلام.. فالله تعالى حي، وعالم، ومريد، وقادر، وسميع، وبصير ومتكلم.. وهو حي بذاته، وعالم بذاته، وقادر بذاته، ولا يقع منه شيء من هذه الصفات بجارحة، على نحو ما يقع منا نحن.. ومعاني القرآن الذي بين دفتي المصحف هي تعبير عن هذه الصفات، وللقرآن، في كل منـزلة من منازل الذات السبع هذه، معنى يختلف اختلاف مقدار عن سابقه.. ونحن في البداية لا نعرف إلا طرفاً مما يعطيه ظاهر اللفظ.. وهذا هو ظاهر القرآن، وهو منطقة الشريعة الظاهرة.. ثم تدق معاني القرآن صعوداً، من مستوى ما يحوي اللفظ من معانٍ، إلى مستوى ما يعطي اللفظ من إشارة.. إلى مستوى ما تعطي الإشارة، إلى مستوى تنقطع فيه العبارة والإشارة.. وهذا هو السر في أن القرآن اُفْتُتِحت تسع وعشرون من سوره بأحرف الهجاء.. وهذه الحروف هي قمة هرم المعاني، في حين تكون الكلمات قاعدة هذا الهرم..
    يتضح مما تقدم أن تنـزلات الذات هي نفسها تنـزلات القرآن، وأن التأويل هو ارتقاء، وصعود في سلم هرم المعاني، وهو ليس مجرد خواطر، وإنما هو واردات عقل تأدب بأدب الشريعة، ثم بأدب الحقيقة.
    والتفسير مشمول في التأويل، بمعنى أن كل تأويل يجب أن لا يتجافى مع ظاهر النص، وكل ما هنالك أن الكلمات تنتقل إلى دقيق المعاني، ولطيفها، بدل غليظها، وكثيفها..
    وقضية التأويل كلها هي قضية المعرفة، والمعرفة في جميع صورها، هي معرفة الله في تنزلاته في مراتب القرب من العباد ليعرفوه، حتى إذا انتهى الأمر في العروج إلى الذات انبهمت السبل، وظهر العجز، ووقعت الحيرة، وجاء معنى قوله تعالى: "وما يعلم تأويله إلا الله".
    إن معاني القرآن لا تستنفد، وان الأوائل لم يدركوا منها إلا ما يناسب طاقتهم وحاجتهم، وأن هنالك من معاني القرآن ما هو مدخر لمستقبل البشرية، لتحقق به كمالاتها، وتدخل به عهد إنسانيتها.. والمعصوم يقول عن القرآن، في حديث يرويه علي بن أبي طالب: "ألا إنها ستكون فتنة!! فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله!! فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.. هو الفصل، ليس بالهزل.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم.. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد.. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".. فهو لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد لما فيه من قابلية، لإعطاء الجديد من المعاني، في كل حين، حسب استعداد المتلقي، وطاقته العرفانية، المستمدة من حكم الوقت، ومن إعداد أوانيه للتلقي بمقتضى عروجه في معارج التقوى، وهو عروج وضع الإسلام وسائله، وسبله البينة، وجعل حياة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطريق، الموطأ الأكناف، والميسر لهذه السبل.. فحياة محمد هي التجسيد الحي للقرآن، والنموذج المصفى للتخلق به، ولذلك هي المفتاح لفهم مغاليق القرآن.
    وللمزيد من تصور فهم علاقة القرآن بالإنسان.. وتصور سعة القرآن، وتعبيره عن الوجود الحادث، في جميع مستوياته، نورد هنا، حديث الأستاذ محمود عن الحروف.. فقد جاء من أقواله في هذا الصدد ما نصه: "والحروف تعتبر هي مرحلة الإشارة في القرآن، بعد أن ضاقت العبارة عن المعانى، وهي تتسامى، من المحدود إلى المطلق، في شكل هرمي، قاعدته العبارة التي، بحسب اللغة، لا تحتمل إلا وجها واحدا.. وقمته عند الذات المحدثة – (الحقيقة المحمدية) التي هي أول قابل لتجليات الذات الساذج.. وعن العبارة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا من عبارات القرآن، جاء قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.. فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ، وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ.. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا.. وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ).. (آيات محكمات، هنّ أم الكتاب) هذه الآيات، عليها اعتمدت الأحكام، وهي، بحسب اللغة، لا تكاد تحتمل إلا وجها واحدا.. هذه الآيات، هي قاعدة العبارة.. وعن قمة العبارة جاءت كلمة (الله) وهي ليس لها من خصائص العبارة إلا كونها كلمة، وإلا، فهي أدخل في الإشارة، منها في العبارة، لأنها، وإن كانت كلمة، فإنها غير مشتقة، ولذلك فلا معنى لها محدود.. وهي، من وجهها الذي يلي المحدود، موصوفة بالأحدية، ومن وجهها الذي يلي المطلق، لا توصف، ويصبح معناها في غيرها.. لأنها إشارة إلى الإطلاق..
