By: Dr. Mahmoud Dugdug إن الفساد داء خطير في جسد وهيكل أي دولة أو مجتمع، والفساد ظاهرة تتسم بالرسوخ والقدم، والتغلغل في مفاصل المجتمعات، حيث عرفت البشرية هذه الممارسة الضارة منذ الماضي السحيق، واستمرت وتفاقمت بأنماط وصور مختلفة؛ لتدفع بالعديد من الأمم والشعوب إلى أسفل هرم التنمية الاقتصادية والبشرية؛ مما دفع تلك الشعوب والأمم للبحث حول كيفية اجتثاث هذا الداء، وتوج ذلك البحث بظهور اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وعلى إثرها حدث تغيير هائل نحو محاربة هذه الآفة، حيث كانت البلدان قبل ذلك غير راغبة حتى في البحث بأمر الفساد، وكانت تعتبره مشكلة داخلية ليس إلا، اليوم هناك عدد كبير من التجمعات والآليات المتعددة الأطراف التي أُنشئت خصيصًا لمعالجة مشكلة الفساد، وعلت أصوات الناس ينادون بمنع الفساد محاربته، ويتحدثون عن ذلك نهارًا جهارًا؛ مما أجبر السلطات في كثير من دول العالم للانحناء لتلك العاصفة. لقد تركت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أثرًا إيجابيًا على بقية التجمعات الإقليمية؛ حيث كانت هناك خطوة عظيمة وعمل مقدام في مكان آخر من الكرة الارضية وتحديدًا في العالم العربي، الذي لم يشأ متخذي القرار فيه أن يبقوا بعيدًا عما يجري حولهم، فاتخذ الوطن العربي خطوة مماثلة بتبني الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لسنة ٢٠١٠، وهي اتفاقية ذات أهمية خاصة لما تمثله من تقدم نحو الاتجاه الصحيح في مواجهة ظاهرة الفساد التي باتت تأخذ أشكالًا مختلفة وأوضاعًا متفاوتة، وبخاصة الفساد المؤسسي الذي يعدُّ الأخطر أثرًا ويصيب مؤسسات الدول بالدمار والتخلف، وذلك عندما يتكامل الفساد الإداري مع الفساد المالي، وفي ظل غياب الرقابة أو ضعفها، فضلًا عن التأثيرات الكارثية على التنمية والاستقرار والرفاه الاجتماعي؛ مما يؤدي إلى تعميم مظاهر الفساد وتوطينه في القيم المجتمعية. وهنا يأتي دور الاتفاقية العربية لتعمل كحائط صد في مواجهة الفساد المستشري لأجل تصويب عملية متراكمة من الممارسات الفاسدة؛ مما سيرتد في آخر المطاف إيجابًا على التنمية البشرية والاجتماعية والنهوض بحقوق الإنسان، والاستقرار السياسي. الجهود التي سبقت الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد تعتبر الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لسنة 2010 (الاتفاقية العربية – فيما بعد) من الاتفاقيات العربية الحديثة في مجال مكافحة الفساد على مستوى العالم العربي، ولقد جاءت الاتفاقية متأخرة بعض الشيء مقارنة بالتقدم الهائل الذي شهدته المناطق الأخرى؛ حيث نجد أن التجمعات الإقليمية والقارية الأخرى قد حققت تقدمًا ملحوظًا في مجال التقنين لمكافحة الفساد من سنين خلت؛ حيث نجد منظمة الدول الأمريكية تبنت اتفاقية البلدان الأمريكية لمكافحة الفساد عام 1996، ثم نجد من بعد ذلك القارة الأوروبية حيث اتفاقية مكافحة الفساد بين موظفي الجماعات الأوروبية أو موظفي الدول الأعضاء، في الاتحاد الأوروبي، التي اعتمدها مجلس الاتحاد الأوروبي في 26 مايو1997 واتفاقية مكافحة رشو الموظفين العموميين الأجانب في المعاملات التجارية الدولية، التي اعتمدتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي في 21 نوفمبر1997، واتفاقية القانون الجنائي بشأن الفساد، التي اعتمدتها اللجنة الوزارية لمجلس أوروبا في 27 يناير ١٩٩٩، واتفاقية القانون المدني بشأن الفساد، التي اعتمدتها اللجنة الوزارية لمجلس أوروبا في 4 نوفمبر 1999، واتفاقية الاتحاد الإفريقي لمنع الفساد ومحاربته، التي اعتمدها رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي في 12 يوليو 2003. وجاءت الاتفاقية العربية على إثر هذه الجهود الدولية والإقليمية كعلمية ثرة لها ما بعدها. مشروع الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد في الاجتماع المشترك لخبراء مجلسي وزراء العدل والداخلية العرب بالجامعة العربية لمناقشة مشروع الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد، قال السيد/عبد الله الكيلاني نائب رئيس الإدارة القانونية بالجامعة العربية وممثل الجامعة في الاجتماع: "إن الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد توفر الاتفاقية فرصة طيبة للدول العربية الأعضاء في الاتفاقية لإجراء المواءمة التشريعية اللازمة لأنظمتها القانونية، حتى تبدو أكثر توافقًا واتساقًا مع أحكام هذه الاتفاقية، مع ضرورة إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد ليتسنى لها متابعة تنفيذ الالتزامات الواردة في الاتفاقية من قبل الجهة المعنية. وأضاف نستطيع أن نلمس جدية الدول الأعضاء وإظهارها للإرادة السياسية في الالتزام بنصوص ومواد الاتفاقية من حيث مراجعتها وتعديلها وتطويرها للتشريعات والقوانين الناظمة لمحاربة الفساد، وليس فقط من إصدار قوانين غير قابلة للتطبيق، أي مجرد حبر على ورق، ودون تفعيلها على أرض الواقع، وبدون وجود نصوص عقابية رادعة حتى نكون جميعًا شركاء في عملية الرقابة والتنمية والإصلاح والتغيير"(). ومثل هذا الحديث من ذوي الاختصاص يشرح الأسباب التي دعت الدول العربية لتنبني هذه الاتفاقية ذات الأهمية التي لا تقدر بثمن. ومن جهة أخرى نجد أن المشروع كان قد عبر عن حالة القلق العميق للدول العربية نسبة للصلات المباشرة بين الفساد وسائر أشكال الجريمة، وخصوصًا الجريمة المنظمة والجريمة الاقتصادية بما فيها غسيل الأموال. ويشتمل المشروع على سياسات التصدي للفساد، والتي تتضمن تدابير عامة لمنع الفساد، وكذلك تدابير خاصة في مجالات الإدارة وإنفاذ القانون. وفي تقديرنا يأتي مشروع مكافحة الفساد تعبيرًا عن اقتناع الدول العربية بضرورة التعاون العربي لمنع الفساد ومكافحته باعتباره ظاهرة عابره للحدود الوطنية. البناء الهيكلي والقانوني للاتفاقية أولًا: الاتفاقيات العربية لمكافحة الفساد لسنة 2010 وضعت الاتفاقية العربية مجموعة متباينة من الالتزامات على عاتق الدول الأطراف فيها، كصياغة أنظمة تجرّم أفعالًا معينة، كالرشوة، واستغلال النفوذ، وغسل الأموال، والإثراء غير المشروع، وغسل عائدات الفساد، ونحو ذلك، كما تهدف لعدة أمور أخرى، منها: تعزيز التدابير الرامية إلى الوقاية من الفساد ومكافحته وكشفه بكل أشكاله، وسائر الجرائم المتصلة به وملاحقة مرتكبيها، وتعزيز النزاهة والشفافية والمساءلة، وتعزيز التعاون العربي في ذلك، وتشجيع الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني على المشاركة الفعّالة لمنع ومكافحة الفساد، ومن الأهداف سالفة الذكر هذه تتضح أهمية الاتفاقية العربية، والتي نجاحها يقوم ويرتكز في النهاية على التعاون الدولي الفعّال في هذا الخصوص، حيث إن التعاون في مجال مكافحة الفساد، هو لب هذه الاتفاقية وجوهرها، وهو عنوانها الأساسي، وبدونه لن يتم تحقيق أهدافها؛ لأن الفساد في عالم اليوم يتحرك بين الحدود الدولية تمامًا كما ينشط في داخل الدول، لأجل ذلك جاءت أغلب مواد هذه الاتفاقية ملزِمة بالتعاون، ومبيّنة أهميته في مكافحة الفساد. حررت هذه الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد باللغة العربية على اعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة لجامعة الدول العربية - وهو أمر نادر الحدوث أن يجد المرء تجمعًا إقليميًا يتحدث لغة واحدة كما هو الحال لدى جامعة الدول العربية - وقد حررت الاتفاقية بمدينة القاهرة في جمهورية مصر العربية في 15/1/1432هـ، الموافق 21/12/2010م من أصل واحد، وبلغة واحدة هي العربية، أودعت بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وتحديدًا لدى الأمانة الفنية لمجلس وزراء العدل