عرض كتاب الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاذ خالد الحاج عبدالمحمود الحلقة الثامنة عشر

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 06:54 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-04-2018, 06:36 PM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض كتاب الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاذ خالد الحاج عبدالمحمود الحلقة الثامنة عشر

    05:36 PM November, 04 2018

    سودانيز اون لاين
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
    الوجود في الإسلام
    الفصل الثامن
    نظرة مقارنة
    الاختلاف الأساسي بين الإسلام والحضارة الغربية، حول تصور الوجود، هو الاختلاف حول المطلق.. فكل شيء، حسب الإسلام، ينبني على أن الذات الإلهية المطلقة، هي أصل الوجود، وكل ما عداها يرجع إليها، وهو قائم بها، وتجلٍّ من تجلياتها، وفي حاجة مطلقة إليها، ولا يستطيع أن يستغني عنها ولو للحظة واحدة.. هذا، في حين أن الذات، غنية عن العالمين بصورة مطلقة.. والإطلاق المعني، هو إطلاق كمال، وهو إطلاق حقيقي، يجل عن أن يلحق به العجز، والقصور، بأي وجه من الوجوه.. هذا المطلق هو الثابت الوجودي الوحيد، والذي إليه ينتهي وجود كل موجود، ومنه يستمد وجوده.. ولذلك، الخير والكمال، هما أصل الوجود، وإليهما المصير الحتمي لكل موجود.. فهما الطبيعة الأصيلة في الوجود، وأي صورة سواهما هي مظهر لهما.. وهو مظهر يطلبهما بصورة دائمة، وهو صائر إليهما بصورة حتمية.
    والذات المطلقة رسمت للوجود الحادث بداياته ونهاياته، ووضعت له القانون الذي يسير وفقه، وتكفلت برعايته وكلأته، في كل مراحل سيره، وهو يطلبها.. فالوجود الحادث كله، من المطلق صدر وإليه يعود.. وهو، في جميع مظاهره، ومجالاته، يحكمه قانون واحد.. وهذا القانون هو يحكم، وينظم، عملية سير المحدود إلى المطلق، وهي عملية تتم في الزمن.. ولذلك لكل وقت من الزمن حكمه، في تحديد سير المحدود إلى المطلق.
    وفي طليعة الوجود الحادث، في سيره إلى المطلق يجيء الإنسان.. فالإنسان هو أصل الكون الحادث، وخلاصته وثمرته، والغاية منه.. والكون الحادث كله، في جميع تفاصيله، في حركاته وسكناته، يعمل عملاً واحداً، هو إعانة الإنسان، وإعداد المسرح له، ليكون (خليفة) المطلق، والنائب عنه، في رعاية بقية الكون الحادث، وتسيير أمره، وفق مرضاة خالقه.. وحتى يعين الخالق، الإنسان، في وظيفته التي خلقه من أجلها، وييسر مهمته، أشرف بذاته على إعداده، وخلقه ابتداء، مهيئاً لرسالته، ثم أمده بالوحي الملائكي، وبرسل البشر بالصورة التي اكتمل ختامها، على أكمل صورة، في القرآن، ونبوة النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.. فالقرآن، ليس هو كتاب المسلمين، كما يُعتقد، وإنما هو كتاب الإنسانية جمعاء.. ومحمد، في رسالته الأحمدية، هو رسول الإنسانية جمعاء.
    والقرآن، بين دفتي المصحف، هو كلام الله.. هو قصة الإنسان، والأكوان معبر عنها باللغة العربية لتيسير الإدراك للبشر.. وحياة محمد صلى الله عليه وسلم، هي مفتاح القرآن.. هي القرآن الحي.. ولقد رأينا أن الكون كله صُنع من مادة الفكر.. والقرآن إنما أنزل من أجل ترويض الفكر، حتى يرشد، ويفكر التفكير المستقيم، الذي يؤهله للسير الصحيح، في متاهات الوجود، نحو تحقيق غايته، مسترشداً في مسيرته بقدوة التقليد _محمد الإنسان_ القرآن الحي.. فالقرآن هو خارطة الوجود.. ومحمد هو مرشد السير، وفق هذه الخارطة.. والمسيرة كلها، تطلب المطلق، الذي توجهها إليه بوصلة التوحيد، وهو صفة المطلق، متنزلة إلى إدراك العقول.
    حسب الإسلام، الذات الإلهية، هي ما يعطي كل شيء دلالته، ووفق هذه الدلالة تتحدد المفاهيم بالنسبة لكل شيء، فلا شيء على الإطلاق، يمكن تعريفه بمعزل عن المطلق.. ولذلك، عندما نتحدث عن الإنسان، وعن الحياة، والفكر، والحرية...الخ، نحن نتحدث عن مفاهيم تختلف بصورة جذرية عن تصور الحضارة الغربية، وإطارها المرجعي _العلمانية_ لها.. وبالطبع هنالك ما هو مشترك، ولكنه لا يتعدى ظواهر الأشياء.
    هذه الصورة، التي ذكرناها أعلاه، ليس لها مقابل في الحضارة الغربية.. وأهم اختلاف، أنه لا يوجد مقابل، في الحضارة الغربية، للذات الإلهية، بالصفات التي ذكرناها عنها في هذا الكتاب.. وهذا يشكل جوهر الاختلاف بين تصور الإسلام للوجود، وتصور الحضارة الغربية له.. فالذات الإلهية، في الإسلام، هي الوجود الذي لا وجود غيره، كما رأينا في متن الكتاب، وهذا المعنى غائب تماماً عند الغرب، حتى بالنسبة للذين يؤمنون بوجود الله.. وعلى ذلك، نستطيع أن نقول، أنه لا يوجد ثابت وجودي، في الفكر الغربي.. ولما كان الوجود، الحادث، في جميع صوره، متحرك ومتغير، فإن إنسان الغرب، لا يملك أن يتصور الوجود إلا من خلال هذه الحركة والتغيير.. ولغياب الثابت الوجودي، فإن الحركة والتغيير، عند الغرب، ليس لهما غاية محددة، ولا هدف كلي معين.. وهذا بالطبع يشمل الإنسان.
    الوجود الإنساني، حسب تصور الحضارة الغربية، وجود عرضي، مثل وجود بقية الموجودات في الكون.. وهو وجود بلا معنى، ولا هدف نهائي.. وحسب الظاهر، هو وجود نهايته المحتمة الموت.. والموت، بالنسبة لهم، هو الصيرورة إلى العدم.. وهذا لا يعني أن جميع الغربيين، لا يؤمنون بالحياة بعد الموت.. بل، في الواقع هنالك من يؤمن بالحياة بعد الموت، مثل المسيحيين المؤمنين بمسيحيتهم، ولكن هؤلاء، بحكم طغيان العلمانية، أصبح عددهم قليلاً، وأصبح تصورهم للحياة بعد الموت تصوراً غامضاً.. المهم أن جميع الغربيين، من الناحية العملية، لا يعتبرون الحياة الأخرى، هي حياة أساسية.. وجميعهم، تقريباً، يرون أن الحياة الدنيا هي الحياة التي يعملون من أجلها طوال عمرهم.. فالحياة الدنيا، عندهم، هي الغاية، على خلاف الأمر بالنسبة للإسلام، الذي يعتبر الحياة الدنيا وسيلة للحياة الأخرى.. والغالب على الفكر الغربي، أن الحياة ظاهرة بيولوجية تنتهي بالموت.. وهذا يشكل الاختلاف الأساسي، بين مفهوم الإنسان، ومفهوم الحياة في الإسلام، وفي الحضارة الغربية.. ففي الإسلام: كما سبق أن رأينا، الحياة خالدة بطبيعتها، والمتغير هو صور الحياة.. وتغير الحياة في صورها، هو تطور في مراقي الحياة، في عودتها إلى أصلها، عند الحي المطلق الحياة، وهذه مسيرة سرمدية، لأنه ليس للمطلق نهاية فتبلغ.
    على عكس الإسلام، في الحضارة الغربية، الشر في أصل الوجود، ومصير كل موجود.. فطالما أن الموت _أبو جميع الشرور_ هو النهاية الحتمية، فلا مهرب من الشر.. ولغياب الثابت الوجودي في الفكر الغربي، بالصورة التي ذكرنا عن الإسلام، فلا مجال لتخطي عتبة الشر، دون تخطي الإطار المرجعي للفكر الغربي.
    الإنسان، في الحضارة الغربية، كائن عرضي، بائس، قذف به في هذا الوجود، دون إرادته، وهو سيخرج من هذا الوجود دون إرادته أيضا.. وبين الدخول والخروج يعيش حياة بائسة، تُعرف نهايتها المحتومة، وهي حياة بلا معنى، ولا هدف نهائي، وهذا هو أكبر، وأخطر، جوانب بؤسها.. ففي إطار هذه الحياة، العرضية، المحدودة، ليس أمام الإنسان سوى أن يشبع حاجات حياته المادية، كبقية الأحياء دونه.. ولكن حتى هذه، إشباعها غير ممكن، طالما أن الأسئلة عن وجوده، تلح عليه وتؤرقه.. فطالما أن الإنسان جسد وروح (فكر)، فلابد من إشباع حاجتي الروح والجسد معاً، ولا مجال لإشباع واحدة منها دون الأخرى.. ولقد سبق لنا أن أوردنا بعض أقوال المفكر الأمريكي اريك فروم، في هذا الصدد، في كتابنا (العصر الذهبي للإسلام أمامنا).. ومنها قوله: (لم يقترب الإنسان في يوم ما من تحقيق اعز أمانيه، مثلما اقترب اليوم.. فكشوفنا العلمية وإنجازاتنا التقنية تمكننا من أن نرى رأي العين اليوم الذي تمد فيه المائدة لكل من يشتهون الطعام.. اليوم الذي يؤلف منه الجنس البشري مجتمعاً موحداً، فلا يعود يعيش في كيانات منفصلة. وقد اقتضى الأمر آلاف السنين حتى تفتحت _على هذا النحو_ ملكات الإنسان الذهنية، وقدراته النامية على تنظيم المجتمع وتركيز طاقاته، تركيزاً هادفاً. وهكذا خلق الإنسان عالماً جديداً له قوانينه الخاصة ومصيره. فإذا نظر إلى ما أبدعه حُق له أن يقول أن هذا الذي أبدعه شيء حسن).. إلى أن يقول: (ولكن ماذا يستطيع أن يقول إذا نظر إلى نفسه؟ هل اقترب من تحقيق حلم آخر هو (كمال الإنسان)؟ الإنسان الذي يحب جاره، ويحكم بالعدل، وينطق بالصدق، محققاً ماهيته، أي أن يكون صورة للإله. إثارة السؤال تدعو للحرج، لأن الإجابة واضحة وضوحاً أليما، فبينما خلقنا أشياء رائعة، أخفقنا في أن نجعل أنفسنا جديرين بهذا الجهد الخارق، وحياتنا حياة لا يسودها الإخاء والسعادة، والقناعة، بل تجتاحها الفوضى الروحية والضياع الذي يقترب اقتراباً خطراً من حالة الجنون، وهو جنون لا يشبه الجنون الهستيري الذي وجد في العصر الوسيط، بل هو جنون شبيه بانفصام الشخصية، ينعدم فيه الاتصال بالواقع الباطني، وينشق فيه الفكر على الوجدان).. ويقول: (ولكن هل يسمع أطفالنا صوتاً يرشدهم إلى أين يتجهون، وما الهدف الذي يعيشون من أجله؟ إنهم يشعرون على نحو ما _كما يشعر الناس جميعاً_ أنه لابد للحياة من معنى ولكن ما هو؟ هل يجدونه في التناقضات، وفي الكلام المزدوج الدلالة، وفي الاستسلام السافر الذي يلتقون به عند كل منعطف؟ إنهم مشوقون إلى السعادة والعدالة والحب، والى موضوع للعبادة، فهل نحن قادرون على إشباع شوقهم؟ عاجزون نحن مثلهم. بل إننا لا نعرف الإجابة لأننا نسينا أن نسأل السؤال.. ونزعم أن حياتنا قائمة على أساس متين ونتجاهل ظلال القلق والهم، والحيرة التي تغشانا فلا تريم)..
    كثيرون هم الذين تناولوا أزمة المعنى والهدف، من مفكري الغرب، وبصورة فيها الكثير من العمق.. وعلى رأس هؤلاء، إلى جانب إريك فروم يأتي: أرنولد توينبي، وألبرت اشفتنيسر، خصوصاً في كتابه (فلسفة الحضارة).. وكولن ويلسون، وخصوصاً في كتابه (سقوط الحضارة)، وكتابه (اللامنتمي).. وويليام فان دوزن ويشارد William Van Dusen Wishard، خصوصا في كتابه (Between Two Ages) _لم أقف له على ترجمة عربية_ ولكن هنالك كراسة مختصرة حول الكتاب، أصدرتها المكتبة الأكاديمية بالقاهرة، عرض صبحي رجب عطا الله..
    وقدم هؤلاء، وغيرهم، بياناً واضحاً للمشكلة، وأبعادها، ولكن المشكلة في الحل.. والحل مستحيل في إطار تصور الوجود الذي يقوم على إطار التوجيه الذي تقوم عليه (العلمانية)، وتصورها المادي للوجود، فلابد من تجاوز هذا التصور تماماً.
    المادية:
    لقد سبق لنا أن فصلنا بعض الشيء، في موضوع المادية، ونحن نعود إليه هنا، في إطار المقارنة بين الإسلام والحضارة الغربية.. يمكن أن يقال أن المادية هي العنصر الأساسي الذي شكل نظرة الحضارة الغربية للوجود، واليها ينتهي توجيه الفكر وتوجيه الحياة معاً، في هذه الحضارة.. ولذلك المادية هي السمة الأساسية لهذه الحضارة.. ولقد وجدت المادية الدعم القوي من العلم المادي التجريبي، الأمر الذي أدى إلى ترسيخها، وتوسيع دائرتها، لتشمل جميع نواحي الحياة.. ولكل حضارة من الحضارات تصورها الخاص بها للكون، وهذا التصور هو نظرة عامة يفهم وفقاً لها كل شيء، وتتحدد معايير القيم.. فالتصور السائد في الحضارة المعينة، هو الذي يحدد معالمها، ويربط بين معارفها، ويعطيها منهجها المعتمد، في الفكر، وفي أسلوب الحياة.. يقول روبرت م. اغروس وجورج ن. ستانسيو، في كتابهما (العلم في منظوره الجديد): (لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقاً لها كل شيء ويقيم. والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد لها معالمها، ويشكل اللُّحمة بين عناصر معارفها، ويجلي منهجيتها، ويوجه تربيتها. وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به. وتصورنا للعالم هو من الأهمية، بحيث لا ندرك أن لدينا تصوراً ما، إلا حين نواجه تصورا بديلا إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا في طور التحول)..(13 ص 15).. هذا التصور، هو الدين الذي تقوم عليه الحضارة، ويوجه سلوك أفرادها، ويعطيهم تصوراتهم الأساسية للوجود وللحياة، والفكر، وفي إطاره، وعلى ضوء مسلماته، تتحدد الوسائل والغايات.. وفي كثير من الحالاتٍ يجري هذا دون وعي حقيقي به، من الأفراد والجماعات.. وعن هذا الدين يتحدث تعريف اريك فروم الذي يقول فيه: (إنني أفهم الدين بأنه أي مذهب للفكر والعمل تشترك فيه جماعة ما، ويعطي الفرد، إطارا للتوجيه، وموضوعاً للعبادة).. ويقول: (لا توجد بكل تأكيد حضارة في الماضي، ويبدو أنه لا يمكن أن توجد حضارة في المستقبل، دون أن يكون لها دين بهذا المعنى الواسع الذي يذهب إليه تعريفنا ومهما يكن من أمر، فلسنا بحاجة إلى الوقوف عند هذه العبارة الوصفية وحدها. ذلك أن دراسة الإنسان تسمح لنا بادراك أن الحاجة إلى مذهب مشترك للتوجيه والى موضوع للعبادة، هذه الحاجة تضرب بجذورها عميقاً في أغوار الوجود الإنساني).. ويقول: (ولأن الحاجة إلى مذهب التوجيه والعبادة، جزء جوهري من الوجود الإنساني، يمكننا أن نفهم عرامة هذه الحاجة. والحق أنه لا وجود في الإنسان لمصدر للطاقة أقوى من هذا المصدر).. راجع كتابنا (العصر الذهبي للإسلام أمامنا..
    ودين الحضارة الغربية، بهذا المعنى المذكور، هو العلمانية، وهي في جوهرها تقوم على المادية.. فالمادية، أو الدنيوية، بصورة عامة هي التي توجه سلوك أفراد الحضارة جميعهم، مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية المعلنة، سوى أن كانوا مسيحيين أو مسلمين أو علمانيين، أو ينتمون إلى دين من الأديان الأخرى.. فالدين الرسمي المعلن، هو قناع، يخفي وراءه المادية، فهي التي توجه فكر وسلوك الأفراد، مهما كان شكل القناع.. فالناس اليوم، في هيمنة الحضارة الغربية السائدة، على مستوى الكوكب الأرضي كله، دينهم الحقيقي، واحد، هو الدنيوية، وما تقوم عليه من تصور مادي.
    قلنا أن المادية، وجدت سندها الأساسي في العلم، الذي ساد في العالم، منذ عهد نيوتن والى نهاية القرن التاسع عشر.. وقد حدث تحول كبير، وأساسي في العلم منذ بداية القرن العشرين، الأمر الذي جعل الكثير من العلماء والمفكرين، يفرقون بين نظرتين علميتين: النظرة العلمية القديمة، والنظرة العلمية الجديدة.. والنظرة العلمية القديمة، هي التي أعطت الحضارة الغربية تصورها للكون، وحددت لها إطار التوجيه.. يقول صاحبا كتاب (العلم في منظوره الجديد): (أما النظرة العلمية القديمة، فهي المادية العلمية التي تؤكد أن لا وجود إلا للمادة، وأن الأشياء جميعها قابلة للتفسير بلغة المادة فحسب، وهكذا يتحتم أن تكون حرية الاختيار وهماً من الأوهام ما دامت المادة غير قادرة على التصرف الحر. ولما كانت المادة عاجزة عن أن تخطط أو تهدف إلى أي شيء، فلا سبيل إلى العثور على حكمة وراء الأشياء الطبيعية، بل إن العقل ذاته، يعتبر نتاجاً ثانوياً لنشاط الدماغ)..(13 ص 125).. يقول برتراند راسل عن هذه النظرة المادية، التي سادت الحضارة الغربية: (لأن يكون الإنسان نتاج أسباب لا تملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات، ولأن يكون منشؤه ونموه وآماله ومخاوفه وصبواته ومعتقداته مجرد حصيلة ارتصاف ذرات عرضي، ولأن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولة أو أي حدة في التفكير أو الشعور، عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولأن يكون الاندثار هو المصير المحتوم لكل عناء الأجيال، ولكل التفاني، ولكل عبقرية الإنسان المتألقة، تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقاً غير قابلة للجدل، فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يستحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء وعلى ذلك لا يمكن بناء موطن الروح بأمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من ال################ المقيم)..(13 ص 16).. هذا ال################، الذي يتحدث عنه راسل، لا يمكن تجاوزه إلا بقيام نظرة جديدة للوجود، تتجاوز نظرة العلمانية المادية، الضيقة.. فمن أجل هذه النظرة، لابد من كسر قمقم المادية، الذي حبست فيها الحضارة الغربية، الوجود العام، والوجود الإنساني..
    هذه النظرة الجديدة بدأت بالفعل وقبل أكثر من قرن.. هي بدأت في مجال العلم المادي التجريبي بالذات، في نظرته الجديدة والتي حطمت قمقم المادية، في المجال النظري _المجال العلمي.
    كانت البداية، مع انيشتاين في عام 1905م في النسبية الخاصة، التي قضت بصورة نهائية على ركني الزمان المطلق والمكان المطلق، من أركان المادية الثلاثة.. فلم يعد إنسان، بعد ذلك التاريخ، يتحدث عن إطلاق الزمان والمكان، بالصورة التي كانت سائدة، في فيزياء نيوتن.. أما ما أثبتته النسبية، من تكافؤ بين الطاقة والمادة، فقد قضى بصورة نهائية على المادية علمياً.
    وجاء ارنست رزرفورد (1911م) ليثبت أن الذرة تتكون من نواة متناهية الصغر، يحيط بها حشد من الإلكترونات.. وقد فشلت كل محاولات الفيزيائيين في تفسير الذرة استنادا إلى فيزياء نيوتن، الأمر الذي أدى في النهاية، إلى التخلص من فيزياء نيوتن على المستوى الذري.. ثم جاءت ميكانيكا الكم، في العشرينات من القرن الماضي لتقضي بصورة نهائية على المادية، في المجال العلمي.. ومن المسائل الهامة، التي دخلت، نتيجة للنسبية وميكانيكا الكم، اعتبار المراقب جزءاً من العملية!! فلم يعد المراقب، مجرد متفرج محايد، كما كان الحال في الفيزياء الكلاسيكية.. يقول ماكي بور: (لا يمكن وصف أي ظاهرة طبيعية في مجال الذرات إلا بالرجوع إلى المراقب رجوعا لا إلى سرعته فحسب كما في حالة النسبية، بل إلى جميع أنشطته لدى قيامه بالمراقبة، وبتركيب الآلات وما إلى ذلك)..(13 ص 21).. وهكذا أصبح العقل جزءاً أساسيا في العملية العلمية (وعلى ذلك فإن نظرية النسبية وميكانيكا الكم تمثلان خروجاً مشتركاً بينهما على تفسير نيوتن، بإدخالهما العقل في المعادلة. ولقد حلت الفيزياء في القرن العشرين تدريجياً محل المذهب المادي بتأكيدها أن الفكر يقوم بدور جوهري في الكون.. وأنه لأمر مثير حقاً أن يصدر هذا التأكيد من علم الفيزياء. فلو قُدِّر للمادية أن تصادف نجاحاً في أي مكان لتوقع لها المرء أن تنجح في مجال دراسة المادة ذاتها)..(13 ص 23) ويقول فينغنر: (كان كل العلماء الطبيعيين إلى عهد غير بعيد ينكرون بشدة (وجود) العقل أو الروح. على أن النجاح الباهر الذي حققه علم الفيزياء الميكانيكية والفيزياء العامة بصورة أعم، وكذلك علم الكيمياء، قد حجب الواقع الجلي ذلك الذي يقول أن الأفكار والرغبات والعواطف ليست من صنع المادة. وكان مقبولاً عند العلماء الطبيعيين على نحو يشبه الإجماع أن لاشيء هناك سوى المادة)..(14 ص 23).. ويقول: (لقد كانت النظرة القديمة لا تتضمن إلا المادة والقوانين الطبيعية. أما النظرة العلمية الجديدة فمن المحتم عليها أن تتضمن المادة والقوانين الطبيعية والعقل)..(14 ص 23)..
    ولقد سبق لنا أن تحدثنا عن التحول الكبير الذي حدث في (السببية) العلمية.. كما تحدثنا عن (نظرية الانفجار العظيم) التي قضت على المادية من جانبها، بأن دللت على أن المادة ليست سرمدية، كما كان يزعم لها ، وإنما لها بداية.
    وهنالك صور أخرى من التطور العلمي، في مجال الأحياء، وعلم الأعصاب الحديث، تتكامل مع ما سبق ذكره في توكيد نهاية المادية.. وظهر (المبدأ الإنساني) Principle Anthropic وهو اتجاه في الفيزياء الحديثة مفاده أن الكون بظروفه الأولية، وبيئته العامة، وبتوحّد خواصه ونواميسه وبتاريخه المجيد، وبأبعاده الشاسعة، وبمعدل سرعة تمدده كان مهيئاً لتطور الحياة والمخلوقات الواعية في مرحلة من المراحل، وأن الإنسان هو محور الخليقة..(13 ص 150)..
    وكما بدأت إعادة الاعتبار لوضع الإنسان في الكون بدأت إعادة الاعتبار لله، فأصبحنا نسمع العلماء يقولون عكس ما كان يقوله لابلاس، في قوله الذي أوردناه عنه.. ومن ذلك مثلاً قول الفيزيائي ادموند ويتيكر، الذي جاء فيه: (ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم).. ويقول الفيزيائي ادوارد ميلن: (أما العلة الأولى للكون في سياق التمدد فأمر إضافتها متروك للقاريء.. ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله).. (13 ص 64)..
    ويقول صاحبا كتاب (العلم في منظوره الجديد): (أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن للكون بمجموعه _بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان_ حدث وقع في وقت واحد، وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام، لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء، يمكن أن يوجد الآن.. فالعدم لا ينتج عنه إلا العدم _والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجودا على الدوام، لأنه كان للمادة بداية، وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة. ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي)..(13 ص 64)..
    لقد شهدت الفترة الأخيرة من القرن العشرين، وبداية القرن الحالي، حركة تحول كبير من الإلحاد إلى الإيمان.. وكان على رأس من تحولوا إلى الإيمان، أستاذ الفلسفة البريطاني سير أنتوني فلو، الذي كان يعتبر زعيم الملحدين في القرن العشرين.. وقد أصدر حوالي الثلاثين كتاباً، في موضوع الإلحاد، وقد تحول فلو إلى الإيمان بعد أن بلغ الثمانين من عمره.. وأعلنت مجلة تايم الأمريكية في عام 2004م، خبر تخليه عن الإلحاد بقولها: (على رأس الاكتشافات العلمية المبهرة في العصر الحديث، يأتي اكتشاف أن هنالك إلهاً)!! ويرجع السبب الأساسي، في العودة من الإلحاد إلى الإيمان، من بعد فضل الله، إلى الاكتشافات العلمية الحديثة.. فها هو، مثلاً، فرانسز كولنز، رئيس مشروع الجينوم البشري يقول: (أقول بيقين كامل أن القراءة الأولى للجينوم البشري، تتمشى وتتناغم مع الإيمان بالله)..(14 ص 285).. ثم ظهرت نظرية (التصميم الذكي)، التي تدحض مفهوم الصدفة والعشوائية، وتنتصر، لقضية تصميم الله للعالم، ومن مفكريها فرانسز كولنز.. يقول د. عمرو شريف: (لقد أصبح مفهوم التصميم الذكي نظرية علمية تتصدى لتفسير نشأة الكائنات الحية، وتدور حول أن طبيعة هذه الكائنات وطبيعة الجزيئات التي تتكون منها تحتاج في نشأتها، وفي بقائها، وفي عملها إلى ذكاء، وأنه لا يمكن للعشوائية أن تفسرها.. وقد امتد هذا المفهوم ليشمل العلوم المختلفة، لنشأة الكون، والذكاء الإنساني)..(14 ص 220).. ونظرية (التصميم الذكي) نظرية رائعة تقرب بين العلم والدين، وتسير بالعلم خطوة إلى الأمام، في الانعتاق عن قبضة المادية..
    ورغم كل هذا التحول العلمي الحاسم، لا تزال النظرة المادية، هي السائدة!! بل إن هيمنة المادية على الحياة، قد زادت بصورة رهيبة، بعد سيطرة الرأسمالية التي تقوم على مفهوم حرية السوق، في الاقتصاد العالمي، بعد سبعينات القرن الماضي!! فما هو السر في ذلك؟ يقول روبرت م. اغروس وجورج ن. ستانسيو: (لما كانت مادية النظرة القديمة تشكل الأساس الذي تقوم عليه جوانب شديدة التنوع من ثقافتنا، فقد اكتسبت هالة من الحصانة، بحيث لا تجدي مهاجمتها بالحجج، لأنها أشمل وأبعد مدى من أن تتأثر بهذا النوع من النقد. والسبيل الوحيد إلى إسقاطها عن عرشها هو الاستعاضة عنها بنظرة جديدة كل الجدة..)..(14 ص 144).. السبب، باختصار، هو عدم ظهور البديل!! لقد انتهت المادية، علمياً، بصورة حاسمة، ونهائية.. ولكن المادية عقيدة قوية، راسخة، ومتغلغلة في الفكر والحياة الإنسانية، منذ وقت طويل، فهزيمتها فكرياً، وعلمياً، ليست بالأمر الكافي للتخلي عنها، فلابد من ظهور البديل الذي يسد مكانها، بصورة جلية، وإلا فستظل المادية هي العقيدة التي توجه حياة الناس وفكرهم، برغم فشلها.. الناس، لا يعيشون في فراغ، والتحول عن العقائد الراسخة لا يتم بسهولة مهما ظهر باطلها، ما لم يظهر البديل الذي يستوعب طاقة الناس الفكرية، والحياتية، ويحل مشكلاتهم الأساسية، التي فشل إطار التوجيه القديم في حلها.