    ومرحلة الإشارة بالحروف تقع في مضمار هذا الإسم الشريف، بين قاعدته الموصوفة بالأحدية، وقمته التي تتنزه عن الوصف، والتي تظل، سرمديا، مفتوحة على الإطلاق، تستوعب في كل جزئية زمنية طرفا منه، فتقيده .. ولمرحلة الإشارة بالحروف قاعدة، ولها قمة.. فأما قاعدتها فهي الحروف الرقمية.. وأما قمتها فهي الحروف الفكرية.. وتقع بين هذه القمة، وتلك القاعدة، الحروف الصوتية.. فكأن الحروف على ثلاث مراتب: رقمية، وهي تتكون من الثمانية والعشرين حرفا، التي تشتمل عليها الأبجدية في اللغة العربية.. أولها الألف، وآخرها الغين.. وهذه الحروف الثمانية والعشرون وهي بعدد منازل القمر، منها أربعة عشر حرفا نورانية، وهي: أ ـ ل ـ رـ ك ـ هـ ـ ي ـ ع ـ ص ـ ط ـ س ـ ح ـ م ـ ق ـ ن، وقيدها في افتتاحيات السور: ألر.. كهيعص.. طس.. حم.. ق.. ن، ومن هذه الحروف النورانية، الأربعة عشر، أفتتحت تسع وعشرون سورة، على أربع عشرة تشكيلة، هي: (ألم).. (ألمص).. (ألر).. (ألمر).. (كهيعص).. (طه).. (طسم).. (طس).. (يس).. (ص).. (حم).. (حم ـ عسق).. (ق).. (ن)..
    ومنها أربعة عشر حرفا، ظلمانية، هي بقية حروف الهجاء الثمانية والعشرين.. ومن هذه الحروف الرقمية، النورانية منها والظلمانية، يتألف الكلام الظاهر.. والكلام الظاهر هو لغة العقل.. ولغة العقل إبتدأت بالكلمات الصوتية _الكلمات التي تحكي الصوت_ ثم تطورت هذه الكلمات في المعاني، حتى أصبحت تعبر عن دقائق خلجات النفس البشرية.
    وأما الحروف الصوتية، فهي لا حصر لها، وذلك لأنها تنتج عن حركات المتحركات، وكل ذرات المادة في حركة ما تنقطع .. ويقابل عددها في الخارج عدد مماثل في داخل النفس البشرية.. وهي، في ذلك، المسموع منها، وغير المسموع، تؤلف الخواطر التي تجيش في العقل الواعي، وفي طرف العقل الباطن، مما يلي العقل الواعي، مما تصح تسميته بالعقل شبه الواعي ..
    وأما الحروف الفكرية، فهي ملكوت كل شيء.. وهي كلمات الله التي قال عنها، جل من قائل: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).. ومن هذه الحروف الفكرية، تتكون الخواطر المستكنة في العقل الباطن.. وفي سويدائه الحقيقة الأزلية، وعلى حواشيه الدين.. والحقيقة الأزلية (وترية)، وإلى الدين تنتهي الحقيقة (الشفعية)، وهذه نهاية إدراكات العقول، وهي، من ثم، نهاية الحروف الفكرية ..
    وإلى الحروف الرقمية، والحروف الصوتية، والحروف الفكرية، وردت الإشارة بقوله تعالى (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر، وأخفى) فالقول المجهور به يقابل الحروف الرقمية، والسر، المنطوي عليه الضمير يقابل الحروف الصوتية.. وأما الحروف الفكرية، فيقابلها سر السر... ومن هذه الحروف الفكرية ما لا يسمع إلا بالحاسة السابعة، ولقد تحدثنا عن الحاسة السابعة في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابنا (رسالة الصلاة)، فليراجع في موضعه.. وللاستزادة من الحديث عن الحروف، يمكن مراجعة الباب الخامس، من كتابنا (الرسالة الثانية من الإسلام).
    وعند دقة الحروف الفكرية، ولطفها، يحصل، الفينة بعد الفينة، عجز العقل عن التفكير.. وعندئذ يقع الشهود الذاتي، إذ تباشر الذات المحدثة، الذات القديمة، بغير حجاب بينهما" ..
    على حديثنا هذا عن القرآن، ينبني عرضنا لقضية تصور الإسلام للإنسان.. فالقرآن هو كتاب الإنسان، كما ذكرنا.. هو كتاب الإنسان في الأعالي وفي الأداني.. في الملكوت وفي الملك.. والقضية كلها تقوم على ما يعطيه التوحيد من تصور للوجود وللإنسان.. وهو تصور متصل، فيه تنبني معرفة الإنسان، بصورة كلية، على ما يعطيه التوحيد من معرفة للوجود.. ولهذا الاعتبار نحن سنبدأ حديثنا عن الإنسان بالحديث عن الوجود، وطبيعته، وما يقوم عليه من قوانين، وما يهدف إليه من غايات.. وسنرى أن أصل الإنسان وطبيعته لا ينفصلان، عن أصل الوجود وطبيعته، ولذلك عندما نتحدث عن الوجود نحن نتحدث عن الإنسان، بصورة أساسية.
