التحكم في خور بركة (2-2) : بين المستحيل و الممكن ! بقلم د. عمر محمد علي احمد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 01:05 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-01-2017, 10:30 PM

د. عمر محمد علي أحمد
<aد. عمر محمد علي أحمد
تاريخ التسجيل: 07-21-2016
مجموع المشاركات: 10

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
التحكم في خور بركة (2-2) : بين المستحيل و الممكن ! بقلم د. عمر محمد علي احمد

    09:30 PM September, 01 2017

    سودانيز اون لاين
    د. عمر محمد علي أحمد-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر

    بسم الله الرحمن الرحيم



    البديل الثالث لاستغلال مياه خور بركة
    السدود المتتالية على خور بركة
    Baraka Cascade Dams
    لقد كانت مرجعيات بيت الخبرة الاستشارية الألماني هي طلب الحكومة السودانية دراسة إمكانية تزويد مدينتي سواكن وبورتسودان من مياه حوض بركة الجوفي. أما بالنسبة لشركة الاستشارات البريطانية -"عبر الإيقاد" – فقد كان طلب الحكومة السودانية هو التحكم في جريان خور بركة كأحد مطلوبات إعادة تأهيل دلتا طوكر. لقد قدمت الشركتان دراسات جيدة وفقاً لتوجيهات الحكومة السودانية.
    أما المرجعية التي اخترناها لهذه الورقة فهي دراسة مدى إمكانية التحكم الكامل في خور بركة بغرض الاستفادة القصوى من مياهه بما تحمله من طمي في تنمية جنوب ولاية البحر الأحمر آخذين في الاعتبار مخاطر الأطماء السريع. نشأت هذه المرجعية من تساؤلين هامين هما: كيف يستقيم عقلاً أن تُهدر كميات هائلة من المياه الموسمية أما في الري الفيضي – أي بالغمر – وهو نظام ري عقيم يناسب الأقاليم غزيرة الأمطار لا الأقاليم الجافة – أو في تغذية المياه الجوفية التي يتسرب معظمها إلي باطن الأرض لتنتهي في البحر؟
    نسأل أيضاً لماذا نسمح بتدفق فائض الإيراد العالي – أي مليار متر مكعب من المياه – إلي البحر وذلك في الوقت الذي تعاني فيه الولاية في ريفها وحضرها من شح المياه لتصبح كالعير ظمأى والماء على ظهرها محمول!.
    نتساءل أيضاً كيف يستقيم عقلاً أن نترك ملايين الأطنان من الطمي البكر وعالي الخصوبة تتبعثر على أراضي يصعب استصلاحها وفي كلتا الحالتين تعقب الزراعة الفيضية أشهر الرياح العاتية والجفاف فتتعرض الأراضي الزراعية أما للتعرية الهوائية أو للرمال الهابطة من السماء!. هذا بالطبع بالإضافة إلي ذهاب الطمي إلي البحر من غير رجعة في حالة السيول العالية؟ يحدث هذا في الوقت الذي تعاني فيه الولاية من ندرة في الأراضي الزراعية الخصبة.
    الفكرة والمشروع:
    إن جوهر الفكرة التي يقوم عليها المشروع البديل الذي نطرحه هي التحكم الكامل في مياه خور بركة بما تحمله من طمي وذلك من خلال إنشاء سدين – كمرحلة أولى – وبحيث تكون وظيفة السد الأعلى هي احتجاز كل المياه بغرض إرساب الطمي وإطلاق المياه الصافية. أما وظيفة السد الأسفل فهي تخزين وحفظ المياه الخالية من الطمي ليتم استغلالها في التنمية الريفية. استلهمنا هذه الفكرة من بعض الحقائق التي رصدناها في علاقة النيل الأزرق بالنيل الأبيض عند اقترانهما أسفل مدينة الخرطوم. يُعرف عن مجرى النيل الأزرق أنه أعلى وأشد انحداراً من مجرى النيل الأبيض، يُعرف أيضاً عن النيل الأزرق أنه أكثر إيراداً من النيل الأبيض في موسم الفيضان. في هذا الموسم يشكل إيراد النيل الأزرق ما نسبته 68% من إيراد نهر النيل بينما يشكل إيراد النيل الأبيض 10% فقط، أي دون إيراد نهر عطبرة الذي يرفد نهر النيل في ذات الفترة بنسبة الـ 22% المتبقية. في مواسم الفيضانات العادية تشكل نسبة الـ 68% ما يزيد عن الـ 650 مليون متر مكعب في اليوم قد ترتفع إلي 800 مليون متر مكعب أو أكثر في حالة الفيضانات العالية وفوق العادة. هناك ظاهرة غريبة لا يدركها الكثيرون رغماً عن تكرارها في مواسم الفيضانات العالية. تتمثل هذه الظاهرة فيما يشبه التوقف – وأحياناً التراجع – لجريان النيل الأبيض في ذرة الفيضانات العالية. نستطيع تفسير هذه الظاهرة بالتأثير المزدوج لعاملين هما:
    العامل الأول: وهو قوة تيار النيل الأزرق بفعل كمية المياه وشدة الانحدار وهو الأمر الذي يجعله يتحول إلي سد مائي طبيعي أسفل مجرى النيل الأبيض عند المقرن.
    العامل الثاني: ويتمثل في القاعدة الصخرية التي تغطي القطاع أسفل مجرى النيل في قطاع شلال السبلوقة.
    تتحول تلك القاعدة الصخرية إلي سد قاعدي نصفي يمنع مرور كل مياه الفيضانات العالية. لهذا لا تجد تلك المياه متنفساً فترتد إلي الخلف، بداهة إلي الرافد الذي يمكن أن يستقبلها وهو النيل الأبيض بإيراده الهزيل والمتباطئ وبحوضه الواسع. بهذا الارتداد يتعزز مفعول السد المائي وحينها يتراجع النيل الأبيض جنوباً حتى مشارف خزان جبل الأولياء.
    الآن دعونا نفترض أن خزان السبلوقة القترح قد شيد بالفعل في شمال الخرطوم وأن التخزين في حوض خزان جبل الأولياء قد توقف وفتحت كل البوابات السفلية والعلوية مما يسمح بانسياب المياه بحّرية في الاتجاهين. إذا ما تحقق هذا الافتراض وتم تخزين المياه في حوض خزان السبلوقة فإننا نتوقع أن تمتد معظم مياه الحوض – أو البحيرة الاصطناعية – جنوباً إلي ما بعد خزان جبل الأولياء وقد يمتد ذيلها إلي ما بعد مدينة كوستي!. إذا ما نقلنا هذه الحالة الافتراضية إلي المجاري المائية الموسمية في جنوب جبال البحر الأحمر فسنجد أن العلاقة المائية بين النيلين الأزرق والأبيض تشبه إلي حد بعيد العلاقة بين خوري بركة ولانقيب!. ذلك لأن خور بركة بانحداره الحاد وحجم إيراده الكبير من مياه السيول يشبه النيل الأزرق بينما يشبه خور لانقيب بإيراده الضعيف وبطء جريانه واتساع مجراه في قطاعه الأسفل يشبه النيل الأبيض.
    من هذه المقارنة توصلنا إلي إمكانية التحكم التام في جريان خور بركة وذلك بإنشاء سد عند الموقع المناسب أسفل موقع الاقتران وبذلك يصبح من الممكن توجيه المياه المندفعة من خور بركة إلي الأراضي المنخفضة والواسعة التي ينتهي عندها خور لانقيب قبيل اقترانه بخور بركة. تبلورت هذه الفكرة أيضاً من خلال ما جمعناه من معلومات ومن خلال الدراسة المتفحصة والمتأنية للخرائط والصور الفضائية على نظام قوقل. تجمعت لنا من هذه المصادر حقائق لها دلالات عظيمة بالنسبة لطرحنا وقد سبقت الإشارة إلي بعضها والحقائق هي:
    (1) يقترن خور لانقيب بخور بركة عند الكيلو 55 تقريباً أعلى نهاية أو مصب خور بركة.
    (2) يعبر خور لانقيب قبيل اقترانه بخور بركة منخفضاً يتمهل فيه ويتسع مجراه لما يقارب الكيلومتر ويبلغ طول هذا المنخفض حوالي الثلاثين كيلومتر.
    من جهة أخرى تشير خريطة المساحة رقم (درديب/1-43) إلي أن هناك أحد عشر رافداً تصب في أسفل لانقيب وأن بين تلك الروافد رافد كبير وهو خور ويندي Windi وخور أوسير واولاب Osir Waolab الذي يبدو باتساعه أنه يشكل ذراعاً لمنخفض لانقيب. تشير الخريطة أيضاً إلي هناك سهل رملي من جهة الغرب من منخفض لانقيب.
    يُستخلص من هذه الحقائق هو أننا أمام هضبة داخل الجبال وهي هضبة تكثر فيها أشجار الدوم والكرمُت كما يتضح من خريطة المساحة المشار إليها.
    (3) أن إيراد خور بركة ورافده الأقوى خور عنسبا يحمل من المياه ما يفوق كثيراً إيراد خور لانقيب، كما أن درجة الانحدار الحادة لخور بركة والتي تصل إلي 6,2 كيلومتر للمتر الواحد تعطيه قوة إندفاع هائلة تجعله قادراً – إذا ما اعترضه سد – على الدخول إلي منخفض خور لانقيب بموقعه الأدنى من خور بركة.
    (4) أن خور بركة يجري في الفترة ما بين يوليو إلي سبتمبر في سيول متقطعة Spates تستمر ليوم أو يومين ويصل متوسط عدد السيول في الموسم عشرون سيلاً أو فيضاناً.
    (5) تشير مراجعنا إلي أن الإيراد السنوي لخور بركة يتراوح ما بين مائتي مليون متر مكعب ومليار متر مكعب أما متوسط الإيراد فيقدر بنصف مليار متر مكعب سنوياً.
    (6) إن كانت حمولة نهر عطبرة من الطمي تقدر بأكثر من ثلاثة كيلوجرام في المتر المكعب من المياه فإننا نفترض أن تكون حمولة خور بركة تصل إلي أربعة كيلوجرام في المتر المكعب من المياه وذلك بسبب قوة اندفاعه من بين أسباب بيئية أخرى. على ضوء هذا الافتراض فإننا نستطيع القول بأن حمولة خور بركة من الطمي وبقية الرواسب في مستويات الإيراد الثلاث المذكورة ستكون على النحو التالي:
    • في حالة 200 مليون متر مكعب 800 ألف طن من الطمي.
    • في حالة 500 مليون متر مكعب 2 مليون طن من الطمي.
    • في حالة مليار متر مكعب 4 مليون طن من الطمي.
    على ضوء هذه الحقائق نرى أن عملية فصل المياه عن الطمي يمكن أن تتم على النحو التالي:
    أولاً: إنشاء سد أعلى وهو سد تحويلي Diversion dam عند الموقع أسفل موقع إقتران خور لانقيب بخور بركة مباشرة. يقوم هذا السد بوظيفة ثلاثية فإلي جانب دوره في تحويل مياه بركة المندفعة بقوة نحو المنخفض أسفل خور لانقيب فهو أيضاً سد لتخزين المياه Storage dam كما هو سد لإرساب الطمي disiltation dam لسهولة التناول دعونا نطلق على هذا السد – أي السد الأعلى – سد بركة – لانقيب.
    ثانياً: سد ثاني وهو الأسفل وذلك لتخزين المياه الخالية من الطمي عند الموقع المناسب قبيل نهاية المجرى الجبلي لخور بركة. إن وظيفة هذا السد هي استقبال وتخزين المياه الصافية المنحدرة من سد بركة – لانقيب "الأعلى". لوقوع هذا السد أعلى الدلتا وكل الساحلي جنوب سواكن بما لا يقل عن الأربعين متراً فإنه سيكون بمثابة الصهريج العملاق الذي يشرف Commanding على كل الطريق الساحلي ما بين سواكن وقرورة. بمعنى آخر يكتسب سد التخزين – الأسفل – بإطلالته على الطريق الساحلي – يكتسب صفة مزدوجة وهي تخزين وتوزيع المياه. أسوة بالسدود التي تحمل أسماء أقرب المدن – كالرصيرص، سنار ومروي – لعله من المناسب أن نطلق عل هذا السد اسم سد طوكر!.
    النظام المقترح لتشغيل السدين:
    في تصورنا إن إحتجاز مياه خور بركة العكرة في بحيرة سد بركة – لانقيب الأعلى" الساكنة سيعجّل بترسيب ما تحمله من طمي وعوالق. لهذا سيكون من الممكن إطلاق المياه الصافية السطحية عبر بوابات هيدروليكية تصمم لهذا الغرض. بداهة ستعود المياه الصافية إلي مجراها الطبيعي وهو بركة لتنتهي رحلتها خلف سد طوكر. يمتد حوض السد إلي أعلى لمسافة قدرناها بخمسة وخمسين كيلومتر وبهذا الطول نتوقع أن يستوعب هذا الحوض كل المياه الصافية مهما كانت كميتها. إضافة لذلك فهناك عدد من الخيران الصغيرة التي تصب في حوض سد طوكر وأهمها من ناحية اليسار هي خيران: حماد حسين، ليماميب Layameib، فراكساليب Faraksaleib، مالحة Malha. أما من ناحية اليمين فهناك خيران باسم سودلاق Sodalagh، بوتاب Buttab وتامال Tamal.اننا نتوقع ان تتحول هذه الخيران الى ازرع لبحيرة سد طوكر عند امتلاءها .
    أما المياه الجوفية التي يتشبع بها الطمي في حوض سد لانقيب – بركة "الأعلى" فيمكن تجميعها أسفل حوض السد. بعد مرور هذه المياه من خلال مرشحات من الحجارة والحصى والرمل خلف جسم السد يتم إطلاقها عبر بوابات تحتية أو أنابيب لتواصل إنحدارها إلي حوض سد طوكر.



    نظام تشغيل سد بركة – لانقيب:
    إن موقع إقتران خور لانقيب بخور بركة قبيل الدلتا – أي في القطاع الأدنى من خور بركة – ووجود منخفض أسفل حوض خور لانقيب يمثل حالة طبوغرافية مثالية لتحويل مجرى خور بركة. ذلك لأن السيول المندفعة بقوة من أعالي خور بركة ستتحول تلقائياً نحو منخفض خور لانقيب حال اصطدامها بالسد المشترك (سد بركة – لانقيب) الذي يتم إنشاؤه عند "الموقع المناسب" على خور بركة وهو موقع غير بعيد من "مقرن" الخورين. بالموقع المناسب نعني الموقع الضيق والعميق الذي تتقارب عنده جدران خور بركة بما يشبه الأخدود أو المضيق. في مثل هذا الموقع تنتفي الحاجة لإنشاء أكتاف أو ردميات Embankments بتكلفة نرجح أن تكون باهظة بسبب وعورة المنطقة. من زاوية أخرى فإن الموقع الضيق يساعد في تشييد سد بالارتفاع الأقصى والممكن فنياً فكل متر إضافي في ارتفاع السد يعني المزيد من الإتساع في حوض التخزين وسعة أكبر لإرساب الطمي.
    عند استقبال منخفض خور لانقيب لمياه السيول سيتحول إلي حوض تخزين مؤقت فبعد ترسيب العوالق من طمي ورمال سيتم تصريف المياه السطحية الخالية من الطمي عبر البوابات العلوية أما المياه المختزنة في الطمي فسترشح عبر البوابات السفلية وفي كلتا الحالتين ستنحدر المياه الصافية مع إنحدار خور بركة ليتم تخزينها في حوض سد طوكر. بتتابع السيول عاماً بعد عام ستتكون كتلة ضخمة من الطمي والرمال مما يعني الانتقال المتدرج للدلتا من الساحل إلي الداخل!. نظراً لإتساع منخفض خور لانقيب ووجود عدد كبير من الروافد في قطاعه الأسفل فإن كتلة الطمي ستتمدد في شكل أذرع داخل مصبات تلك الروافد بعمق تتحكم فيه درجة الإنحدار وإتساع كل رافد. يصعب في هذا الطرح الأولي تحديد الفترة الزمنية التي يمتلئ فيها أسفل خور لانقيب والروافد بالطمي. بالطبع سيسهل قياس تلك المواقع بالوسائل الهندسية الحديثة مقرونة بارتفاع جسم سد بركة – لانقيب. أما الأمر الذي يصعب التكهن به – وهو المتغير – فهو كمية العوالق التي يحملها خور بركة في جريانه السنوي.. هل تشكل 4 كيلوجرام في المتر المكعب من المياه أم أكثر؟ هل ستظل معدلات الأمطار في المرتفعات الاريترية على ما هي عليه أم ستتغير لتغيير المناخ. تلك وغيرها أسئلة تفرض البدء في قياس إيراد خور بركة وقياس نسبة الأطماء. ستفرض أيضاً الاستعانة بالإيرادات السنوية في اريتريا وأن أقتضي الأمر الرجوع لإرشيف خور بركة عند السلطات الإيطالية فكما هو معروف ظلت اريتريا مستعمرة إيطالية لمدة نصف قرن (1890-1941). في نهاية الأمر ستتضح الأمور عند إكتمال دراسة الجدوى الاقتصادية والفنية. بعد مضي عدة عقود – يصعب تقديرها بسبب المتغيرات التي سبق ذكرها – سيصل سطح دلتا منخفض لانقيب إلي مستوى مجرى حوض بركة. لهذا ستتمدد الدلتا حديثة التكوين إلي مجرى خور بركة صعوداً مما يعني توزع وإنتشار مياه السيول على سطح منخفض أسفل خور لانقيب أسوة بخور بركة أعلى السد. بعد مرور فترة زمنية طويلة سيصل الإرساب إلي قمة أو ذروة (The Cerst) سد بركة – لانقيب.
    إستباقاً للوصول إلي هذه المرحلة سيكون من الضروري البدء في تشييد سلسلة السدود المتتالية تباعاً في المواقع المناسبة على القطاع السوداني من خور بركة وقبيل وصول كل سد إلي طاقته القصوى في الإرساب. أن أنسب المواقع لتشييد تلك السدود هي بطبيعة الحال المواقع التي تصب فيها الروافد في خور بركة وذلك لإيجاد متسعاً للتخزين والإرساب. تتمثل تلك المواقع صعوداً على خور بركة في مواقع الاقتران Confluences التالية:
    • بركة – ديلولية Khor Delauelai.
    • بركة – حداويد K. Hadaued.
    • بركة – كيراي K. Kerai.
    • بركة – هيرتاك K. Hertak.
    في تقديرنا ستنفذ تلك السدود بعد مائة وخمسين إلي مائتي عام وفي تقديرنا سينفذها أحفاد أجيال ما زالت في رحم الغيب!!.
    ملحوظة: أنظر الخريطة ادناه :

    رغماً عن كون خور لانقيب يمثل مستجمعاً لما يزيد عن المائة رافد تنحدر من الجبال والهضاب في جنوب الولاية إلا أنه أقل شأناً بكثير من خور بركة من حيث الإيراد المائي.
    يعزى هذا الإختلاف للتباين في مساحتي الحوضين ولمعدلات الأمطار التي يتلقاها كل منهما. إن إيراد خور لانقيب مهما كان قليلاً فإنه سيجد – في إطار طرحنا – سداً منيعاً من الطمي المتراكم أسفل مجراه. لهذا السبب سينتهي به الأمر إلي تكوين بحيرة قبيل كتلة الدلتا حديثة التكوين في أسفل مجراه.
    نظراً للمسامية العالية Porosity في تربة الدلتا بسبب اختلاط الرمل بالطمي فإن المياه المحتجزة خلف الدلتا ستواصل انحدارها عن طريق التسرب Seepage لتصل إلي المرشحات خلف سد بركة – لانقيب ليتم تصريفها عبر الأنابيب التحتية إلي حوض سد طوكر كما أوضحنا.
    نظراً لأن عملية التسريب تستغرق زمناً طويلاً فمن المرجح أن يكون لدينا بحيرة في وسط الجبال تتجمع ماؤها من هطول الأمطار الصيفية كانت أم شتوية ولكنها تتراجع بفعل التسرب.
    إن ظهور بحيرة ودلتا بكر في عمق الهضاب الجنوبية يفتح آفاقاً واسعة للإستثمار الزراعي والحيواني وفوق ذلك الإستثمار السياحي. تكتسب المياه الجوفية في الدلتا حديثة التكوين وتلك الواردة والمتسربة من خور لانقيب تكتسب أهمية عظيمة في طرحنا. ذلك لأنها ستكون إحتياطياً قليل التبخر بطبيعته الجوفية وينتهي عن طريق التسرب البطئ في حوض سد طوكر. من هذا الاحتياطي "الجوفي" تتوفر المياه في حوض سد طوكر "الأسفل" حتى في السنوات التي يتراجع فيها إيراد خور بركة علماً بأن القاعدة والضفاف الصخرية في حوضي السدين تمنع تسرب المياه المختزنة وفقدانها.


    آفــاق التنميــة
    الآن نأتي إلي بيت القصيد وهو: ما هو الإستخدام الأمثل للمياه المختزنة خلف سد طوكر؟.
    قبل الإجابة على هذا السؤال نعيد إلي الأذهان أن أهم مخرجات هذا الطرح هو: قيام مستودع ضخم لمياه عالية النقاء وصالحة للإستخدام البشري ربما دون الحاجة لمعالجات كيميائية وأن هذا المستودع متجدد أما من المياه السطحية في حوض الترسيب أو من المياه الجوفية الراشحة. ثالثاً أن مستودع المياه – أي سد طوكر – يعلو على السهل الساحلي والدلتا بالقدر الذي يسمح باندفاع المياه عبر الأنابيب بالجاذبية Gravity – أي بالراحة دونما حاجة لاستخدام الطلمبات الرافعة بما تفرضه من طاقة وقطع غيار وصيانة.
    الآن نعود إلي السؤال أعلاه ونجيب عليه بأن الإستخدام الأمثل لمياه سد طوكر – في نظرنا – يتمثل في مد أربعة أنابيب من السد لتتوزع على النحو التالي:
    الأنبوب الأول: إلي مدينة طوكر ليغذي كل صهاريجها تلقائياً متماً تراجع مخزونها من المياه أو نضب.
    الأنبوب الثاني: يمتد شمالاً محازياً للطريق البري سواكن - طوكر، أي حتى سواكن.
    الأنبوب الثالث: يمتد جنوباً محازياً للطريق البري طوكر – قرورة، أي حتى قرورة.
    الأنبوب الرابع: يمتد إلي دلتا طوكر إذا ما سمحت الموازنة المائية بري مساحات محدودة من أراضي الدلتا ففي طرحنا الإنسان والحيوان لهما الأفضلية.


    التنمية الريفية في الساحل الجنوبي:
    بتمويل من الصندوق العربي للإنماء الإقتصادي والإجتماعي يتواصل العمل بخطى حثيثة في إنشاء طريق طوكر – قرورة بطول 180 كيلومتر. عند إكتمال هذا الطريق سيكتمل الطريق الساحلي سواكن – قرورة بطول يفوق الثلاثمائة كيلومتر.
    ترى هذه الدراسة أن هذا الطريق يمكن أن يشكل قاعدة لإطلاق تنمية ريفية مستدامة في جنوب ولاية البحر الأحمر.
    تستند هذه الرؤية على العوامل التالية:
    1- إن الطريق سيوفر وسائل النقل التي تتسع بها الأسواق مما يشجع على الإنتاج متما توفرت أسبابه. في ذات الوقت يسمح الطريق بوصول السلع والبضائع من الأسواق الداخلية والخارجية. هنا ترى الدراسة أن إمكانية الحصول على تلك السلع والخدمات بأسعار معتدلة سيعطي حافزاً للإنتاج باعتباره الوسيلة الوحيدة للحصول عليها.
    2- في إقليم يشكو من الفقر المائي – كما هو الحال في أقاليم سودانية أخرى – أن مجرّد قيام صهريج يمتلئ بالمياه تلقائياً ودون مضخات رافعة من الأنبوب الناقل من سد طوكر سيدفع بالبدو الهائمين في الصحراء إلي الإستقرار كما سيدفع بالمواطنين المبعثرين في القرى والحلال التي تعيش في شظف العيش إلي التجمع عند الصهاريج القائمة على الطريق البري. لكي لا نفاجأ بقيام قرى عشوائية فإن واجب المحليات هو وضع مخططات سكنية ريفية تستجيب لمتطلبات المواطن وتنسجم مع روح العصر. إن دعوتنا لإعمار الطرق البرية بالمستوطنات دعوة تستبطن تعظيم الفائدة من تلك الطرق فهي بنيات أساسية باهظة التكلفة رغماً عن أعمارها الافتراضية القصيرة نسبياً! فكما هو معروف أن أهم مدخلات تشييد الطرق هو الأسفلت وهو مادة بتروكيميائية تفقد خواصها بفعل درجات الحرارة العالية وبقية العوامل المناخية.
    3- إن مجرد إنشاء طريق مسفلت بما يتطلبه الإنشاء من ردميات سيعني قيام "تروس" أو حاجز يتحكم في حركة مياه الأمطار المنحدرة من الواجهة الجبلية الشرقية وما تجود به الخيران من المياه وإن كان شحيحاً ومتقطعاً. لهذا نرى ان الطريق البري يمثل وسيلة لحصاد مياه الأمطار مهما كانت قليلة وللتحكم في المياه التي تنحدر من الخيران. في هذا الصدد نخشى أن تكون الشركات المنفذة للطريقين قد صرفت أموالاً في إنشاء برابخ Culverts لتصريف مياه الخيران وهو الأمر الذي يعني أن تبتلعها رمال الساحل أو تذهب هدراً إلي البحر. إن إنشاء هذه الطرق يمثل دعوة قوية لحكومة الولاية – وبصفة خاصة إدارة الغابات والمراعي – بأن تستنفر كل إمكاناتها لحفر جداول طولية لحصاد المياه المحتجزة في الشريحة ما بين الجبال والطريق البري.
    إن حصاد مياه الأمطار في هذه الشريحة من الشريط يسمح بزراعة الغابات وبنثر البذور حتى تتحول تلك الشريحة إلي مراعي.
    4- هناك إشارة إيجابية وردة في دراسة الاستشاري الألماني Rhein – Ruhr ومفادها أن الأنبوب المقترح لنقل المياه من حوض بركة الجوفي إلي سواكن وبورتسودان ستضاف إليه يومياً خمسة ألف متر مكعب من المياه الجوفية بالدلتاوات أسفل مجموعة الخيران التي سبق ذكرها.
    إن هذه الإشارة تحمل لنا بشارات بتوفر المياه الجوفية في مجموعة الخيران جنوب الدلتا وعددها ثمانية عشر خور. تبدأ تلك الخيران بخور مالاهاب وتتواصل جنوباً على النحو التالي: قمادلوب، عين، عليقا، عيد، جرجر، مكبان، واهات، حماليب، حمل، تيقات، ديرتت، علاته، شاكات، همبوكايت، وأخيراً خور قرورة. نظراً لأن مناسيب هطول الأمطار جنوب الدلتا أعلى من شمالها فيصبح من المؤكد وجود مياه جوفية أسفل تلك الخيران.
    لهذا ترى إن إنشاء صهاريج المياه بالقرب من مصبات الخيران التي تنحدر نحو الساحل يوفر المياه التي تطمئن بها النفوس ويوفر للمواطن الوقت الذي يهدر في جلب الماء. أن المواطن بعد أن تطمئن نفسه ويتوفر له الوقت لينخرط في عمليات إنتاجية رعوية كانت أم حرفية سيكون أكثر استعداداً وحماساً للبحث عن المزيد من المياه ليزرع بها حقلاً صغيراً أو لتربية الأغنام وليروي منها بعض الأشجار المثمرة في فناء منزله، سيجد المواطن تلك المياه في جوف الدلتاوات عند مصبات الخيران أو يجدها تحت الرمال التي تغطي بطون وقيعان الخيران وقد يتحمس من خلال العمل الجماعي بدعم من حكومة الولاية لبناء سدود بالحجر وبالعمالة المكثفة لحصاد تلك المياه. أن ما نرمي إليه هو أن المياه المنقولة بالأنابيب على امتداد الطريق الساحلي ستمهد لتوفير المزيد من المياه من خلال حصاد مياه الأمطار واستكشاف المصادر الجوفية وبناء السدود الحجرية الصغيرة.
    5- إن الحديث عن المصادر المائية الواعدة في خيران جنوب الدلتا يقودنا تلقائياً إلي الحديث عن خور قرورة الحدودي. تفيد المعلومات التي جمعناها من سكان قرية قرورة تفيد بأن خور قرورة شأنه شأن خور بركة يجري في سيول متقطعة ويقدر عددها بعشرين سيلاً كمتوسط سنوي. لهذا يُعرف عن أسفل خور قرورة أن مخزونه الجوفي لا ينضب.
    إن الحاجة للمياه على الساحلين الاريتري والسوداني تفرض على الدولتين التعاون لإنشاء سدود جوفية أو سدود متتالية مشتركة لحصاد مياه خور قرورة – إن العلاقات المتينة بين الدولتين تمهد لقيام هذا المشروع لتجني ثماره القرى في شمال الساحل الاريتري وجنوب الساحل السوداني.
    إن مياه خور قرورة سواء كانت من مصادر جوفية على ضفاف الخور أو من سدود تقام عليه ستشكل إضافة هامة لإمداد المياه لقرى الطريق الساحلي، على الأقل في القطاع جنوب الدلتا.
    6- الآن وقد تجمعت لدينا عدة عناصر إيجابية – أو كروت رابحة – للمجمعات السكانية التي نقترح قيامها على الطريق الساحلي ينبغي علينا توظيفها في إحداث تنمية بشرية على أسس راسخة ومستدامة. إننا نرى أن أنسب توظيف لتلك العناصر على الصعيد الاقتصادي هو الإنتاج الحيواني خاصة تربية الضأن والماعز وبداهة الجمال لأغراض كفاية الاستهلاك المحلي ولقيام صناعة اللحوم لأغراض التصدير.
    يستند اقتراحنا على عدة عوامل إيجابية نوجزها أدناه:
    (1) إن التجمع التلقائي حول صهاريج المياه على الطريق البري سيوفر المبرر الاقتصادي لتقديم الخدمات الأساسية التي لا غنى عنها لتحقيق التنمية البشرية. إن أهم تلك الخدمات هي الرعاية الصحية خاصة للأمومة والطفولة، التعليم، الرعاية الاجتماعية والإدارة الرائدة والمدركة لمرامي التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
    (2) إن تربية الأغنام والجمال هي المهنة الشائعة في المنطقة ولسكانها خبرات متوارثة يمكن صقلها بالتعليم والإرشاد والتوجيه. من ناحية أخرى نرى أن حصاد مياه الأمطار في المساحة ما بين الجبال والطريق البري على نحو ما قدمنا ومن ثم نثر بذور الأعلاف وزراعة الأشجار المقاومة للجفاف سيوفر الكلأ للفصائل الثلاث.
    (3) أن الطبيعة شبه الصحراوية والصحراوية السائدة في الساحل تعني خلو الساحل من أمراض الحيوان المتوطنة في السودان أو المنقولة من دول الجوار.
    (4) أن إعادة إعمار مشروع حلفا الجديدة الزراعي ودلتا القاش وتنفيذ مشروع شرق نهر عطبرة – الذي يبلغ مساحته مليون فدان ويخطط له أن يروي بالراحة Gravity Irrigation من سد أعالي عطبرة وستيت – لعوامل من شأنها أن توفر كميات هائلة من الأعلاف. ستتوفر الأعلاف من المشاريع الثلاثة المذكورة من زراعة الأعلاف والذرة ومن زراعة المحاصيل التي تشكل مخلفاتها ومخلفات تصنيعها أهم المدخلات لصناعة الأعلاف المركزة. إن المحاصيل التي نعنيها هي: الفول السوداني، القطن، السمسم وزهرة الشمس وبداهة الذرة والدخن.
    (5) أن توفر الأعلاف والمياه في منطقة خالية من الأمراض سيشجع على إنتقال أعداد كبيرة من الأغنام والماعز والأبقار من البطانة إلي الساحل لأغراض التسمين والتصنيع. كما هو معلوم يضاعف التسمين من أوزان الماشية ويزيد من جودة اللحوم.
    (6) بداية يحتاج نقل الأعلاف إلي وسيلة نقل تربط ما بين المشاريع الزراعية الكبرى بولاية كسلا مع الطريق الساحلي سواكن – قرورة. لحسن الطالع هناك طريقان وأن كانا يحتاجان إلي إعادة تأهيل ورصف والطريقان هما:
    • خطة السكة الحديد بمساره الشرقي والذي يحتاج إلي إعادة تأهيل. عند اكتمال إعادة تأهيله سيشكل هذا الخط حلقة وصل بين دلتا القاش ومشروعي حلفا الجديدة وشرق نهر عطبرة من جهة ومحطة السلوم من جهة أخرى. عند هذه المحطة تستطيع الولاية إنشاء ميناء بري للأعلاف. من هذا الميناء يتزود أصحاب الماشية على الطريق البري سواكن – قرورة بحاجاتهم من الأعلاف ليتم نقلها بالشاحنات حيثما أرادوا.
    • أما البديل الثاني فهو خاص بالقطاع الجنوبي من الطريق البري الساحلي يتمثل هذا البديل فيما أشارت إليه تقارير الهيئة القومية للطرق والجسور حول إعادة إحياء ورصف الطريق العابر للجبال الجنوبية وهو طريق همشكوريب – طوكر الذي يبلغ طوله 196 كيلومتر.
    (7) أما العامل المحرك للتوسع في الإنتاج الحيواني فهو صلة ساحل البحر الأحمر المباشرة بأسواق اللحوم السعودية – ومن خلفها دول الخليج – الأردن واليمن وهو أيضاً الطريق البري الساحلي الذي يمتد إلى مصر شمالاً وإلي اريتريا جنوباً وذلك بالإضافة إلي تموين السفن التي ترسو في الموانئ السودانية وهي بورتسودان، عثمان دقنة، وبشائر، والسفن العابرة. إن قيام الحظائر الرعوية المعتمدة على مياه سد طوكر وعلى المياه الجوفية أسفل الخيران وعلى الوارد من الماشية والأعلاف المنتجة بولاية كسلا مع توفر وسائل النقل البري سيوفر بيئة مثالية لقيام صناعة اللحوم ونعني بها المسالخ وتصنيع وتغليف وتبريد أو تجميد اللحوم. هي صناعة سيقبل عليها المستثمرون السودانيون والعرب وبهذا الإقبال ستنتفي أسباب تصدير الماشية الحيّة حتى وإن كانت للهدي؟ إن متطلبات الطاقة الكهربائية لصناعة اللحوم وتصنيع مخلفاتها ستفرض مد الشبكة القومية جنوباً من بورتسودان أو بإنشاء خط ناقل لكهرباء سد ستيت وأعالي عطبرة بحيث يعبر القطاع الجنوبي من جبال البحر الأحمر إلي طوكر ومنها يتفرع شمالاً وجنوباً ربما حتى الساحل الشمالي الاريتري مما يعني تصدير الكهرباء. دون ذلك، فهناك مولدات الديزل حيثما كان هناك طلب للكهرباء وهناك أيضاً الطاقة المتجددة كالطاقة الكهروضوئية أي الشمسية وهناك طاقة الرياح من قمم الجبل المطلة على الساحل.
    (8) عند انتشار حظائر التسمين على الساحل البحر الأحمر ما بين الطريق البري والشاطئ ستتكاثر بالضرورة مجمعات صناعة اللحوم. عند الوصول إلي هذه المرحلة ستتوفر الخدمات لقيام صناعات أخرى قد تفوق أهميتها الاقتصادية صناعة وتصدير اللحوم! تتمثل تلك الصناعات في: الدباغة، الصناعات الجلدية، الشحوم كصناعة غذائية وكإحدى مدخل صناعة الصابون، مسحوق العظام والدم المجفف لصناعة علف الدواجن، مسحوق العظام لبعض الصناعات الكيميائية، المصارين الدقيقة لصناعة الأوتار والخيوط الطبية، الأظلاف لصناعة الجيلاتين وهكذا. أما أسهل الصناعات وأكثرهاً عائداً ولها أسواقاً متسعة ونامية فهي بلا شك صناعة السماد العضوي وخامته الأساسية هي روث الحيوان، أن لهذا الروث – الذي يتبعثر في المراعي الطبيعية – قيمة عالية إذا ما تم جمعه من حظائر تربية الماشية وتم خلطه بأوراق الشجر والحشائش والأعلاف الخشنة. يتم تخمير هذا الخليط ويجفف ثم يعبأ في جوالات. يطلق على هذا السماد العضوي اسم الكمبوست Compost.
    يحظى هذا النوع من السماد بطلب عالي ومتصاعد في دول الخليج، ليس لاستخدامه في الحدائق العامة والمنزلية والقصور فحسب وإنما بسبب الطفرة الزراعية في معظم تلك الدول. نشأت تلك الطفرة من رغبة دول الخليج في تحقيق قدراً من الأمن الغذائي ولتوفر بعض المعطيات وهي: توفر رأس المال لدى المستثمرين والدعم السخي الذي تقدمه الحكومات، نظم الري الاقتصادية كالري بالتنقيط والرذاذ والري المحوري، البيوت المحمية، الحزم التقنية، القوة الشرائية لدى المستهلكين، قيام صناعات غذائية وأخيراً إقبال الجمهور – خاصة الشرائح المستنيرة – على الغذاء الطبيعي أو الـ Bio – Food.
    نستطيع القول ونحن على ثقة أنه لا يوجد منتج للسماد الطبيعي في العالم يستطيع منافسة المُنتج السوداني على ساحل البحر الأحمر فالسنابيك وحدها قادرة على أن تغمر أسواق الخليج بهذه السلعة.
    القرى السياحية على الطريق البري:
    أن دعوتنا لتنشيط السياحة الشعبية في الأحياء الطرفية بمدينة بورتسودان لا يعني أن يظل هذا النوع من السياحة قاصراً على تلك الأحياء. في الواقع نرى أنه بإنشاء الأنبوب الناقل للمياه بإمتداد الطريق البري سواكن – قرورة ستتكامل سبعة عوامل من شأنه أن تهيئ الأجواء لشيوع وتكاثر قرى السياحة الشعبية. بمرور الزمن ستنضج الخبرات في الخدمات السياحية وستتراكم مدخرات يُعاد استثمارها في السياحة، أن العوامل التي نعنيها هي: الطريق البري، الكهرباء، ساحل البحر الأحمر، مياه سد طوكر، إعتدال الطقس لنصف عام تقريباً (أكتوبر – مارس) وقيام المستوطنات الجديدة بما فيها من عمالة وأخيراً الإنتاج الحيواني وصيد الأسماك والصناعات التقليدية.
    بتوفر هذه العوامل تستطيع حكومة الولاية وضع مخططات سياحية على إمتداد الطريق البري ومن ثم عرضها على المستثمرين صغارهم وكبارهم سودانيين كانوا أم أجانب أو باستثمارات مشتركة.
    إن قيام المراكز السياحية على الطريق البري سيوسع فرص العمالة والاستخدام لسكان المستوطنات الجديدة، بداهة سيوفر سكان تلك المستوطنات الحماية للقرى السياحية وسيكونون بزعامة إمام مسجد القرية رُقباء على السلوك العام فهو الأكثر حرصاً على قيام سياحة نظيفة تتوخى العفّة والسلوك الإسلامي القويم.
    وماذا عن مشروع دلتا طوكر؟:
    بداية نوضح أنه رغماً عما ذكرناه عن النجاحات التي حققتها دلتا طوكر في السابق فإنا لدينا بعض التحفظات حول الزراعة في الدلتا ونوجز تلك التحفظات في الآتي:
    1) أن نظام الري الفيضي – أي بالغمر – نظام عقيم لا يستجيب لمتطلبات العصر ففيه إهدار مريع للمياه التي تمثل أغلى مورد بالولاية.
    2) أنه نظام يحصر الإنتاج في ثلث العام أو نصفه في أحسن الأحوال ويترك المزارع عاطلاً أو شبه عاطل لثلثي أو نصف العام وبذلك يسهم في استدامة الفقر بسبب البطالة الموسمية الممتدة.
    3) أنه يعتمد على إيراد خور بركة المتذبذب في إيراده ولا سبيل – تحت المعطيات السائدة – لإنشاء سدود لتصحيح الموازنة المائية بين عام وآخر كما يصعب التحكم في الفيضانات العالية التي قد يفوق إيرادها مليار متر مكعب فتذهب إلي البحر كما حدث في العام الحالي (2014).
    4) تخضع الدلتا لظروف مناخية غير طبيعية Climatical Oddities ونعني بها رياح الهايت أبيت صيفاً والهبباي شتاءً، بسبب هذه الرياح يصعب تجويد العمل الزراعي وتكثر الرمال الزاحفة التي تقلل من خصوبة أرض الدلتا أو تغطيها بالكثبان الرملية.
    5) تهدر إدارة مشروع دلتا طوكر المال والجهد عاماً بعد عام في إنشاء الحواجز الترابية للتحكم في مياه خور بركة ونثرها. تتكرر هذه العملية كل عام لصعوبة التكهن بمسارات المياه وكمياتها وبسبب الإنهيارات التي تحدث في الحواجز الترابية.
    6) وجود نظام شبه أقطاعي إذ لا ينال المزارعون – وهم أساس العملية الإنتاجية – إلا "ربع المسكين" البغيض. من زاوية أخرى يصعب على الحكومة تأميم أراضي المشروع فملاك الأرض سيطالبون بالتعويض بالقدر الذي يفوق مقدرات الحكومة علماً بأن التأميم أن تم لن يغير شيئاً في الحقائق التي وردت أعلاه.
    7) هناك متسع في أراضي السودان خاصة في ولاية كسلا القريبة والمتاخمة لولاية البحر الأحمر – لإنتاج ذات المحاصيل التي تنتجها الدلتا وتتفوق عليها بالري بالراحة وبقلة التكلفة. أن الأراضي التي نعنيها هي أراضي مشروع حلفا الجديدة وشرق نهر عطبرة وذلك بالإضافة إلي دلتا القاش.
    8) أنه من المؤكد أن إنتاجية المتر المكعب من المياه من خلال الطرح المقدم في هذه الورقة يعادل أضعاف إنتاجية نظيره الذي يعتمد عليه الري الفيضي المتبع حالياً في الدلتا.
    9) أخيراً حماية مدينة طوكر من الغرق إذ أصبحت أجزاء منها تحت مستوى الدلتا بثلاثة أمتار ويحميها السد الترابي للخور.
    كما يتفق الجميع أن الإنسان هو أداة التنمية وهو فوق ذلك هدفها. في طرحنا هذا نرى أن دلتا طوكر ما هي إلا وسيلة إنسانها لتحقيق الذات من خلال الزراعة، لهذا فإن كتب على الدلتا أن تظل عاجزة عن تحقيق طموحات مزارعيها فإن الحكمة تقتضي أن ينتقل هؤلاء المزارعون إلي حيث الآفاق أكثر اتساعاً والفرص لا تحصى. إن حالة مزارعي الدلتا لا تختلف من حيث الجوهر من حال أبناء شمال السودان الذين ضاقت بهم الأرض فانتشروا في أقاليم السودان وبصفة خاصة في الوسط. الجزيرة والعاصمة. هي ذات حالة من اغتربوا لسنوات طوال أو هاجروا إلي أقاصي الدنيا.
    بهذا الفهم نرى أن المزارعين بالدلتا – وعددهم أربعة وعشرون ألف مزارع – سيجدون بديلاً أحسن في القرى – أي المستوطنات – التي نقترح إنشاءها على إمتداد الطريق البري. في تلك المجمعات الجديدة ستتاح فرص العمل المجزي لعل أدناه رعاية الأغنام والماعز – أو كوكلاء – لمستثمرين غائبين نظير نسبة يتفق عليها من توالد القطعان والاستفادة من اللبن. هذا بالطبع بالإضافة إلي فرص العمل في الخدمات السياحية أو الصناعات الحرفية أو صناعة اللحوم لاحقاً. أما ملاك الأراضي – وعددهم 5724 مالك – فبإمكانهم الاستثمار في الإنتاج البستاني شريطة تطبيق نظم الري الاقتصادية كالري بالتنقيط (Drip Irrigation ) أو بالرذاذ (Sprinklers) وذلك وفق ما تسمح به الموازنة المائية عبر الأنبوب الرابع أو من المياه الجوفية. قد تواجه هؤلاء مشكلة التمويل وفي هذه الحالة سيكون من المناسب أن يسعوا إلي القروض الميسرة وأن يبحثوا عن شركاء مقتدرين وقادرين إدارياً وفنياً على تطبيق نظامي الري بالتنقيط والري بالرذاذ لزراعة الأشجار ولإنتاج الخضر. أن الشراكة قد تتطلب أن يتنازل ملاك الأراضي عن مساحات لصالح الشركاء الممولين كما تتطلب قبل ذلك حسم قضايا الميراث المستعصية!.
    الآثار البيئية السالبة:
    هناك حقيقة لابد من التسليم بها وهي أن أي إعتداء على البيئة سيكون له ثمن لهذا نعترف بأن التحكم التام في جريان بركة على النحو الذي جاء بهذه الدراسة ستكون له حتماً آثار بيئية سالبة.
    أن أبرز هذه الآثار هي:
    (1) تعرض الدلتا للزحف الصحراوي وتكاثر الكثبان الرملية ومن هنا تنشأ أهمية الإقتراح الذي قدمناه لملاك الأراضي بشأن الزراعة البستانية.
    (2) بمضي الزمن ستزحف مياه البحر المالحة إلي أراضي الدلتا مما يفقدها المصدر الجوفي للمياه ويؤثر سلباً على الأشجار عميقة الجذور.
    (3) ستتوقف التغذية السنوية للحوض الجوفي عند أعلى الدلتا – أي عند موقع كرمبيت – وتحسباً لهذا الاحتمال كان اقتراحنا بأن يخصص أحد أنابيب نقل المياه من سد طوكر إلي مدينة طوكر لتتزود بالمياه بصفة مستديمة ودون تكلفة تذكر – لقد طرحنا هذا الاقتراح رغماً عن ترجيحنا لتراجع عدد سكان المدينة وانتقال معظمهم إلي القرى الجديدة على الطريق البري حسبما جاء بهذه الدراسة. تلك بعض النتائج السالبة لطرحنا وهي أمور شائعة في معظم مشاريع التنمية سواء أكانت بنيات أساسية أو حتى مشاريع زراعية قد يتطلب قيامها إزالة الغابات! لهذا علينا أن نخضع المكاسب والآثار البيئية السالبة للتقييم الموضوعي شريطة أن نضع أمام أعيننا مصلحة إنسان الشرق في حاضره ومستقبله. في نهاية الأمر نعترف بأن أمر البيئة أمر شائك ومعقّد وأن كتب لطرحنا القبول فلابد من دعوة خبراء البيئة السودانيين والاستعانة بالمنظمات والخبرات الأجنبية لدراسة الأمر واقتراح السياسات التي تقلل من الآثار البيئة السالبة.
    الفراديس المفقودة في الهضاب الجنوبية:
    يتعرف العابرون لجبال البحر الأحمر أثناء رحلاتهم إلي ومن بورتسودان على الهضاب بأواسط الجبال وهي الهضاب التي قامت عليها مدن مثل سنكات وجبيت كما قام عليها منتجع أركويت السياحي ومطار كارثاقو. لقد كان هذا المطار نشطاً أبّان الحرب العالمية الثانية إذ كان يستقبل جرحى العمليات الحربية في اريتريا وفي شمال أفريقيا.
    أن كان خط السكة الحديد الذي ظل يعبر الجبال منذ عام 1905 ومن بعده الطريق البري منذ سبعينات القرن الماضي قد سمحا بالتعرف على تلك الهضاب، فهناك هضاب أخرى في شمال وجنوب البحر الأحمر قد تفوق هضاب الوسط روعة وجاذبية ولكنها ظلت مجهولة!؟.
    يُعزى جهلنا بتلك الهضاب لعزلتها الجغرافية إذ لا توجد طرق قومية عابرة لها ولا طرق محلية تصلها بما حولها. في حقيقة الأمر لم تكن العزلة مستحكمة بالقدر الذي نلاحظه اليوم؟ لقد علمنا من عدة مصادر بأن "اللواري" كانت تستخدم طرق برية غير معبدة في عدة مناطق بالولاية. أحد تلك الطرق كان الطريق الذي يصل ما بين بورتسودان وأبو حمد مباشرة وهو الأمر الذي يعني أنه يعبر المسالك بشمال سنكات. أما بالنسبة للهضاب الجنوبية فتفيد معلوماتنا بوجود طريق بري في السابق يصل ما بين كسلا وطوكر ماراً بسد أبو فاطمة عند منطقة تكرانا ويب Tikrana Weib. لا ننكر أن الإنطباع الذي يخرج به المتأمل في صور قوقل الفضائية هو أننا أمام منطقة جبلية تسود فيها الكتل والسلاسل الجبلية الوعرة.رغماً عن ذلك فالنظرة الثاقبة تكشف لنا عن وجود بقع ومساحات سهلية متفرقة في حضن الجبال. عند قراءة الصور الفضائية مقرونة بخريطة المساحة (درديب 1-46) نجد إشارات إلي البقع والمساحات بمفردات باللغة الانجليزية وهي:
    Open Plateau, Cultivation, gravel, Sand and gravel, sandy plain and grass.
    أي بما يعني: هضبة واسعة، منطقة زراعية، حصى ورمال، سهل رملي ومراعي.
    أن أهم تلك الهضاب – كما توضح الخريطة هي تلك المشار إليها بـ Open Plateau وتنبع أهميتها من اتساعها إذ تبلغ في تقديرنا ما يقرب من المائة كلم2 تتناثر عليها بعض التلال. تقع هذه الهضبة بين خور داقينت Dageint وخور درديب وفي وسطها يمر خط تقسم المياه بين حوض النيل وحوض لانقيب. تجدر الإشارة هنا إلي أن هناك تطابق ما بين ما رصدناه في الصور الجوية مع البيانات الواردة بخريطة المساحة. من زاوية أخرى سمحت لنا زيارة سبق أن قمنا بها في سبتمبر من عام 1974 إلي القرى بجنوب دلتا طوكر بجمع بعض المعلومات الشفهية من كبار السن من الرعاة الذين كانوا يتوغلون داخل الجبال بإبلهم بحثاً عن الماء والكلأ. من هؤلاء علمنا أن هناك ثلاثة هضاب خلف الواجهة الجبلية والهضاب هي:
    1) هضبة جرق: موقعها إلي الشمال الغربي من ميناء عقيق وتمتد جنوباً إلي الحدود الاريترية. ذكروا أنه من الممكن الوصول إليها بالعربات ولكنهم حذروا من وعورة الطريق.
    2) هضبة عريرب: تقع هذه الهضبة في عمق الجبال وعلى ذات خطوط العرض التي يقع عليها ميناء عقيق يصعب الوصول إليها بسبب وجود عقبة "قداين" ذكروا أيضاً أن الرعاة يذهبون إليها في فصل الصيف بحثاً عن الماء والمرعي.
    3) هضبة عيت: تقع في الأجزاء الجنوبية من الجبال وبالقرب من الحدود الاريترية ويمكن الوصول إليها من قرية عيت. لهذا فإننا نرجح أن تتطابق مواقع هذه الهضاب مع المواقع التي أشرنا إليها أعلاه.
    حوض لانقيب:
    لن يكتمل الحديث عن الهضاب الجنوبية إلا بإعطاء بعض الملامح العامة عن خور لانقيب، أو حوض خور لانقيب Langeb. كما سبق أن نوهنا يمثل هذا الخور ثاني روافد خور بركة بعد خور عنسبا كما هو أهم روافد خور بركة في الأراضي السودانية وذلك من حيث اتساع الحوض وحجم الإيراد المائي.
    تنحدر الروافد العليا لخور لانقيب من الكتلة الجبلية العالية التي تقع إلي الجنوب من أركويت بمسافة ثلاثين كيلومتر تقريباً وهي في ذات الوقت تقع إلي الجنوب الشرقي من محطة تهاميم للسكة الحديد وذلك بمسافة تقدر بنحو عشرين كيلومتر. يفوق ارتفاع هذه الكتلة الجبلية الألف وخمسمائة متر فوق سطح البحر ويتوسطها جبل سابيدانا Sabidana الذي يصل ارتفاع قمته 1895 متر. بهذا الارتفاع يعتبر هذا الجبل ثاني أعلى قمة في جنوب جبال البحر الأحمر بعد جبل هاموييت (2764 متر) عند الحدود الاريترية.
    أن المتابع لمجرى خور لانقيب من منابعه وحتى مصبه في خور بركة لابد وأن يلاحظ غرابة في مسار المجري! سيلاحظ أن المجري يتخذ شكل الرقم (7) في مساره العام. اكتسب المجري هذا الشكل بسب جريانه في نصفه الأعلى من الشمال إلي الجنوب ثم انعطافه انعطافاً حاداً في اتجاه الشمال الشرقي. يحدث هذا الانعطاف عند اصطدام المجري بالكتلة الجبلية التي تتكون من ثلاثة جبال وهي جبال: هامبولي Hamboli، اوهاربا Oharba، وجبل أومان Oman. عند هذا المنعطف يلتحم خور لانقيب برافده القوي وهو خور أودي Odi الذي ينحدر شرقاً من خط تقسيم المياه مع حوض النيل. من هذا الموقع يتواصل مسار خور لانقيب وهو أكثر انفراجاً ثم يغير اتجاهه نحو الجنوب الشرقي ليعبر منخفضاً قبل أن ينحدر ليصب في خور بركة.
    يتضح من الصور الجويّة أن خور لانقيب يشق معظم مجراه عبر جبال شديدة الوعورة وتوضح خريطة المساحة أن ما يربو على المائة خور متباينة الأطوال ترفد خور لانقيب بمياه الأمطار طوال رحلته إلي المصب. يُعرف عن المجاري المائية الموسمية سواء أكانت في جبل مرة أو في جبال النوبة أو كانت في جبال البحر الأحمر أنها تظل محتفظة في بطونها بقدر غير يسير من مياه الأمطار حتى بعد انتهاء موسم الخريف.
    تعزي هذه الظاهرة لعدة أسباب أهمها هو التآكل الذي يحدث في قيعان وبطون المجاري بفعل التعرية المائية. يحدث هذا التآكل في الصخور الأكثر هشاشة وفي مواقع هذه الصخور تتكون عبر الزمن منخفضات تغطيها الرمال فتتحول إلي مستودعات للمياه إذ تقوم الرمال بدور العازل الذي يقلل من التبخر بفعل حرارة الشمس أو بفعل التيارات الهوائية. يعزى تشبع بطون الخيران لسبب آخر وهو عودة المياه التي تتسرب إلي الضفاف وما خلفها عند جريان الخور. عند انتهاء موسم الأمطار وتوقف الجريان السطحي تبدأ المياه المختزنة في الضفاف في العودة إلي المجرى ولكنها تظل مختفية عن الأنظار إلا في حالات المنخفضات حيث تتكون برك موسمية. يلجأ الرعاة عادة إلي هذه المصادر بمواشيهم وقد يقومون بحفر الآبار الضحلة أو "الجمامات" وهي ما يطلق عليه "المشاوش" في غرب السودان، على هذه الخلفية نستطيع القول أن خور لانقيب بروافده الكثيرة يشكل مصادر شبه مستدامة للمياه أينما سمحت مورفولوجية الخور بذلك.
    أن أنسب المواقع لحصاد المياه المتسربة في بطون الخيران هي مواقع الاقتران، أي الـ Confluences حيث يمكن حصاد المياه السطحية والجوفية من مصدرين. إن الوسيلة العملية لحصاد تلك المياه هي السدود الحجرية وهي أشبه بالقناطر Barrages – دون ذلك فهناك السدود التحتية Subterranean dams والتي تقوم باحتجاز المياه المتسربة تحت الرمال.
    تزداد جاذبية المواقع لتشييد سدود حصاد المياه أن كانت في مضايق Gorges تقلل تكلفة التشييد أو كانت في قطاعات من المجرى قليلة الانحدار مما يسمح بتخزين أكبر كمية من المياه. أما أفضل المواقع فهي التي تجمع بين الخاصيتين.أن سدود حصاد المياه التي نتحدث عنها هي سدود – فوقية كانت أم تحتية – مبسطة تشيد بالحجارة التي يمكن تجميعها – أو تفجيرها – كما تشيد بالرمال في بطون الخيران والمياه المختزنة تحتها. هي أيضاً سدود تعتمد على العمالة المكثفة Labour Intensive، أما الأسمنت فإن تعذر نقله بالشاحنات فالجمال قادرة على الدخول والصعود إلي أكثر المواقع وعورة. هي في النهاية سدود حجرية Masonry dams كما هو الحال مع خزان سنار (1925) وخزان جبل الأولياء (1937) مع الإختلاف الكبير في طبيعة المجرى المائي والأحجام والسعات والأهداف.بداهة ستكون أنسب المواقع لتشييد سدود حصاد المياه هي المواقع القريبة من الهضاب التي يمكن استغلالها اقتصادياً. أما أن أرادت حكومة الولاية إثراء الحياة البرية في الجبال الجنوبية فسيكون من الضروري الإكثار من تشييد سدود حصاد المياه أينما وجدت المواقع المناسبة ذات الإيراد المعقول. تجدر الإشارة هنا إلي أن المزارعين بدلتا طوكر كانوا يشتكون من الخنازيّر البريّة التي تتسلل من الجبال وتضر بمحاصيلهم.
    القيمة الاقتصادية للهضاب:
    في بلد معظمه سهلي كالسودان تسجل درجات الحرارة أعلى المعدلات في العالم كما هو بلد مرشح للمزيد من الحرارة بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري التي تمخض عنها تغيير المناخ وارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض.على ضوء هذه المعطيات والمستجدات تكتسب المناطق الجبلية المرتفعة قيمة اقتصادية بسبب اعتدال طقسها. لهذا نرى أن يتجه للتخطيط الاقتصادي إلي أعمار الهضاب الموجودة في كل المناطق الجبلية في السودان تشمل تلك المناطق كتلة جبل مرة، جبال النوبة، جبال الانقسنا وبالضرورة جبال البحر الأحمر.
    كيف نجعل الفراديس المنسية بجنوب ولاية البحر الأحمر حاضرة في حياتنا:
    إننا إذ نعي كل الوعي الآثار الضارة للطقس الحار على الإنسان والحيوان في سهول السودان وإذ نستصحب ما أكدته الأوراق العلمية في هذا الشأن نرى أن التوجه نحو الهضاب الجنوبية بجبال البحر الأحمر يصبح أمراً ضرورياً وحتمياً.إن الوسيلة العملية لبلوغ هذه الغاية هي فتح مجالات الاستثمار تحت مظلة خطة محكمة لتوفير أهم البنيات الأساسية وجرعة قوية من الحوافز والإعفاءآت.أن الاستثمار الذي ننشده لهضاب جنوب الولاية استثمار ذو شقين استثمار سياحي واستثمار في الإنتاج الحيواني.
    أولاً: الاستثمار السياحي:
    استباقاً للزمن ولا اقتناعنا بأن الدراسات الميدانية والفنية ستؤكد ما ذهبنا إليه حول الهضاب ومصادر المياه فإننا نورد أدناه مكامن القوة لصناعة السياحة في جنوب ولاية الحر الأحمر.
    1- الهضاب بطقسها المعتدل طوال العام والأكثر اعتدالاً في فصل الشتاء.
    2- إمكانية حصاد المياه في خور لانقيب وروافده.
    3- الطبيعية الجبلية بما يلفها من غموض وتثيره من تحد للسودانيين ومعظمهم من سكان السهول. أن الإثارة تبلغ مداها عندما تهطل الأمطار على الجبال فتكتسي بالخضرة، حينها يقف السائح مبهوراً أمام الجبل الشوامخ مثل جبل سابيدينا وجبل هاموييت.
    4- وجودة ستة خلجان وهي خلجان: رأس كاسر، رأس أبو يابس، الريح، بهادور، عقيق وخليج ترنكتات، تتميز هذه الخلجان بالرمال ناصعة البياض والأعماق الضحلة، بما يسمح بممارسة شتى أنماط الرياضة المائية.
    5- على بعد يسير من ترنكتات ورأس مقدم توجد سلسلة من الشعب المرجانية بطول يقدر بخمسة وعشرين كيلومتر. نشير هنا إلي أن عالمي البحار كوستو وهانزهيس سبق لهما أن صوراً أفلاماً وثائقية عن الشعب المرجانية والحياة الفطرية في ساحل البحر الأحمر كما أن الدكتور بيتر قاين الذي كان محاضراً بكلية العلوم بجامعة الخرطوم قد أعد هو الآخر فليماً وثائقياً عن الحياة المائية في ساحل البحر الأحمر. أن مثل هذه الأفلام الوثائقية و غيرها تصلح كمادة مؤثرة في الترويج والجذب السياحي.
    6- استطعنا أن نحصى 26 جزيرة في مياه السودان الإقليمية. من بين هذه الجزر توجد ثمانية جزر قريبة من الساحل الجنوبي وهي جزر ترنكات، بكاباي، قوبان، حجر، بها دور، رأس عابد وسيل بحر. تسمح هذه الجزر بتنظيم الرحلات البحرية والنزهات.
    7- ميناء عقيق التاريخي وجزيرة بها دور وما فيها من آثار.
    8- بحيرة بشيري ذات الملوحة العالية وهي عبارة عن منخفض يقع إلي الشمال من ميناء عقيق ويحتجز مياه البحر مما زاد من ملوحتها وذلك بما يسمح بالترويج للعلاج الطبيعي.
    9- الثروة السمكية التي يمكن أن توفر الوجبات الشهية للسياح.
    10- الطريق البري الذي يشكل حلقة وصل ما بين المواقع السياحية على امتداد الساحل وإمكانية ربطه بالهضاب الداخلية وبسواكن وبورتسودان حيث يوجد المطار وتتوفر كل وسائل النقل.
    إن صياغة منظومة سياحية تجمع ما ين الجبال والهضاب من جهة والبحر بخلجانه وساحله من جهة أخرى يتطلب إعداد دراسة معمّقة من قبل بيوت الخبرة في صناعة السياحة ومن ثم وضع مخطط سياحي محكم لإدماج كل عناصر الجذب السياحي التي سبق ذكرها. يلي ذلك تحديد البنيات الأساسية وعلى رأسها الكهرباء وإن كان ذلك في مراحل. أخيراً تأتي مرحلة طرح المواقع للاستثمار السياحي في شتى صوره الإيوائية والخدمية والترويجية.
    أن أنجح المشاريع السياحية هي التي يقبل عليها السواح في كل المواسم ونعتقد أن تكامل الهضاب مع البحر يستوفي هذا الشرط.
    ثانياًَ: الاستثمار في الإنتاج الحيواني:
    أننا نرى أن الطقس المعتدل في الهضاب الجنوبية يشجع على توطين سلالات الأبقار ذات الإنتاجية العالية من الألبان وهي السلالات الأجنبية والمهجنة. كما ذكرنا سلفاً أن المشاريع الزراعية الكبرى بولاية كسلا يمكن أن تشكل مصدراً للأعلاف إذ ما تيسر النقل السككي عبر محطة درديب أو البري المباشر إذ ما أنشأ طريق همشكوريب – طوكر. بفعل ذات المعطيات يمكن أن ينشط الاستثمار في إنتاج الدواجن بشقية اللاحم والبياض وذلك دون الحاجة إلي الحظائر المقفولة واستخدام أجهزة التكييف.
    في كلتا الحالتين سيكون للتمويل المصرفي الميسر دوراً حاسماً في قيام ونمو تلك الاستثمارات.أن الأفضلية النسبية في الإنتاج الحيواني ليست قاصره على الهضاب الجنوبية فهناك متسع لقيام مشاريع مماثلة حول سنكات وجبيت وفي أطراف هضبة أركويت وفي وغيرها من الهضاب الجنوبية فهناك متسع لقيام مشاريع وفي غيرها من الهضاب المجهولة في شمال سنكات. أن الاستثمار السياحي والحيواني في تلك الهضاب يتطلب إنشاء المزيد من السدود على الخيران لحصاد المياه حتى تتكامل مع المياه التي يحملها أنبوب النيل في مستقبل نأمل أن يكون قريباً.من زاوية أخرى نرى أن أهم دعم يمكن أن تقدمه الحكومة الاتحادية لولاية البحر الأحمر لتنطلق في مجال الإنتاج الحيواني عالي الجودة هو إعادة تأهيل الخط الحديدي القضارف – هيا الذي ظل معطلاً لقرابة العقدين. تكمن أهمية هذا الخط في كونه يمثل أرخص وسيلة لنقل الأعلاف الخشنة والمركزة من دلتا القاش، من مشروع حلفا الجديدة ومن مشروع شرق نهر عطبرة كما ذكرنا سابقاً. إن ما نرمي إليه بهذا الطرح هو تشبيك اقتصادات ولايات الشرق الثلاث وفقاً للأفضلية النسبية لكل منها: القضارف بالحبوب والماشية، كسلا بالأعلاف من مشاريعها المروية والبحر الأحمر بساحلها الأقرب لأسواق مصر "براً" والخليج بحراً. هو ساحل خالي من أمراض الحيوان كما هو خالي من نزاعات الأرض. هو أيضاً ساحل يرتبط بالداخل بالسكة الحديد وبطريق همشكوريب – طوكر (196 كيلومتر) المقترح ويشقه طريق تتوفر حوله المياه من سد طوكر. إن التشبيك يعني قيام فضاء اقتصادي واحد ومتكامل فتعظيم الفائدة من المنتج السوداني من اللحوم لا يتحقق ما لم تقم صناعة راسخة للحوم على قاعدة الأفضلية النسبية.
    التعاون المائي السوداني – الاريتري:
    أشارت ورقة العمل التي أعدها الاستشاري البريطاني أندرسون ANDERSON إلي أن الاتحاد الأوروبي سبق أن قدم التمويل لدولة اريتريا في عام 1998 لوضع خطة موجهة Master Plan لتنمية حوض خور بركة. تهدف الخطة فيما تهدف إلي إنشاء سدود على بعض روافد خور بركة وتعكف الإدارات المعنية في اريتريا على وضع التصميمات لتلك السدود.
    خشية أن ينشأ تضارب بين مصالح الدولتين حول إيراد هذا المجرى لهذا نرى أن تتعاون الدولتان في تحقيق أعظم الفوائد من هذا المجرى أسوة بالمجريين المائيين الآخرين وهما خور القاش وخور قرورة. تنطبق على هذه المجاري الثلاثة صفة المجاري الدولية Transnational Rivers لهذا نستطيع القول بأن القانون الدولي للمجاري المائية لغير الاستخدامات الملاحية لسنة 1997 ومبادئ هلسنكي تنطبق بامتياز على هذه الأنهر الثلاثة. على هدى ذلك القانون وتلك المبادئ يستطيع خبراء القانون الدولي للمياه في الدولتين صياغة الاتفاقيات التي تحقق الاقتسام العادل والمنصف للمياه في المجاري المائية للثلاثة. أننا مطمئنون على أن الإدارة السياسية في الدولتين ستدفع في هذا الاتجاه إذ تسود بينهما حالة من الوفاق والانسجام وهو الأمر الذي يمهد لتجاوز كل الاختلافات التي يمكن أن تبرز.
    لقد وقف السودان مع الثورة الاريترية منذ اندلاعها في عام 1958 إلي أن توجت نضالها بتحقيق الاستقلال. أما اريتريا فقد ردت التحية بأحسن منها إذ لعبت دوراً أساسياً في تحقيق سلام الشرق التي أعادت السلام لربوعه وانتزعت له حقوقه في الاقتسام العادل للسلطة والثروة.
    على هذه الخلفية نمت وازدهرت العلاقات بين الدولتين وتجذرت بالتوقيع على عدد كبير من اتفاقيات التعاون وهو الأمر الذي يجد قبولاً واستحساناً من الشعبين.أن من رأينا أن هذه الأجواء الإيجابية تمهد ليس للتوقيع على اتفاقيات المجاري المائية الثلاثة فحسب بل إلي تطويرها إلي أكثر من ذلك. لقد أكدت تجارب الدول المتشاطئه على أنهر دولية على أن الصيغة الأمثل للانتفاع بتلك المجاري هي تنمية أحواضها وفقاً لخطط شاملة تتجاوز الحدود الدولية، تنفذ تلك المشاريع وتشرف عليها إدارات مشتركة. في إطار مشاريع تنمية تلك الأحواض يستطيع السودان أن يقدم خبراته في تشييد وإدارة السدود وفي الزراعة والإنتاج الحيواني وفي تعويض المتأثرين. كخطوة أولى ندعو الدولتين إلي تبادل المعلومات حول المجاري المائية الثلاثة وإلى تبادل الأفكار والاستعانة بالتجارب الدولية المعاصرة. ونحن نتناول هذا الموضوع لابد وأن تستصحب بعض الحقائق وهي:
    • بينما يحظى السودان بجريان نهر النيل وروافده في أراضيه فإن اريتريا تخلو من الأنهر المستدامة.
    • أن اريتريا وإن كانت دولة جبلية في معظمها إلا أنها تمتلك أرض زراعية في الهضاب ومدرجات الجبال وأرض سهلية في غربها حيث يجري خور القاش.
    • أن متطلبات التنمية التي يتطلع إليها الشعب الاريتري تتطلب تعاون السودان بتقديم خبراته في إنشاء وإدارة السدود واستصلاح الأراضي الزراعية السهلية. ينتظر من السودان أيضاً التعاون مع اريتريا في الحصول على قروض وتسهيلات مالية من الصناديق العربية.
    • أن المنابع والروافد العليا للمجاري المائية الثلاثة تتجمع وتنحدر من المرتفعات الاريترية وعلى سبيل المثال بشكل القطاع الاريتري من خور بركة 68% من الطول الكلي للمجرى وينطبق نفس الحال بالنسبة لخوري القاش وقرورة وإن كانت ذلك بنسب متباينة.
    • أن كان القطاع السوداني من خور بركة يسمح بإنشاء السدود المتتالية حسبما جاء بهذه الدراسة فإن طبوغرافية الأرض في القطاع السوداني من كل من خور القاش وقرورة لا تسمح بإنشاء سدود لهذا لابد من التعاون بين الدولتين للتحكم في هذين المجريين حتى لا تذهب مياه خور قرورة إلي البحر في وقت تشتد إليها الحاجة لتنمية ساحل البحر الأحمر بشقيه السوداني والاريتري. من جهة أخرى فإن التحكم في مجرى القاش – ويطلق عليه نهر مارب Marab في اريتريا، قبل خروجه من الجبال سيحقق لاريتريا للتوسع الزراعي، يحمي مدينة كسلا ومدن الدلتا من الفيضانات العالية ويسمح بالاستغلال الأمثل لأراضي دلتا القاش وذلك بما تسمح به حصة السودان من الإيراد السنوي.
    • هناك عامل تداعيات تغير المناخ فوفقاً لتقارير الهيئة الحكومة لتغير المناخ (I.P.C.C) وهي هيئة عالمية تتكون من أكثر من ألفين عالم وخبير في شتى التخصصات، فإن تفاعل الرياح الجنوبية الشرقية مع ارتفاع معدلات التبخر في المحيط الهندي سيتسبب في تكرار الأمطار الغزيرة في الهضبة الاريترية. تفيد التقارير أيضاً إلي أن ارتفاع درجات حرارة سطح الأرض وموجات الحرارة ستسبب في جفاف يعقب مواسم الأمطار. تلك في رأينا عوامل تعزز دعوتنا إلي قيام تعاون وثيق بين الدولتين لتحقيق الانتفاع الأمثل من مياه الخيران أو الأنهر الثلاثة.
    • أن الحديث عن اتفاقيات التعاون بين اريتريا والسودان لتنمية أحواض أنهر الشرق الموسمية الثلاثة (بركة، القاش، وقرورة) يقودنا تلقائياً إلي قضايا المياه في حوض النيل وهي التي يشار إليها بالانجليزية Hydro politics of the Nile Basin أن ما طرحناه من أفكار حول عقد اتفاقيات حول الاقتسام العادل والمنصف لمياه هذه الأنهر الموسمية وإنشاء سدود لهذا الغرض - خاصة على خور بركة – يصب في نهاية الأمر في مصلحة الحصة المشتركة للسودان ومصر من مياه النيل. أن تعظيم الفائدة من نصيب السودان من الأنهر الثلاثة سيقلل من اعتماد قطاع كبير من السودانيين – أي أكثر من مليون مواطن – على مياه النيل. بهذه الإضافة يتعزز موقف السودان المائي .
    ذكريات عزيزة ودعوة لأساتذة وطلاب جامعة البحر الأحمر:
    يعود اهتمامي بجنوب ولاية البحر الأحمر إلي عام 1974، بعد أنتهائي من رسالتي الدكتوراه والماجستير بفرنسا , كنت حينذاك أشغل وظيفة ضابط إداري مكلف بالبحوث بالمكتب التنفيذي لوزير الحكم الشعبي المحلي المرحوم جعفر محمد علي بخيت، بتلك الصفة قمت برحلة علمية لإعداد دراسة حول إمكانات ومجالات التنمية في تلك المنطقة القصّية التي كانت ولا زالت تعيش على هامش التنمية في إقليم يعاني نفسه من التهميش وهي ولاية البحر الأحمر! عند وصولي إلي بورتسودان قدمت خطاب التكليف الصادر من وكيل الوزارة إلي المسئولين برئاسة المديرية. لحسن الطالع كانت المديرية بصدد إرسال بعض منسوبيها في مأمورية إلي طوكر فتم حجز مقعد لي بالسيارة المغادرة. وصلت إلي طوكر في الأسبوع الأول من سبتمبر 1974 مزوداً بخطاب من رئاسة المديرية واستقبلت بالترحاب من قبل زميلي المدير التنفيذي لمجلس ريفي طوكر المرحوم أبوبكر علي بدوي ومساعده الضابط الإداري الهمام عبد القيوم محمد إبراهيم متعه الله بالصحة والعافية. أصر الأخ عبد القيوم على استضافتي في منزله بدلاً عن الاستراحة الحكومية وما زلت أحمل له ولأسرته الكريمة مشاعر الود والامتنان. قضيت بضعة أيام في جمع المعلومات من مجلس ريفي طوكر ومن رئاسة دلتا طوكر وأتيحت لي الفرصة لزيارة بعض قطاعات الدلتا. قمت أيضاً بزيارة أطلال ميناء ترنكتات الذي كان يشكل منفذاً لدلتا طوكر إلي بورتسودن فعبره كان ينقل القطن وكانت تصل السلع التموينية. تزامن وصولي مع تراجع جريان خور بركة ولكن دون أن يتوقف. كان عبور السيارات للخور ممنوعاً، أو بالأحرى مستحيلاً فجريان الخور والتربة الطينية اللزجة لا يسمحان بعبور السيارات مهما كانت قوتها.
    رغماً عن ذلك فقد كنت مصراً على مواصلة رحلتي إلي جنوب الدلتا حتى أتمكن من إنجاز مهمتي. لهذا أضطر الزملاء بالمجلس الريفي إلي إيجار جمل "مدجن وأليف" وتكليف أحد العمال بمرافقتي عند عبور المجاري التي يتوزع عبرها خور بركة على الدلتا. حذرني الزملاء أبوبكر وعبد القيوم بأن خور بركة يفاجئ المواطنين أحياناً بسيول في نهاية الموسم وقد تجرف تلك السيول معهاً أحياناً جذوع أشجار تشكل خطراً على العابرين. كانت تلك هي تجربتي الأولى في ركوب الجمال كما كانت في ذات الوقت قبل الأخيرة إذ عدت بذات الطريقة عند العودة!.
    كان خور بركة يجري أحياناً في جداول gullies ضيقة يسهل على الجمل عبورها.كانت تنتظرني عربة عند أطراف الخور وأستعنت بها في المرور على مجموعة من القرى أذكر منها: مرافيت، عدوبنا، عيتربا، عيت، عيتاي، موسي فنديب وقرورة السودانية التي عدنا منها لزيارة قرية عقيق وأطلال مينائها التاريخي. كانت الأرض حول ميناء عقيق أرض مالحة ومشبعة بقدر عالي من الرطوبة. وحلت سيارتنا في تلك الأرض المالحة والرطبة فخف أبناء عقيق لمساعدتنا تارة بفروع شجيرات "المانقروف" وتارة بقوة الدفع "الجماعي" شكرناهم على مرؤتهم وعدنا سوياً إلي قرية عقيق.
    قمت بما يشبه الاستبيان بين سكان تلك القرى إذ كنت أسألهم عن حياتهم وعن سبل كسب العيش وعن مشاكلهم وكانت السمة العامة هي الفقر المدقع. في واقع الأمر لم أكن في حاجة للاستبيان فالفقر كان يسكن الأجسام النحيلة ويظهر في الوجوه وفي الأثمال البالية التي تغطي أجساد معظمهم كما يظهر في منازلهم والقليل من الأغنام والماعز التي يربونها. علمت من السائق أن مرض السل الرئوي شائع بين سكان تلك القرى وأن 70% من سكان إحدى القرى مصابون بهذا المرض! أن شيوع مرض السل لأكبر دليل على تفشي سوء التغذية، لم لا فالأمطار ليست بالقدر الذي يكفي لزراعة محاصيل توفر لهم الغذاء كما أن فقر المرعى في تلك السنوات لا يشجع على زيادة قطعان الماشية. ليس أمام هؤلاء إلا العمل الزراعي الموسمي بالدلتا وامتهان الحرف اليدوية التي تعتمد على سعف الدوم والأخشاب التي يقطعونها من مجاري الخيران أو جذوع الأشجار التي ينتشلونها من خور بركة عند جريانه. عند عودتي إلي الخرطوم سلمت تقرير الرحلة إلي المدير التنفيذي لمكتب الوزير ثم ألحقته بثلاث مقالات نشرت تباعاً بصحفية "الصحافة". كانت المقالة الأولى بعنوان: "السياحة في مديرية البحر الأحمر" ونشرت بتاريخ 28/9/1974، والثانية بعنوان: "ربع المسكين وطوكر الحزين" ونشرت بتاريخ 2/10/1974، أما المقالة الثالثة فقد كانت بعنوان: "مشكلة المياه في بورتسودان" ونشرت بتاريخ 13/10/1974. قصدت من سرد تجربتي الخاصة مع جنوب ولاية البحر الأحمر أن أمهد لدعوتي لإدارة وأستاذة وطلاب جامعة البحر الأحمر ليسعوا إلي توظيف عطلات الطلاب الدراسية في الانتشار في ربوع الولاية لأغراض البحث العلمي.
    في واقع الأمر يلاحظ أن هناك فجوة معرفية كبرى حول مناطق من الولاية ظلت مجهولة أما بسبب عزلتها الجبلية كحوض خور لانقيب أو البحرية كالجزر المتناثرة في المياه الإقليمية على امتداد الساحل السوداني. إن من رأينا أنه قد آن الأوان لأن تخرج تلك المناطق والجزر إلي بؤرة الضوء ليتعرف عليها السودانيون من حيث المعرفة المطلقة وأن يُلم الساسة وصانعوا القرار بما تحفل به تلك المناطق من موارد طبيعية واقتصاديات الموقع Economies of Location حتى تدخل في حساباتهم عند وضع الخط التنموية والإستراتيجية. لهذه الأسباب وغيرها نتقدم باقتراح إلي السيد مدير جامعة البحر الأحمر والسادة الأساتذة وأبنائي الطلاب والطالبات بأن يستثمر الطلاب عطلاتهم في القيام برحلات راتبة لاستشكاف مجاهل تلك المناطق وليسبروا أغوارها ويفتحوا أبوابها التي ظلت مغلقة لدهور طويلة. تتمثل البداية في رأينا لتجسيد هذا المشروع على الصعيد العملي في جمع كل الدراسات والوثائق سواء أكانت بدار الوثائق المركزية أو برئاسة الولاية أو في مدونات السودان Sudan Notes and Records مما كتبه قدامى الإداريون البريطانيون والسودانيون في سنوات خلت أو فيما دونه الباحثون ورصده الصحفيون. تتمثل أيضاً في رصد وجمع المعلومات الشفهية من كبار السن من الرعاة الذين تجولوا بقطعانهم في تلك المناطق ومن البحارة الذين كانوا يبحرون بالسنابيك إلي الجزر في مياهنا الإقليمية. بالطبع لن يكتمل هذا الحشد من المعلومات دون جمع الخرائط التفصيلية والكنتورية ودون التقاط صور جوية للتضاريس والمجاري المائية لتضاف إلي صور قوقل التي تكتمل بها الصورة!. بتوفر هذه المواد العلمية تستطيع إدارة الشؤون العلمية بالجامعة تنظيم دورات من العصف الذهني للطالبات والطلاب المرشحون للرحلات العلمية وذلك تحت إشراف أساتذة الجامعة والمتعاونين معها. لاستقصاء ما ذهبنا إليه حول خوري بركة ولانقيب نرى أن تكون ضربة البداية بهذين الموقعين. أن وصول البعثة العلمية إلي منخفض لانقيب سيتيح لأعضائها الفرصة لجمع الحقائق العلمية وفقاً لتخصصات المشاركين وذلك على النحور التالي:ـ
    • أننا ننتظر من أساتذة وطلاب كلية الجيولوجيا القيام بكشوفات أولية عن المعادن التي تكتنزها الجبال وعن تلك التي تفتت بفعل التعرية المائية إلي ذرات صغيرة في بطون الخيران وقد يكون من بينها الأصفر الرنان؟
    ننتظر منهم استخدام وسائل الاستشعار الحديثة للكشف عن مواقع وجود المياه في بطور الخيران.
    • ننتظر من طلاب العلوم الاجتماعية والإنسانية دراسة عن أحوال البدو الذين يتجولون بين الخيران والهضاب كما ننتظر منهم جمع التراث وتدوين التاريخ من كبار السن.
    • أما طلاب كلية العلوم فنتوقع منهم حصر الحيوانات والزواحف والطيور الموجودة في حوضي لانقيب وبركة وبأي كثافة هي موجودة؟.
    • ننتظر من طلاب الهندسة والمساحة حصر الهضاب والهضيبات التي يمكن استئناسها للأغراض الاستثمارية، كالسياحة والإنتاج الحيواني.
    • نتوقع من طلاب التاريخ والآثار البحث عن أي أثار لوجود بشرى سابق كان ذلك في أطلال قرى ومساكن مهجورة، مقابر، كهوف، رسومات في الصخور أو في سدود أثرية.
    أما طلاب الجغرافيا فسيشكلون القاسم المشترك بين كل التخصصات إذ ينتظر منهم أن يفسروا لزملائهم كل الظواهر الجغرافية بالمنطقة.
    إن نجاح الرحلات العلمية المقترحة رهين بالإعداد الجيد والمحكم الذي يستوعب كل التفاصيل ولا يترك شاردة. تشمل المعينات الفنية أيضاً أجهزة G.B.S، الأجهزة الإلكترونية للكشف عن المعادن وهي الـ Electronic ####ls detectors وأجهزة استشعار وجود المياه وهي الـ Surface Water Electric Sensors – Sub وذلك بالإضافة إلي بعض المعاول ووسائل الكسر والحفر اليدوية التي حتماً سيحتاجون إليها.
    أن توثيق مثل هذه الرحلة العلمية بالمادة المكتوبة وبالصورة بمشاركة تلفزيون البحر الأحمر والتلفزيون القومي – وبعض مراسلي القنوات الفضائية ومن ثم بثها فضائياً وعبر الوسائط الأخرى سيضع جامعة البحر الأحمر في موقع متقدم ليس بين الجامعات السودانية فحسب، وإنما بين الجامعات الإقليمية، ستكون هذه الرحلة سبق علمي وعالمي سيهتز له كل من يشاهده إذ أن رحلة قوامها الطلبة والطالبات بهذا العدد تخترق خور بركة على ظهور الجمال عند مصبه لتصل إلي منخفض أسفل خور لانقيب حدث فريد سيقف أمامه العالم مبهوراً وحتماً سيلفت أنظار المؤسسات والمنظمات المهتمة بالبحث العلمي والمعنية بالدول النامية. لهذا ليس بمستعبد أن تنهال المنح الدراسية والمساعدات على جامعة البحر الأحمر وقد تطلب بعض الجامعات الموافقة على إرسال باحثين وأكاديميين للمشاركة في تلك الرحلات. أن المكاسب الأدبية والمادية التي تحققها مثل هذه الرحلات مكاسب لا تحصى ولذلك نأمل أن يجد هذا الاقتراح قبولاً.
    أما الرحلات العلمية لاستكشاف الجزر في المياه الإقليمية فأمرها سهل إذا ما تعاونت هيئة المواني البحرية وسلاح البحرية مع جامعة البحر الأحمر في تنظيمها. ينتظر من البعثة العلمية أن تطمئننا بأن بيئات تلك الجزر لم تتعرض لأذى من قبل قراصنة البحار الجدد وهم قباطنة السفن الحاملة للنفايات الضارة بالبيئة والذين يجوبون البحار بحثاً عن المواقع التي غفل عنها أهلها ليفرغوا حمولاتهم القاتلة. ينتظر من طلاب الهندسة المدنية تحديد مساحة كل جزيرة باستخدام الصور والخرط الفضائية كما ينتظر منهم دراسة أنسب الاستخدامات لتلك الجزر، أي هل تستخدم لتموين السفن العابرة بالمياه والأغذية أم لقيام منتجعات سياحية؟ أم كمواقع ارتكاز لسفن صيد الأسماك.. الخ، أما طلاب العلوم البيئية فينتظر منهم القيام بمسح بيئي للجزر وشواطئها. من الجميع ننتظر رأيهم حول أنجع السبل لتوفير مياه الشرب، هل بالأنبوب الناقل من الساحل السوداني للجزر القريبة، أم بحصاد مياه الأمطار؟ وقد يرى البعض نقل المياه بالصهاريج إلي خزانات تشيد بالجزر التي يتم اختيارها لأي من أنواع الاستثمار، آخرون قد يفضلون وحدات صغيرة للتحلية أو استخدام الطاقة الشمسية وهكذا. أن تعريف المواطن السوداني والمشاهد الخليجي عبر البث التلفزيوني – خاصة في جدة والمنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية – بهذه الجزر قد يثير أخيلة ورغبات المستثمرين ليبادروا بتقديم مشاريع استثمارية.
    على سبيل المثال تفيد معلوماتنا أن عدد البواخر العابرة لقناة السويس يومياً يبلغ حوالي 50 باخرة كما أن هذا العدد سيتضاعف بعد اكتمال قناة السويس الثانية.
    لهذا نتوقع للجزر السودانية أن تجد إقبالاً من المستثمرين كمواقع لتموين السفن العابرة بحاجتها من المياه والمواد الغذائية أو لإقامة مناطق تجارة حرة.
    إضافة إلي ما جاء أعلاه فإن لهذه الجزر أهمية أمنية في حماية سواحلنا كما أن تأكيد سيادة السودان عليها يزيد من مدى مياهه الإقليمية. إن نجاح الرحلات العلمية سيفتح الباب لمزيد من الرحلات المشابهة فما زلنا نجهل الكثير عن السودان وعن ولاية البحر الأحمر. هناك وادي اوكو Oku الذي ينحدر شمالاً من شمال غرب بورتسودان إلي مثلث حلايب ومثله الهضاب في شمال غرب سنكات. هناك أيضاً الأودية التي تنحدر غرباً من جبال البحر الأحمر ولعل أهمها وادي قبقبة الذي يتجه شمالاً ليصب في وادي العلاقي وهو الذراع الشرقي لبحيرة السد العالي في عمق الأراضي المصرية وتلك مجرد أمثلة.


    تمويل البعثات العلمية:
    أننا ندرى أن جامعة البحر الأحمر شأنها شأن معظم الجامعات الحكومية تفتقر للأموال لأغراض البحث العلمي أو لتنظيم الرحلات العلمية. لهذا نتوقع لدعوتها للمساهمة المجتمعية في تمويل تلك الرحلات أن تجد الاستجابة. أننا نتوقع أن يتجاوب مع هذه الدعوة المقتدرين من رموز شرق السودان، رجل الأعمال ببورتسودان والعاصمة القومية أسوة بالمغتربين من أبناء الولاية والسودانيين كافة. أننا واثقون كل الثقة من أن نجاح الرحلة العلمية الأولى وإشهارها إعلامياً سيفتح الباب لمزيد من المساهمات كما ذكرنا.. ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة كما يقولون في المثل.
    والله الموفق

    د. عمر محمد علي أحمد
    عضو جمعية خريجي كلية
    الاقتصاد والدراسات الاجتماعية
    بجامعة الخرطوم
    [email protected]
























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de