    لقد قدم الفكر المادي، كل ما يستطيع أن يقدمه للحضارة البشرية.. وتوج إنجازاته، بتحقيق أعظم حضارة عرفها التاريخ البشري، ووضع البشرية على أعتاب عهد جديد.. ولم يعد منذ نهاية القرن الماضي يملك أي شيء يقدمه، لحل مشكلات الإنسانية المعاصرة.. بل أصبح هو نفسه، من أكبر هذه المشكلات التي تحتاج إلى معالجة حاسمة، ومع ذلك لن يزايل مكانه إلا إذا جاء البديل الذي يكمل نقصه، وبه تبدأ المسيرة، من حيث توقف، إلى آفاق جديدة أكمل وأرحب.
    لقد أصبحت البشرية اليوم في مفترق طرق.. فنحن نعيش في أكبر منعطف في تاريخ الحضارة البشرية.. وبقاء البشرية على تصورها الذي يقوم على العلم في منظوره القديم، مع الظهور الواضح للمنظور الجديد، وجه من أوجه التناقض الأساسية التي أصبحت عليها حياة الناس في الكوكب الأرضي.. ولكنه وجه من عدة وجوه.. والتحدي الحاسم هو أن تطور العلم أدى إلى وحدة الكوكب الأرضي جغرافياً الأمر الذي خلق بيئة جديدة، تطالب التواؤم معها، بأن يتوحد البشر في الأرض فكرياً وخلقياً، حتى ينسجموا مع بيئتهم الجديدة، وهم لن يفعلوا ذلك إلا إذا رجعوا إلى أصل البيئة، وعلموا أنها بيئة روحية ذات مظهر مادي، وعملوا على التوائم مع مظهرها وجوهرها في آن معاً، وتخطوا بذلك عتبة النظرة القديمة، التي كانت ترى البيئة بيئة مادية فقط.. فبدون هذه العودة للأصل لا مجال للتصحيح، ولابد من التصحيح.. وقد صوّر الأستاذ محمود، المنعطف التاريخي، الذي تعيش فيه البشرية بقوله: (إن البشرية اليوم تقف في مفترق الطرق، ولا تملك طويلا من الوقت تنفقه في التردد وفي ممارسة الجهود التي لا تتسم بميسم الحذق والذكاء، ولا بد لها من سلوك أحد طريقيها: إما الطريق الصاعد إلى مشارف الحضارة والسلام، أو الطريق الهابط إلى مزالق الهمجية والحروب.. على أن الحروب الحديثة هي الفناء والدمار.. ومن أجل ذلك قلنا آنفا أن حاجة البشرية إلى السلام في الوقت الحاضر هي حاجة حياة أو موت)..
    والسلام لا يتحقق إلا بتجاوز المادية، وقيمها والعمل وفق إطار توجيه جديد، يصحح التصور الخاطيء للوجود.. أو قل إن (السلام لا يمكن أن يتحقق بغير مدنية جديدة.. أو قل روح مدنية جديدة، ينفخ في هيكل المدنية الغربية الآلية الحاضرة فيوجهها وجهة جديدة ويعطيها قيماً جديدة فالمدنية الغربية الآلية الحاضرة _مدنية المظاهر الخارجية الكبيرة، والإنتاجيات الكبيرة، والمدن الكبيرة.. هي مدنية الجماعات التي تطوع الفرد لنظامها.. والمدنية الجديدة، التي تجعل السلام ممكنا، يجب أن تكون مدنية القيم الداخلية الدقيقة.. مدنية الفرد الذي يتوسل بوسيلة الجماعة ليحقق حريته الداخلية وليمكن رفقاءه من أن يحقق كل منهم حريته هذه الداخلية).
    ولا مجال، لهذه المدنية، وهذه الحرية إلا إذا تحررنا من ربقة المادية، وخرجنا من قمقمها الضيق، إلى باحات الحرية الوارفة، على ضوء إطار توجيه جديد يصحح الخطأ الكبير، والخطير، لتصور الوجود، كما يعطيه إطار التوجيه السائد، وهو ما اتجهنا إلى تبيينه في هذا الكتاب، وهو، قبل هذا، ما عليه واقع الحال في كل كتابات الأستاذ محمود.

    4/11/18م






























                  


1 صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de