العرب، ونسخة مطابقة للأصل تسلم للأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، على أن تسلم كذلك نسخة مطابقة للأصل لكل دولة من الدول الأطراف. وإثباتًا لذلك، قام أصحاب السمو والمعالي وزراء الداخلية والعدل العرب، بتوقيع هذه الاتفاقية نيابة عن دولهم. وذلك اقتناعًا منهم بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بين الدول الأطراف إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية، وتمثل استكمالًا لما بدأته من جهود في مختلف المجالات الحيوية التي تهم شعوبها وتحقق طموحاتها نحو مستقبل أفضل وصولًا إلى وحدة دولها. ولقد جاءت الاتفاقية العربية علي إثر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003، وقد مثلت الأخيرة النِّبْرَاسَ واِتَّخَذَتهُ الدول العربية قُدْوَةً وَمثالًا والذي بموجبه اهتدت وهي تضع إطارًا قانونيًا موحدًا للدول الأطراف لمكافحة الفساد، وفق نظامها الداخلي وذلك حتى تتمكن هذه الدول من إنشاء هيئات وطنية لمكافحة الفساد في كل دولة، والاستفادة من الخبرات المتبادلة في هذا المجال. وتطبيقًا لذلك فقد أقرت الدول العربية الاتفاقية العربية، استجابةً منها، وتفهّمًا لمخاطر الفساد. ثانيًا: الديباجة تظهر الديباجة رغبة الدول العربية الموقعة لتبني هذه الاتفاقية واقتناعًا منها بأن الفساد ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال ذات آثار سلبية على القيم الأخلاقية والحياة السياسية والنواحي الاقتصادية والاجتماعية. وتظهر الديباجة الرغبة في تفعيل الجهود العربية والدولية الرامية إلى مكافحة الفساد والتصدي له بما في ذلك تسليم المجرمين وتقديم المساعدة القانونية المتبادلة، وكذلك استرداد الممتلكات، باعتبار الفساد ظاهرة عابرة للحدود الوطنية. وتتميز ديباجة هذه الاتفاقية بأنها قصيرة حيث تتكون من خمس فقرات فقط، بينما تتكون ديباجة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003 من خمس عشرة فقرة حسب صياغة النص الأصلي للاتفاقية. وبينت ديباجة الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد اقتناع الدول العربية بأن الفساد ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال، سلبية الآثار وقد أظهرت الدول الرغبة في مكافحة الفساد والتصدي له، وأكدت ذلك بقولها: "والتزاما منها بالمبادئ الدينية السامية والأخلاقية النابعة من الأديان السماوية ومنها الشريعة الإسلامية الغراء وبأهداف ومبادئ ميثاق جامعة الدول العربية وميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات والمعاهدات العربية والإقليمية والدولية في مجال التعاون القانوني والقضائي والأمني للوقاية ومكافحة الجريمة ذات الصلة بالفساد، والتي تكون الدول العربية طرفًا فيها ومنها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد". ثالثًا: محتوى الاتفاقية العربية وتقسيماتها تتكون الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لسنة ٢٠١٠، من خمس وثلاثين مادة شاملة، بعكس النهج الذي اتبعته اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة ٢٠٠٣ من حيث تقسيم الاتفاقية إلى فصول تتناول مختلف المواضيع، فإن الاتفاقية العربية أوردت المواد الخمس والثلاثين جملة واحدة دون تقسيمها إلى فصول تحمل رؤوس تلك المواضيع، بيد أن ترتيب المواد من حيث تناول الموضوعات جاء على نسق الاتفاقية الأم وأعني بذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة ٢٠٠٣، مع ملاحظة أن الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد أوردت خمس وثلاثين مادة، وهي أقل من نصف مواد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي تتكون من إحدى وسبعين مادة، مُقسمة إلى ثمانية فصول، تسبقها ديباجة شاملة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة