عرض كتاب الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاذ خالد الحاج عبدالمحمود الحلقة الرابعة عشر

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 05:00 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-20-2018, 03:11 PM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض كتاب الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاذ خالد الحاج عبدالمحمود الحلقة الرابعة عشر

    03:11 PM October, 20 2018

    سودانيز اون لاين
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
    الوجود في الإسلام
    الفصل الرابع
    وجود الانسان والأكوان ـ الخلق
    الأمر والخلق:
    الإنسان يميل إلى أن يتصور الله، وما يصدر عنه، بصورة تشبه تصوره لنفسه، وما يصدر عنها، ومن ها هنا يأتي الخطأ الكبير لتصورنا لله، ولفعل الله، ومن أجل ذلك نهانا الله تعالى، من أن نضرب له الأمثال، لأنه (ليس كمثله شيء) فقال:" فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" .. ففي موضوع الخلق، يتصور الانسان، أن خلق الله ، كخلقه هو ويأتي التشابه من أن كل شيء نصنعه نحن، لا يتم إلا بعد أن يكون قد نزل ثلاث نزلات: فنزلة إلى مرتبة العلم، وأخرى إلى مرتبة الإرادة، وثالثة إلى مرتبة القدرة.. وقد تكون هذه الثلاث نزلات منفصلة عن بعضها البعض، ومتميزة، وقد تكون مندمجة، ومتصلة.. ولكنها موجودة ثلاثتها، ذلك بأنك لا يمكن أن تصنع صنعة لا تعلمها، ولا أن تصنع صنعة لا تريدها، ولا أن تصنع صنعة لا تقدر عليها.. وهكذا صنع الله، هو أيضاً تنزل من العلم إلى الإرادة إلى القدرة، ولله المثل الأعلى.. ولما كان تعالى ليس مثلنا، فإن ذات الله، علمها قديم، وإرادتها قديمة، وقدرتها قديمة.. وهي لا تعلم بعقل كأحدنا، وإنما تعلم بذاتها، وتريد بذاتها، وتقدر بذاتها.. وهي لم تصنع العالم من مادة سابقة، كما نفعل نحن في صنعتنا، وإنما صنعته من لدنها، إذ لا يوجد شيء سابق على ذات الله، ولا شيء لاحق لها، ولا شيء معها.. ثم أن ذات الله، ليست في حاجة لمادة تصنع منها.
    فالخلق بالنسبة لله، هو تنزل.. تنزل من عالم الأمر، إلى عالم الخلق.. فمع عدم وجود شيء مع الله، وعدم حاجته، أصبح الخلق بالنسبة له أمراً.. يقول تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).. وموضوع (الأمر والخلق) في الإسلام، هو موضوع (القضاء والقدر).. فالقضاء هو عالم الأمر.. والقدر هو عالم الخلق.. يقول تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ* وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).. فالقضاء هو هذا الأمر الواحد الذي خرج عن الزمان والمكان، كما تفيد عبارة (كلمح بالبصر).. والقدر هو تنفيذ القضاء، وإبرازه في حيز الزمان والمكان، على مكث، وتلبث، وتطور.. والى القضاء والقدر وردت الإشارة، بقوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).. قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت) إشارة إلى القدر، وهي في ذلك إشارة إلى التطور، بتعاقب صور الكائنات.. وقوله (وعنده أم الكتاب) يعني القضاء، يعني سر القدر.. وإليهما أيضا الإشارة بقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).. قوله (وما ننزله إلا بقدر معلوم) تعني القدر.. وكلمة (ننزله) تعني أنه ينزل من القضاء، المشار إليه بقوله تعالى (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه).. فالقضاء منطقة وحدة، والقدر منطقة تعدد.. وبالنسبة للذات الإلهية، العلم والقدرة، ليسا شيئين مختلفين، كما هو الحال بالنسبة لنا _عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً.. فالعلم هو عين الإرادة، والإرادة هي عين العلم، والتفريق بينهما، إنما هو للتفهيم.. والمبدأ التوحيدي الأساسي، هو أنه لا تعدد بالنسبة للذات الإلهية.. عالم العلم والإرادة، هما عالم الأمر الواحد. وليس في المطلق تعدداً، وإلا أصبح محدوداً!!
    بدأ التعدد، بعد تقيّد المطلق.. وكانت بداية القيد هي التنزل إلى مقام الاسم (الله) .. وبذلك ظهرت الثنائية الذات والاسم.. والثنائية هي أعلى صور التعدد، وأقربها للوحدة.
    الاسم "الله" يطلق على معنيين: معنى بعيد هو ذات الله الصرفة _في صرافتها_ وهي أمر، كما سبق أن ذكرنا، فوق الإدراك، وفوق الأسماء، وفوق الإشارات، ولولا أنها تنزلت ما عرفت.. ومعنىً قريب، هو أول قابل لتجليات الذات، وأول تنزل عنها، إلى عالم الخلق، وهو مرتبة الانسان الكامل الذي أقامه الله خليفة له.. فكلمة الله، حيث قيلت تشير إلى هذين المعنيين: (التعيّن الأول) الذي ليس بينه وبين صرافة الذات أحد من الخلق، وإنما هو بين جميع الخلق وبين الذات.. وكل اسم أو صفة في القرآن، تفيد المحدودية، والعجز والقصور في أي مستوى من المستويات، هو في حق الاسم، وتتنزه عنه الذات.. ولذلك، فإن جميع الأسماء والصفات، تقوم بالتعيّن الأول، ثم هي تشير إشارة قاصرة مبهمة، إلى الذات الصرفة، التي هي فوق أن تسمى أو توصف، أو تعرف.. ولكن لضرورة المعرفة جاء التنزل.
    فمعنى التقيد في مرتبة الاسم، هو ظهور أول قابل لتجلي المطلق.. ومنه تنزلت المخلوقات وقد جاء القرآن ليحكي لنا قصة الخلق ، التي بدأت بالإنسان!!
    الإنسان أولاً:
    عندما تحدثتا عن الوجود الحادث، ونحن نتحدث عن الحضارة الغربية، جعلنا العنوان: الأكوان والإنسان، لأن هذا هو الترتيب في الفكر الغربي.. ولكن عندما جئنا لنتحدث عن الإسلام جعلنا العنوان: الانسان الأكوان، لأن الأمر في الإسلام عكس ما عند الغرب، الانسان قبل الأكوان، من حيث الأسبقية، ومن حيث الأهمية!!
    الوجود الحادث _الخلق_ في الإسلام، بدأ بالإنسان الكامل.. وهو هو التنزل إلى مقام الاسم.. والى ذلك الإشارة بحديث المعصوم، الذي يرويه جابر بن عبدالله، قال، قلت: (يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله.. قال: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر).. (فالذات المحمدية)، هي أول قابل لتجليات الذات الإلهية.. وهي المشار إليها بقوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).. وأحسن تقويم، هي أكمل صورة للخلق.. ومن صورة الكمال هذه، انفتقت الأكوان، فجاء بعد آية (أحسن تقويم) ، قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ).. فأحسن تقويم، هي منتهى القرب من الله، وهو مقام الانسان.. والقرب إنما هو قرب (صفات)، قرب (كمال).. وأسفل سافلين، هو مقام أبعد البعد عن الله _والبعد إنما هو بعد درجة في الصفات_ وهو أبسط صور المادة.. فالإنسان مخلوق بالذات، من لدنها، وفي ذلك يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ..).. النفس الواحدة هي نفسه تعالى، في المكان الأول.. وهي نفس الإنسان العليا، في المكان الثاني.. ومن نفس الإنسان العليا خلقت نفسه السفلى، المشار إليها بقوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين)، وهذه هي أقصى درجات الانحطاط، وهي أبسط صورة للمادة، كما سبق أن ذكرنا.. ثم إن النفس السفلى، من تلك الدرجة البعيدة أخذت تستأنف سيرها راجعة إلى الله بمحض الفضل الإلهي، والى ذلك الإشارة بقوله تعالى، بعد الآية الآنفة الذكر: (إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).. والأجر الغير ممنون إنما هو تعلق النفس السفلى بالنفس العليا.. وقد ظهر هذا التعلق، في مرحلة البشرية، في صورة العقل.. فالعقل هو وسيط تطوير النفس السفلى إلى النفس العليا.
    وجود الإنسان، في الإسلام، سابق على وجود بقية الأكوان.. وفي الحقيقة، ليس في الوجود الحادث غير الانسان.. وجود الانسان، وجود أزلي أبدي _سرمدي_ فهو ينزل المنازل في البعد من الله، وفي القرب.. هو مغترب، وراجع من الاغتراب إلى وطنه الأصلي، إلى الله في إطلاقه.. فليس لهذا السير نهاية، وإنما هو سير في السرمد، لأنه سير إلى المطلق.. فليس في الوجود الحادث سوى الانسان، في طور من أطواره _من الهيدروجين، والى الذات المحمدية!!
    الإنسان هو خليفة الله، وقد جاء خلقه قبل خلق الأكوان، وتم إعداده للخلافة، بتعليمه المعرفة التي تؤهله لها.. يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ..).. (علّم آدم الأسماء كلها) يعني أسماء الله.. وعلم الأسماء هو أعلى وأكمل العلم، لا شي أعلى منه إلا الذات، والذات لا تعلم، وإنما تشاهد ـ ليس في مرتبة الذات علم، وإنما هو شهود، والشهود أكبر من العلم.. وبعد رد الانسان إلى أسفل سافلين، انتُدب ليعود إلى مقام الخلافة، في أحسن تقويم، فينزل بالمقام من عالم الملكوت إلى عالم الملك، وسخرت له في سبيل ذلك جميع الخلائق (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ).. فجاء خلق الأكوان، وسيلة للإنسان.
    خلق الأكوان:
    نكرر: الخلق في الإسلام تنزل.. هو تنزل القديم، إلى الحادث.. تنزل الذات الإلهية المطلقة، إلى مرتبة الفعل.. وبالفعل برز التعدد من الوحدة.. فالأكوان هي تجسيد علم الله.. العلم تنزل إلى مرتبة الإرادة، ثم مرتبة القدرة.. وفي مرتبة القدرة، برز الوجود الحادث.. (فحضرة العلم أحاطت بالمخلوقات، وحضرة الإرادة خصصت الصورة الأولى، وحضرة القدرة أبرزتها إلى الوجود الأول، وفق تخصيص الإرادة، وإحاطة العلم، ثم باشرت إبراز تعاقب الصور في نسق حكيم، وتسلسل دقيق، تضبط منازله الإرادة الرشيدة، ويوجه خطوه العلم المحيط، إلى سدة الذات العلية في عليائها.. والسير إلى سدة الذات العلية في عليائها، إنما هو تطور من الكثافة إلى اللطافة، أو قل من الجهل إلى المعرفة).
    يقول الأستاذ محمود: (العالم هو تجسيد علم الله _هو تجسيد فكر العقل الكلي المحيط، والمطلق، في ذلك_ وإنه لحق أن العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن أجل ذلك جاءت كرامة الفكر.. ولم يجعل الله هادياً في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر..).
    وقد جاء القرآن، بين دفتي المصحف، يحكي صورة الخلق أو التنزلات.. يقول الأستاذ محمود: (إن قصة الخلق في القرآن لهي أكمل، وأتم، مما هي في أي فكر نعرفه حتى اليوم.. فقضية التطور في القرآن، تذهب إلى بدايات، وتسير إلى نهايات، أبعد في الطرفين، مما يدخل في ظن عالم من العلماء الذين تعرضوا لنظرية التطور، من داروين إلى آخر من كتبوا في هذا العلم.
    في القرآن الوجود هو الله تنزل من إطلاقه فظهر في صورة المادة المحسوسة، وهو إنما ظهر ليعرف.. ليعرفه من؟؟ ليعرفه الذي مثله ـ الانسان ـ وليس كمثله شيء.
    الخلق في القرآن هو الإرادة الإلهية جمدت، وتجسدت.. فهو تنزل من الإطلاق، في معنى ما تنزلت الإرادة.. وهو إلى الإطلاق راجع.. لأن الإرادة في التحليل الأخير، إنما هي الإطلاق.. قال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)..
    والخلق في القرآن ليس كائنا، وإنما هو مستمر التكوين.. في القرآن الخلق في ثلاثة عوالم، عالم الملكوت من أعلى، وعالم الملك من أسفل، وعالم البرزخ قد توسط بينهما.. فعالم الملكوت عالم لطائف _عالم مادة لا تتأثر بها حواسنا_ عالم أرواح .. وعالم الملك، عالم كثائف _عالم مادة متجسدة تتأثر بها حواسنا_ وهو، من ثم، عالم أجساد.. وعالم البرزخ هو عالم المزج بين اللطائف والكثائف _عالم العقول التي ركبت على أجساد لتصهر كثافتها بنار المجاهدة، فتحيلها إلى لطائف.. وهذا هو عالم الانسان.. والاختلاف بين العوالم كلها اختلاف مقدار.. فالوحدة هي السلك الذي ينتظم الأشياء، من الخلايا التي تكون الأجساد الحية، والى الذرات التي تكون المادة الصماء _فالاختلاف اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. بل إنه في التوحيد، اختلاف النوع يمتنع..)..
    وقضية امتناع اختلاف النوع، من أهم قضايا التوحيد وينبني عليها الكثير جداً في المعرفة ، وهي تشكل قاعدة أساسية في تصور الوجود..
    فالوجود في حقيقته وجود روحي، وفي مظهره مادي.. وعلى قاعدة غياب اختلاف النوع، الاختلاف بين الروح والمادة هو اختلاف مقدار، وليس اختلاف نوع!! ويمكن تعريف المادة بأنها روح أو طاقة، في حالة من الذبذبة، تتأثر بها حواسنا.. ويمكن تعريف الروح بأنها مادة في حالة من الذبذبة لا تتأثر بها حواسنا، فالاختلاف بين المادة والروح هو اختلاف في درجة اللطافة والكثافة..
    فحسب التصور الإسلامي (جميع الأشياء من أدناها إلى أعظمها، جمادها، وحيها، كل منها ذو شكل هرمي له قمة، وله قاعدة _القمة تمثل الروح، والقاعدة تمثل الجسد_ والاختلاف بين القاعدة والقمة، اختلاف مقدار.. والقاعدة فانية _متحركة في تطور مستمر، تطلب القمة_ والقمة ليست باقية على صورة واحدة، ولكنها متحركة في تطور مستمر، تطلب نقطة مركز الوجود، وهي الله.. فالإسلام لا يفصل بين الأشياء المغايرة لبعضها البعض _حسب الظاهر_ حتى عندما يصل هذا التباين إلى درجة التناقض، وذلك لأنه دين التوحيد.. فهو يوحد المظاهر المختلفة في كلٍ واحد، متناسق.. وعنده الاختلاف بين الجسد والروح إنما هو الاختلاف الذي يكون بين القاعدة والقمة للشيء الواحد.. وهو اختلاف مقدار، وقد سبق التعريف في السطور القليلة أعلاه.
    الثنائية:
    قلنا أن الوجود الحادث، من الله صدر، وإليه يعود.. والوحدة هي أصل هذا الوجود، ووحدته من وحدة موجده.. ففي حالة الصدور خرجت الكثائف من اللطائف.. وفي حالة الورود تخرج اللطائف من الكثائف.. وهذه هي غاية الوجود.. وهي اتجاه خط سير كل المتحركات _ونحن لنا إلى الحركة عودة..
    وخروج المحدود من المطلق، بدأ بالتنزل إلى مقام الاسم (الله)، وهو مقام الذات المحمدية (الانسان)، التي هي أول قابل لتجليات الذات الإلهية.. وهي بين المطلق، في إطلاقه، من أعلى، وجميع خلقه من أسفل.. ومقام الذات المحمدية، هو مقام في قمة الملكوت، وهو ألطف اللطائف بالنسبة للوجود الحادث.. وقد رأينا أنه من هذا المقام، برز الوجود الحادث، فما من شيء إلا وهو منه مستمد، وإليه راجع.. ولذلك، قلنا في البدء كان الانسان، ونقول الآن، وفي الختام يكون الإنسان.. وهذا المقام، هو عقل الوجود الحادث، وفي الحديث (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) فإن كلمة (نور) تفيد العقل.. وقد ورد في حديث آخر (أول ما خلق الله، العقل).. فالعبارات (أحسن تقويم) من قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).. و(نور نبيك يا جابر) من الحديث، وكلمة (العقل) من الحديث (أول ما خلق الله العقل) كلها تشير إلى حقيقة واحدة، وتعبر عنها من زوايا مختلفة، وهذه الحقيقة هي (الحقيقة المحمدية).
    وكما ذكرنا بالتنزل إلى القدرة، تم التنزل إلى عالم الملك حيث برز الخلق، وأخذ له تجسيداً مادياً، بالمعنى الذي ندركه عن المادة.
    وبالتنزل إلى مقام الاسم برزت الثنائية من الوحدة، في أعلى درجة لها والمتمثلة في: العبودية، والربوبية، ثم بدأت صور الثنائية الأخرى، ومنها ثنائية (الروح والمادة) في الوجود الحادث.. وفي قمة الوجود الحادث، النفس الكاملة، وفي أسفله النفس السفلى _أسفل سافلين_ وبين القمة والقاعدة ثنائيات لا حصر لها.. منطقة الثنائية هذه، هي منطقة المعرفة العقلية، وفيها _كما سبقت إلى ذلك الإشارة_ نحن نعرف الله، في مستوى الحق، ويغيب عنّا مستوى الحقيقة، فلا يكون إدراكه، إلا عن طريق ملكة الإدراك الوتري _القلب.. ففي مستوى الحقيقة، قلنا، أنه كلما خطر ببالك، فالله تعالى، من حيث ذاته، هو بخلاف ذلك.. لكن في منطقة الحق، هذا القول، لا ينطبق، لأن إدراك الله تعالى في هذا المستوى، هو إدراك أسمائه وصفاته وأفعاله، وهذه تقع في منطقة الإدراك العقلي.. فالعقل يعرف الله، في مستوى الأسماء _مستوى الحق.. والقلب يشهد الله، في مستوى الذات _الشهود الوتري.
    ولقد جاءت الثنائية، كتنزل، لحكمة أن نعرف الله، عن طريق العقل، الذي من طبيعته الأصيلة، أنه يدرك الأشياء بأضدادها.. وفي ذلك يقول تعالى: (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون).. فالأزواج خلقت لعلة أن نتذكر _أن نعلم..
    وأمر الزوجية هو أمر الفتق الذي سبق أن أشرنا له.. فالوجود كله كان في حالة (رتق) متوحد، وبعد الرتق جاء (الفتق)، وبالفتق ظهرت الثنائية.. وعن الفتق والرتق جاء من أقوال الأستاذ محمود، في مخطوطة (ديباجة الدستور)، ما نصه: (خلق الله الإنسان بذاته من ذاته، وخلق الله بالإنسان الأكوان.. نفخ الله روحه في الإنسان، ونفخ روح الإنسان في الأكوان.. وقال الله، تبارك وتعالى: (خلقت الإنسان لي، وخلقت الأكوان للإنسان).. وقال تعالى: (ما وسعني أرضي، ولا سمائي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن).. لقد خلق الله كل شيء بالفتق _فتق النقيض من النقيض_ فجاءت المثاني.. قال تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، ثم حرك بندول فكر الانسان بين النقيضين ليتعلم، فهو يفهم الضد بالضد، يفهم الخير بالشر.. وقال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ).. وأعلى الأزواج الذات المطلقة والذات المقيدة، حيث قيدت الذات المطلقة نفسها، بمحض الفضل، في مقام الاسم _الله_ الإنسان _الذات المحمدية_ التي هي أول قابل لتجليات الذات المطلقة.. فتنزل الذات الصرفة المطلقة لمقام الاسم _الله_ هو أول الحركة _أول الفتق_ أول الزمن_ وإن كان زمناً يكاد يلحق بالمطلق.. ثم جاء الفتق الثاني من روح الإنسان إلى نفس الإنسان _من (أحسن تقويم) إلى (أسفل سافلين).. ثم جاءت الفتوق، كلها، ذلك بأن كل زوجين إنما هما مفتوقان من بعضهما، لتقوم الضدية، وتحدث حركة فكر الانسان، بين الضدين، فيحصل العلم: (ومن كل شيء خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون).. قال تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا، وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ، وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).. فالنفس الواحدة ههنا هي نفسه، تبارك وتعالى، في المكان الأول، ثم نفس آدم _الإنسان_ في المكان الثاني.. وزوج آدم المخلوقة منه هي حواء، وعنها جاءت الإشارة في سورة يس بقوله: (ومن أنفسهم)، وزوج الذات المطلقة،المخلوقة منها، هو آدم، وعنه جاءت الإشارة في سورة يس بقوله: (ومما لا يعلمون)..)
    وجاء من نفس المصدر: (وعن فتق الأكوان، قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ، كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؟؟ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) .. ولكن هل رأى الذين كفروا: (أن السموات والأرض كانتا رتقاً)؟ نعم ولا!! وإلا لما جاز السؤال!! رأوا لأنهم كانوا في جرم الانسان.. وبالإنسان خلقت السموات والأرض مرتتقة.. وبالإنسان فتقت.. وهم قد كانوا هناك!! ولم يروا، عندما برزوا، من جرم الإنسان، إلى أجرامهم الخاصة بهم).
    السببيـة والغائية في الإسلام:
    رأينا، في الجزء الأول من الكتاب، أن حياتنا كلها تقوم على السببية، فنحن لا نترك شيئاً أو نفعله، إلا لأسباب عندنا.. ودائماً عندما نأخذ بالأسباب ننتظر نتائج من فعلنا.. وتفكيرنا كله يقوم على أن لكل حادث سبباً.. فالعقول تدرك ذلك بصورة تلقائية.. وكذلك المنطق في تفكيرنا يقوم على مبدأ السببية.
    وقد أشرنا إلى التطور في مبدأ السببية في العلوم الطبيعية، منذ الفيزياء الكلاسيكية، التي تأسست على أن الكون كله تقوم العلائق فيه بين الأشياء على قوانين علمية، تسيره بصورة حتمية، الأمر الذي أدى إلى استبعاد الله، من التدخل في أحداث الكون.. ثم رأينا انتفاء الحتمية السببية في الفيزياء الحديثة، وإعادة النظر في موضوع السببية، بصورة أدت إلى النظر إلى قوانين الطبيعة على اعتبار أنها مجرد تعبير عن الانتظام، بأكبر دقة ممكنة، كما يقول كارناب مثلاً، فهو يقول: (تكشف لنا المشاهدات الأكثر انتظاماً في العلم عن تكرارات، أو انتظامات في العلم، فالنهار يتبع الليل دائماً، وتتعاقب الفصول بنفس الانتظام، والنار تحرق دائماً، وتتساقط الأشياء عندما نتركها، وهكذا.. والقوانين العلمية ما هي إلا تقديرات تعبر عن هذا الانتظام بأكبر دقة ممكنة).
    فلم يعد علماء العصر، يرون في قوانينهم الطبيعية، ما كان يراه لابلاس، مثلا.. وأصبحت المعرفة عندهم، في إطارهم التجريبي المحدود، معرفة احتمالية، يقول كارناب: (في فيزياء العصر الحالي، على الرغم من أن لميكانيكا الكم بنية سببية، إلا أن معظم الفيزيائيين وفلاسفة العلم يرفضون نعتها بالحتمية، ذلك لأنها كما يقولون، أضعف من بنية الفيزياء الكلاسيكية، لاشتمالها على قوانين أساسية هي في جوهرها احتمالية، ومن ثم، فهم لا يستطيعون إعطاء صيغة تأخذ الشكل الحتمي.. إذا كانت لمقادير معينة قيمة معينة إذن لكان ثمة توزيع احتمالي لقيم المقادير الأخرى. فإذا كانت بعض القوانين الأساسية للعالم احتمالية، هكذا، فلا يمكن لأطروحة الحتمية، أن تقوم لها قائمة.. صحيح أن معظم الفيزيائيين اليوم لا يقبلون الحتمية بالمعنى الصارم الذي عرضناه هنا، إلا أن هناك قلة فليلة لا تزال تعتقد في أن الفيزياء قد تعود إليها يوما ما)..
    ولقد سبق أن أوردنا قول فرانك الذي جاء فيه: (إذا حاولنا البحث عن العلاقة السببية بشكل كامل وخالص ومطلق، فلن نستطيع العثور عليها، إذ أنها تعمل بشكل تقريبي وفي عمليات معينة، تحدد بالزمان والمكان، وحتى هذا لا يكون إلا في حالات خصوصية فقط).
    السببية، بلا شك، مسلمة أساسية من مسلمات العلم المادي التجريبي، التي لا يمكن أن يقوم من دونها.. فلا يمكن أن يكون هنالك علم، إذا كانت الأحداث تقوم دون أسباب تؤدي إليها، ومع ذلك، أصبح، في العلم الحديث، تأدية الأسباب إلى نتائجها، مجرد احتمال إحصائي.. وبهذا أصبحت هنالك فجوة واضحة في المعرفة المتعلقة بالسببية.. هذه الفجوة لا يمكن معالجتها في إطار العلم المادي التجريبي، فهذا أمر قد حُسِم، بصورة نهائية بعد نظرية (عدم اليقين).. وهذا بدوره، من أهم الأسباب التي تقتضي مراجعة، الاعتماد على العقل وحده، ومراجعة التفكير المادي بصورة جذرية.
    إذن: لا مجال لمعالجة هذه الفجوة، إلا مجال الدين، والمعرفة الدينية.. فموضوع السببية مرتبط بأهم قضايا الدين: قضية التوحيد، في مستوى وحدة الفاعل.. فقد رأينا، أن وحدة الفاعل تقوم عليها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهي أصل التوحيد، وهي تعني أنه لا فاعل لكبير الأشياء ولا لصغيرها إلا الله.. وقلنا أن الإله هو تنزل الله، إلى مرتبة الفعل.. فلا شيء يحدث في الوجود إلا بإرادة الله، التي لا يمكن لشيء أن يحدث دونها.. فهنالك دائماً، سبب، لكل شيء يحدث في الوجود، ولا شيء، على الإطلاق، يمكن أن يحدث دون هذا السبب، وهذا السبب الجامع، هو الإرادة الإلهية، التي هي القانون الأساسي والوحيد، الذي يسير الوجود، وما يحدث فيه.. وكل الأسباب الأخرى سواء كانت طبيعية _ترجع لقوانين الطبيعة_ أو ترجع للإرادة البشرية، ما هي إلا مظهر لهذا السبب الواحد _الإرادة الإلهية_ وتعبير عنه، فهو محيط بها، ولا تستطيع أن تفعل من دونه.. فإذا اتفقت معه، فهي تفعل بصورة حتمية، وإذا لم تتفق هي لا تفعل!!
    يقول الأستاذ محمود، عن السببية: (أمر السببية في الإسلام على مستويين: مستوى الشريعة، وهو مستوى يقوم على اعتبار أن الله رتب الأسباب ترتيباً حكيماً يتأدى به الإنسان إلى تدبير أمر معاشه بالاجتهاد المشروع.. فالله هو الذي أوجد التربة الصالحة للزراعة، والله هو الذي أنزل الماء على الأرض في موسم الإنبات فأحياها بعد موتها.. هذه كلها أسباب ضرورية، وبقى سبب، أو أسباب أخرى على الإنسان الأخذ بها، وهي بذر البذرة في التربة، وتعهدها حتى تستحصد (فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة) كما قال عمر بن الخطاب، ولكن بأسباب من الله، وأسباب يظن الإنسان أنها منه، يتم الإنتاج، وتمضي الحياة في سبيلها، متطورة، مترقية مراقي الرخاء المادي، ومراقي المعرفة بالله، لأن الصراع في زحمة الأسباب المشتركة، بيننا وبين الله، يهدينا، بفضل الله، ثم بفضل القرآن، إلى الله بصورة واضحة.. اسمع القرآن، من سورة الواقعة، كيف يحدثنا عن هذه الأسباب المشتركة، وهو حديث يؤكد لك ما حدثناك عنه من طبيعة البراهين في القرآن على وجود الله: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلَىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)!!.. فهذه آيات كلها تظهر لنا قدرته، ورحمته، وتنشئ الصلة، بيننا وبينه، بمقارنة أسبابنا إلى أسبابه، وإظهار قوة أسبابه هو، وضعف أسبابنا نحن، وإحاطته بأسبابنا، حتى لو شاء لجعلها لا جدوى منها. وقد ختمها بقوله تعالى "فسبح باسم ربك العظيم!!".. والرب هنا تحمل أيضاً معنى الأب الرحيم.. والآيات تعطينا سلسلة من الأسباب المؤدية إلى أسباب.. هذا في ظاهر الأمر، وهو ما عليه الشريعة.. ولكن، في حقيقة الدين، ليس هناك سبب يؤدي إلى سبب، إطلاقاً، وإنما الأسباب سلسلة من استعداد المحل بالقابلية لتلقي الحركة المقبلة عن الله.. فكأن الأمر كله حكمة اختفى الله وراءها، إلا عن العقول التي استنارت بنور التوحيد.. فليس من التوحيد أن تظن أن سبب الإحراق النار، فإن وجدت، وجد الإحراق، حتماً مقضياً.. قد ظن هذا الظن النمروذ، صاحب إبراهيم الخليل، الذي أمر بإحراقه، وأعد ناره، ومنجنيقه، وقذف بإبراهيم فيها، فما هالهم إلا وجود إبراهيم سالماً، عندما خمد أوار النار، ذلك بأن الإذن الإلهي بالإحراق لم يصدر للنار _استعد المحل للإحراق، ولم يصدر الإذن بالإحراق_ فلم يحدث.. بل صدر الأمر بقوله تعالى: "يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ".. عندما نجود فهم مسألة الأسباب، وذلك بإتقان العبادة في مراقي التوحيد، يظهر لنا أن الأسباب كلها تنتهي إلى سبب واحد، هو الله)..
    الفاعل الحقيقي في الوجود هو الله، والفاعل في مستوى الظاهر _مستوى الشريعة_ هو نحن والأسباب، والله تعالى محيط بفعلنا حين نفعل، فنحن لا نفعل إلا بأمره، وإن خفي علينا الأمر.. والعمل في السلوك الديني كله ما هو إلا استجلاء لهذا الخفاء، حتى نرى الأمر كما هو عليه في الحقيقة.. ويمكن أن نضرب مثلاً، بوضع الصورة.. إذا تصورنا نجاراً يقوم بنشر خشبة، فإذا كنا لا نرى إلا المنشار، فإننا ننسب إليه عملية النشر.. وإذا نظرنا أبعد من ذلك، نستطيع أن نرى يد النجار فننسب لها فعل النشر، فهي التي تحرك المنشار.. ثم إذا رأينا أبعد، ننسب النشر للنجار، فهو صاحب الإرادة في عملية النشر، وما عداه وسائل تحركها إرادته.. فنحن ننسب الفعل لصاحب الإرادة، وليس لأدواته.. وهذا ينطبق على أفعالنا نحن، وعلى قوانين الطبيعة، مع اختلاف، هو أننا نحن البشر نتوهم أننا أصحاب إرادة مستقلة بالفعل أو الترك، حسب الظاهر، فلذلك يصعب علينا، في بداية الأمر، أن نرى الفاعل الحقيقي، لأننا محجوبون بإرادتنا المتوهمة، فلا نرى إلا الفاعل المباشر.. ولكن إذا انفتحت بصيرتنا عن طريق تجويد التوحيد، نرى الفاعل الحقيقي وراء الفاعل المباشر، ونعلم أن إرادتنا محاط بها، فهي لا تستطيع أن تعمل من عندها، ولا تريد من عندها، فهي لا تريد إلا ما يريد الله لها أن تريد، ثم إن إرادتنا لا تكون نافذة، إلا إذا أذن الله لها بذلك.. يقول تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ).. (الأنفال 17).. فهو ينفي عنه الرمي، ويثبته له، في آن معاً.. وهذا يعني، ما رميت في الحقيقة، إذ رميت في الشريعة، ولكن الله رمى في الحالتين.. ويقول تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ).. (التوبة 14).. فالمعذب الحقيقي لهم هو الله، والعذاب يتم بأيد المؤمنين، فالسبب في الشريعة قائم وعلينا أن نأخذ به، ونجوده، ولكنه في الحقيقة ساقط، فعلينا أن لا ننتظر النتيجة من الأسباب وحدها، وإنما ننتظرها من مسبب الأسباب.. فالتوحيد، يمنع، منعاً باتاً أن تكون للأشياء فاعلية ذاتية، فالأشياء ليس لها وجود ذاتي، حتى تكون لها فاعلية ذاتية، فوجودها، كما سبق أن ذكرنا، بالله، لا بنفسها، ويتبع من ذلك، بالضرورة، أن فاعليتها بالله، لا بنفسها.. فإذا لم يصدر الإذن الإلهي بهذه الفاعلية، فهي لا تفعل.. وفي قصة سيدنا إبراهيم مع النمروذ، لم يصدر الإذن الإلهي للنار بإحراق إبراهيم، وإنما صدر بأن تكون برداً وسلاماً عليه، فكانت، على خلاف معهود الناس عنها..
    الله تعالى لم يخلق الوجود، ويخلق له قوانينه، ثم تركه يتحرك وفق تلك القوانين، بمعزل عنه تعالى، كما هو الوهم في الحضارة الغربية، وعند كثير من الناس.. وإنما الله تعالى، هو الفاعل الحقيقي، الذي يسير الوجود كله، وفي كل تفاصيله في كل لحظة.. فإرادته تعالى، ليست كإرادة أحدنا، تقوم في أوقات، وتغيب في أوقات _عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً_ وإنما هي قائمة دائماً، ولا تتخلف قط، وهي محيطة بكل شيء، فلا شيء ينفعل من دونها.. فهي القانون الأساسي، والوحيد، والدائم، في الوجود.. وكل قانون سواها، إنما هو شكل من أشكال التعبير عنها، ولا يمكن أن يقوم، وتكون له فاعلية من غيرها.. وهذا هو معنى القيومية، ومعنى عبارة (لا حول ولا قوة إلا بالله).. وفي هذا المعنى يجيء قول العارف الشيخ قريب الله:
    حركاتنا سكناتنا***أعمالنا والنيـة
    مخلوقة لك دائما***ليس بنا مزوية
    ولما كان سبب الشريعة مهيمن عليه من قبل سبب الحقيقة، فإن أمره يتفاوت في الظهور والاختفاء.. ففي قول القرآن عن السيدة مريم: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّاً).. (مريم الآية 25).. لم يكن السبب _هز السيدة مريم لجذع النخلة_ يتناسب مع النتيجة _تساقط الرطب.. فالسبب حسب مألوف الناس، أضعف من أن يؤدي للنتيجة.. فالرجل الجلد، لا يستطيع أن يهز جذع النخلة بحيث تسقط ثمارها، خلِّ عنك امرأة ضعيفة، في حالة وضع!! أما في حالة سيدنا يونس، فقد كان سبب النجاة، الدعاء مع الاضطرار: (لا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).. (الأنبياء 87).. وفي حالة سيدنا إبراهيم، أصبحت النار برداً وسلاماً، على غير مألوف الناس، ودون سبب ظاهر في الشريعة.. فسيدنا إبراهيم، رفض مجرد سؤال ربه، وقال لجبريل: (علمه بحالي يغنيه عن سؤالي)!! أما في قصة سيدنا سليمان وعرش بلقيس، فقد قال الذي عنده علم من الكتاب، عن عرش بلقيس: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)..(النمل 40)، وقد كان.. ففي هذه النماذج التي أوردناها من القرآن، تفاوت وضع الشريعة بالنسبة للسببية، تفاوتاً كبيراً، بين الظهور والاختفاء.. فقد انفعلت الأشياء بغير همة لسيدنا إبراهيم، ولم يكن هنالك حاجة لسبب الشريعة.. وانفعلت الأشياء، بهمة أو بسبب ضعيف بالنسبة للسيدة مريم، وسيدنا يونس، والذي عنده علم من الكتاب.. ولكن في جميع هذه النماذج، السبب الحقيقي دائماً قائم، ولا مجال لخلاف ذلك.. فالأشياء لا يمكن أن تحدث من غير أسباب، ولكن يمكن للأسباب الظاهرة، أن تغيب تماماً، ثم تحدث الأشياء بفعل الفاعل الحقيقي.
    لقد ذكرنا، أن صورة وحدة الوجود، ووحدة الفاعل، لا تكتمل إلا بالحديث عن السببية.. والآن نستطيع أن نقول أنه، كما أن الوجود في حقيقته واحد، الفاعل الحقيقي في الوجود واحد: هو الله.. والأسباب الظاهرة _في فعل الإرادة البشرية، وأسباب الطبيعة_ لا تستطيع أن تفعل أي شيء إلا بإذن الله.. فتوفر الأسباب الظاهرة هو مجرد استعداد المحل لتلقي الإذن الإلهي، فإذا توفرت هذه الأسباب الظاهرة، في أعلى مستوى، ولم يصدر الإذن الإلهي، فهي لا تستطيع أن تفعل.. وإذا غابت هذه الأسباب الظاهرة تماماً، وصدر الإذن الإلهي، فإن التسبيب يتم دون أدنى ريب.
    وهذا أمر هام جداً، بالنسبة لفهم الوجود الإنساني.. فالإنسان من خلال السلوك الديني الذي يطيع فيه مرضاة الله يمكن أن تطيعه الأشياء معاوضة لطاعته لله، فيقدر بذاته بدل القدرة بالوسيلة خارجه، تخلقاً بأخلاق الله، وهذا أمر ليس له أي مقابل، في الفكر العلماني، ولا يمكن أن يكون له مقابل.. ونموذج الذي عنده علم من الكتاب، واضح في هذا الصدد.. كما هنالك القدرات الذي وفرها الإذن الإلهي، لسيدنا عيسى عليه السلام.. فهو يبريء الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله.. وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أن هذه معجزات، خارقة للطبيعة.. أولاً، في الفكر الديني، لا يوجد شيء يمكن أن يكون خارقاً للطبيعة.. فالطبيعة هي الإرادة الإلهية، التي لا يخرج عنها خارج، ولا يشذ عنها شاذ.. والمعجزات هي قدرات إنسانية، يتفضل بها رب الوجود، على من يشاء من عباده الأصفياء، إلا أنها لغير الأنبياء، اصطلح على تسميتها كرامات، بدل معجزات.. فهي أمر متاح لكل عبد من عبيد الله، إذا قام بشرطه.. فعن أهل الجنة، بما فيها جنة الأرض، يقول تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)..(ق 35).. فهم تنفعل لهم الأشياء بمجرد المشيئة، لأنهم أطاعوا الله، حتى أصبحت إرادتهم من إرادته تعالى.. وقد جاء في الحديث القدسي، قوله تعالى: (لا يزال عبدي بتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت له سمعاً وبصراً، ولساناً، وقلباً، ويداً، ورجلاً، بي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يمشي).. وهذا لمن تنطبق شريعته على حقيقته.
    من كل ما تقدم، يتضح، أن فهم موضوع السببية في الإسلام أمر هام جداً، للحياة، وللمعرفة، وبه ينفتح الباب واسعاً، لتحقيق الكمالات البشرية، هنا، في هذه الدورة من دورات الحياة، بصورة، هي (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
    الغائيـة:
    في السلوك البشري الغائية مرتبطة بالسببية، وكلاهما مرتبط بالطبيعة الإنسانية.. فالإنسان، بحكم طبيعته، كائن (مغرض) لا يعمل إلا لأهداف وغايات معينة، ويتخذ من الأسباب ما يعتقد أنه يوصله، إلى تلك الأهداف والغايات.. فطالما أن الانسان صاحب إرادة وفكر، فإنه يستخدم فكره وإرادته، من أجل الأهداف والغايات، التي يسعى إلى تحقيقها.. ففي سلوك الانسان دائماً، هنالك غاية ما يسعى لتحقيقها، ووسائل ما يتخذها من أجل تحقيق تلك الغاية.. وهذا يصحب السلوك البشري الطبيعي، بصورة دائمة.
    فإذا كانت الغائية، في أصل الطبيعة البشرية، فهل هي أيضاً في أصل الكون؟ هذا سؤال تختلف الإجابة عليه بين العلمانية والإسلام، اختلافاً جذرياً.. فالإسلام يرى أن الغائية، في أصل الكون بصورة لا لبس فيها، في حين أن العلمانية، لا ترى وجود غائية كونية.. وموقف العلمانية من الغائية، يتضح أكثر ما يتضح في الفلسفة، وفي العلم المادي التجريبي، وبصورة خاصة، في العلم المادي التجريبي.
    قوانين الطبيعة وأحداثها، في نظر علماء الطبيعة، لا تستهدف غايات معينة، ولا هي مبنية على أسس غائية، وهذا أمر طبيعي، بالنسبة للفلسفة والعلم، طالما أنهما لا يريان خلف قوانين الطبيعة، وأحداث الكون، إرادة مدبرة، وطالما أنهما يريان أن هذه القوانين والأحداث تقوم على المادة.. يقول روبرت م. اغروس، وجورج ن. ستانسيو، في كتابهما (العلم في منظوره الجديد): (إن منطق المادة ينكر الغائية، ذاهباً إلى أن الكون، ليس سوى مادة، وبالتالي، لا يمكن أن يكون بالأشياء والطبيعة أي هدف، لأن المادة لا تستطيع أن تقصد هدفاً، أو ترسم خارطة، بل تتصرف بضرورة ميكانيكية، داخلية فحسب.. وبالتالي يتحتم على التفسيرات العلمية أن تقتصر على الأسباب المادية والميكانيكية فحسب)..(13-57)..
    أما بيكون، فيقول: (الغائية تفسد العلوم، بدلاً من أن ترقى بها).. ويقول ديكارت: (كل ضروب الغائية لا قيمة لها، في الأشياء المادية، الطبيعة).. راجع كتابنا (المعرفة وطبيعة الوجود)..
    ولكن يمكن، من ملاحظة حركة الانتظام في الكون، التي يعطيها العلم، أن يستشف وجود غائية، بصورة عامة، وهذا ما يشير إليه قول نيوتن: (إن حركة الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت من أي علة طبيعية فحسب، بل كانت مفروضة بفعل قوة عاقلة).. أما صاحبا كتاب (العلم في منظوره الجديد)، فهما أكثر وضوحاً، وأكثر تحديداً، في موقفهما من الغائية، فهما يقولان: (ومع أن الإنسان ليس مادياً في مركز الكون فهو على ما يظهر في مركز الغاية من خلقه. وكما يقول أبروت شرودنر الكون من دون الإنسان يكون أشبه بمسرحية تمثل في قاعة تخلو مقاعدها من جمهور المشاهدين).. (13 ص 68).. وفي نفس المعنى يجيء قول ويلز: (كلما ازدَدْتُ دراسةً للكون، وفحصاً لتفاصيل هندسته، وجدتُ مزيداً من الأدلة على أن الكون كان يعرف بطريقة ما أننا قادمون)..(13 ص 68).. أما أرسطو، فقد كان يرى: (إن الطبيعة لا تصنع أبدا أي شيء من دون غاية، ولا تهمل ما هو ضروري).. (13 ص 130).. هذه مجرد مشاهد وهي إن آمنت بالغائية بصورة عامة، فهي لا تجد لها سنداً موضوعياً، مع تغييب القوة العاقلة المدبّرة.. فما عليه الحضارة الغربية، هو عدم وجود غائية كونية، وفي الواقع، من المستحيل أن تكون هنالك غائية كونية مع غياب الإيمان بالله، كمسير للكون، أو الإيمان بوجوده تعالى، مع إبعاده عن التدخل في شئون الكون بعد خلقه، كما هو الحال في الحضارة الغربية.
    أما بالنسبة للإسلام، فموضوع العلّية الغائية، أمر أساسي جداً، ويقوم عليه التوحيد.. فمجرد أن الكون، في الإسلام، يخضع في وجوده للإرادة الإلهية يقتضي أن هذه الإرادة إنما أوجدته من أجل غايات محددة، عندها، ولا يمكن أن يكون وجود الكون عبثاً ولغير غاية، وهذا هو مقتضى البداهة في الإسلام، ومقتضى الإيمان الأولي.. ولقد سبق لنا أن أوردنا بعض النصوص في هذا الصدد، مثل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ* مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)..(الدخان 38).. فالسموات والأرض لم يخلقا عبثاً ولغير غرض أو حكمة، وهذا هو معنى كلمة (لاعبين) من الآية، وإنما خلقتا بالحق، وفق حكمته تعالى في وضع الأشياء في مواضعها، لتؤدي وظيفتها التي من أجلها خلقت.. وفي الحديث القدسي، يقول تعالى: (كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت إليهم، فبي عرفوني).. واضح أن الغاية من الخلق، هي معرفة الله، وهي التي بها تتحقق إنسانية الانسان.