    عن العلاقة بين الإنسان والكون يقول الأستاذ محمود: "كل ذرة من ذرات الكون، أرضه وسماواته، المرئي منها، وغير المرئي، والمعروف منها، وغير المعروف، له مقابل في بنية الإنسان ـ قلبه، وجسده، وعقله.. ذلك بأن الله، تبارك، وتعالى، قد خلق الكون على صورة الإنسان، وخلق الإنسان على صورته هو سبحانه وتعالى، ولقد قال المعصوم: (إن الله خلق آدم على صورته..)..".. واضح من عبارة (قد خلق الكون على صورة الإنسان)، أن الإنسان هو الأصل، والكون صورة له، ولذلك لا يختلف عنه اختلاف نوع.. وهذه الحقيقة، ينبني عليها الكثير جداً، من فهم الإنسان.. وهذه الحقيقة هي على العكس مما تقوم عليه الحضارة الغربية، التي تجعل الكون المادي هو أصل الإنسان، وعلى هذا التصور، يصبح أصل الإنسان بالضرورة مادي، وكذلك طبيعته..
    وحسب التصور الغربي، الإنسان أتى من النقص، وعلى العكس من ذلك، التصور الإسلامي يقوم على أن الإنسان أتى من الكمال!! فعندما نتحدث عن الكمال الإنساني، نحن لا نتحدث عن شيء جديد تماماً، وإنما نتحدث عن عودة الإنسان إلى أصله الذي كان عليه ابتداءً!! كل الاختلاف يأتي من أن هذا الأصل كان في الملكوت، في عالم الروح.. والعودة إليه، إنما تكون في الأرض، في الجسد، في اللحم والدم.
    مما تقدم، يتضح بصورة جلية أننا إزاء تصورين، بينهما اختلاف جوهري، فالحضارة الغربية تقوم على العلمانية.. والعلمانية تتعلق بمعرفة الأكوان.. والإسلام يقوم على التوحيد، والتوحيد هو معرفة الله.. وبين المعرفتين تكامل، فالأكوان هي وسيلة الإنسان، لمعرفة الله وسيره إليه.. وهذا يستوجب التنسيق بين المعرفتين، مع مراعاة أن العلمانية وسيلة، ومعرفة الله _العلمية_ هي الغاية.. والفرق بين العلمانية، والعلمية، هو أن العلمانية علم ناقص، علم يتعلق بالظاهر فقط.. يقول تعالى، عن هذا العلم: "وَعْدَ اللَّهِ، لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ".. أسماه علم، ونفى عنه أنه علم!! قال (لا يعلمون)، ثم قال (يعلمون ظاهراً).. وهذا الظاهر هو المادة، كما تدركها حواسنا.. فالعلمانية تتعلق بالكون المادي، كما أنها تتعلق بالحياة الدنيا _الحياة السفلى_ حياة الحيوان، وتغفل عن الحياة الأخرى، الحياة العليا، وهي حياة الإنسان.. وسيظهر الاختلاف الكبير بين الحياتين من متن الكتاب.
    دعوة الأستاذ محمود للإسلام، هي دعوة للخروج من الطريق العلماني، الذي عليه الحضارة القائمة، إلى الطريق (العلمي).. والطريق العلمي، لا يستغني عن العلمانية، وإنما يضعها في موضعها، وهو موضع الوسيلة.. الحياة الدنيا، وسيلة للحياة الأخرى _ حياة الإنسان.. وهذه الأخيرة هي وحدها الغاية في ذاتها.. ولا سبيل للحياة العليا، إلا عبر الحياة الدنيا.. فمن استغنى بالدنيا عن الآخرة فقد ضل ضلالاً بعيداً.. فهو قد استغنى بالوسيلة عن الغاية!! ومن حاول أن يطلب الآخرة بدون الدنيا فقد ضل، أيضاً.
    الحضارة، العلمانية المادية، الآلية، الحاضرة، هي حضارة عملاقة، في مجال الحضارات، ولكنها فقيرة جداً كمدنية!! وعلى ذلك، هذه الحضارة، تحتاج إلى مدنية جديدة تنفخ فيها الروح، وتوجهها الوجهة الجديدة، التي تجعلها وسيلة لأنجاب الإنسان، بها يحقق إنسانيته، وكماله.. وهذا ما نحن بصدده.
    29/1/18م























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de