    في إجابة عن السؤال: هل التفكير الغائي في أصل الدين؟ وهل صحيح أن الله لم يخلق هذا العالم إلا ليعبده هذا العالم؟ وإلا فما الغاية وراء الخلق الإلهي؟ جاء رد الأستاذ محمود: (الغائية أصل الدين.. بل هي آصل الأصول فيه_ فلا مكان للصدفة، لا في كبيرة، ولا صغيرة.. (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) تحكي هذه الغائية، أفضل حكاية.. وهذا يجيب على الشطر الثاني من سؤالك، ولكن يبقى، بعد ذلك، شئ، هو: ما معنى العبادة؟ وهل الله محتاج للعبادة؟ من الوهلة الأولى نقرر أن الله غني عن العبادة_ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"، فالناس هم المحتاجون إلى العبادة، لا الله.. والعبادة، ما هي؟ أجملها المعصوم حين قال: "تخلقوا بأخلاق الله. إن ربي على سراط مستقيم".. وأعلى أخلاق الله الإطلاق _الحرية الفردية المطلقة.. ولذلك فإن أعلى مراتب العبادة حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.. وهذه تقتضي قوة الفكر، ودقته، ومضاءه في مراتب القول والعمل، حتى يتحقق العابد، الموحد، بمرتبة توحيد ذاته بتوحيد فكره وقوله وعمله.. قال تعالى في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) فإذن الغاية التي من أجلها خلقنا هي أن نحقق كمال ذواتنا، عن طريق العبادة. وذلك بفضل ما تورثنا إياه العبادة من قوة الفكر وحدته ومضائه_ قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)..(النحل 44).. فكأنّ الحكمة وراء شريعتنا أن نفكر، والفكر ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة إلى تحقيق الحياة الكاملة، وهي الحياة التي تستمتع بالحرية الفردية المطلقة، وتحسن التصرف فيها _فالحياة الكاملة هي الغاية من خلقنا_ خلقنا لنكون كاملين كمال الله. وهيهات!!)..
    ونحن إنما نكمل بالعودة إلى مقام أحسن تقويم وتحقيقه في حياتنا حتى نحقق خلافة الله في الأرض.. وخلافة الله تقتضي أن نعمل وفق مرضاته، وهذا لا يتأتى إلا إذا علمنا الحكمة من فعله، وعملنا بمقتضى هذه الحكمة، وتصرفنا في كل شيء متوخين الغاية من خلقه.. فالغاية مرتبطة بالمعرفة.. معرفة الغاية الأساسية أولاً، ومعرفة الوسائل التي تفضي إليها.. ومعرفة الحكمة من فعل الله في الوجود من حولنا حتى نعمل وفق مرضاته.. كما أنه على الغائية الكونية، تقوم الأخلاق الموضوعية، ولا يمكن أن تقوم من دونها.. فالأخلاق هي حسن التصرف في الحرية، وحسن التصرف يقتضي معرفة الحكمة من خلق الأشياء، وحدوث الأحداث، والتصرف وفق هذه الحكمة، بوضع كل شيء في موضعه، وهذا هو العدل، في معناه الواسع.. ولا يتأتى وضع الأشياء في موضعها إلا إذا عرفنا الغاية من خلقها، ولذلك علينا أن نتوخى معرفة حكمة خلق الأشياء في تفاصيل حياتنا، وبذلك وحده نكون خلفاء الله.
    ولما ضيّعت الحضارة الغربية، الغائية الكونية، ضيّعت أساس المعرفة، كما ضيّعت الأساس الذي تبنى عليه الأخلاق الموضوعية، ويتم التسامي في مجالها، وضيّعت جوهر الحرية، وبذلك أصبحت لا تملك أي فرصة للحياة الطيبة _حياة الإنسان.. وبذلك أصبحت لا تملك أكثر من السير في هذه الحياة الدنيا، بعيون مغمضة، وعلى غير هدى.
    إذن: غاية خلق الأكوان، وخلق الانسان، في الإسلام، هي غاية واحدة، وهي تحقيق الإنسان الخليفة، الإنسان الكامل، بالمعنى الذي ورد في السطور أعلاه.. وقد خلق الانسان ابتداء مهيئاً لتحقيق هذه الغاية، وخُلقت الأكوان، ووظِّفت، لتكون عوناً له، في تحقيق الغاية من خلقه.. وهي ليست غريبة عنه، وإنما هي طرف منه.. فالوجود الحادث، كله، علويه، وسفليه، يعمل لغاية واحدة، وقد سخره ربه لتحقيق هذه الغاية: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ).. فالكون كله، يعمل عملاً واحداً، متسقاً، ومتكاملاً، فيه كل جزء يخدم بقية الأجزاء، وفي نفس الوقت بقية الأجزاء تخدمه، فلا شيء في الكون، مضحى به أو هو مجرد وسيلة لغيره.. فبقدر ما كل شيء، هو وسيلة لبقية الأشياء، كذلك، كل شيء هو غاية في ذاته، وبقية الأشياء وسيلة له، لا فرق في ذلك بين إبليس، وجبريل.. فالاختلاف في الوجود، دائماً اختلاف درجة، ويظهر اختلاف الدرجة هذا، حسب حكم الوقت.. فحكم الوقت متغير دائماً، حسب حكمة ظهور الشؤون (كل يوم هو في شأن).. فنهاية الأمر، هي الخير لكل الأحياء والأشياء، والهداية لها جميعاً.. فالله تعالى متكفل بهداية خلقه جميعهم، فلابد للهداية أن تتحقق في حينها: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ* وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ).. فما هو على الله لابد كائن، فمن لم يهتد في الدنيا، لابد أنه سيهتدي في الآخرة.. وستتضح صورة هذا الأمر، عندما نتحدث عن الخير والشر.
    الغائية، إذن، أمرٌ هام جداً للمعرفة والحياة، ولتحقيق الكمال في كليهما، ومن دونها يكون السير في التيه، على غير هدى.. فالتفكير السليم، والحياة الطيبة، يقتضيان المعرفة الصحيحة للوسائل والغايات، والعمل، وفق هذه المعرفة.. فالغايات تحدد الوسائل، لأن الوسيلة طرف من الغاية ومن جنسها.. فبالقدر الذي به نستطيع أن نحدد الغايات الصحيحة، نستطيع أن نحدد الوسائل المفضية إليها.. وبالعمل وفق هذه الغايات والوسائل، في حياتنا اليومية، تكون حياتنا حياة إنسانية، لا تقوم على مجرد اتباع الأهواء والغرائز، وإنما تسترشد في كل ما تعمل، وما تدع، بالفكر السليم، والسلوك الرشيد، الموجه بهذا الفكر.. وهذا ما ينبغي أن تكون عليه حياتنا، في جملتها وفي تفاصيلها.. فنحن ينبغي أن نعرف الغاية من وجودنا وأن نتصرف، في تفاصيل حياتنا، بذهن مفتوح، وفق معرفتنا هذه.. كما ينبغي أن نعرف الغاية من كل سلوك نسلكه في القول أو الفعل، أو في ترك القول وترك الفعل، بحيث يكون سلوكنا كله، في جميع تفاصيل حياتنا، سلوكاً هادفاً، تسيّرنا فيه المعرفة بالغايات الصحاح، والوسائل الصحاح.. وهذا هو السبيل الوحيد للخروج من حيوانيتنا إلى إنسانيتنا.. وهذا هو معنى الحياة الإنسانية في الإسلام _الحياة الطيّبة.

    20/10/18م























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de