أخشي ان تكون هذه المادة موغلة في الذاتية متجاوزا حدود الموضوعية اللازمة وذلك لتغمصي شخصية راوية هذه القصة المأساوية... وحكايتها حتما لا تختلف كثيرا عن الالاف من القصص التراجيدية التي ضربت وغطت سماوات دنيا نساء الهامش اللائى وجدن انفسهن في وحل الفقر المدقع ،أصبحن في هامش المجتمع يتعرضن لعنف وعسف وأفتراس من وحوش سلطات المحلية وكأنهن يعشن في عالم تحكمه شريعة الغاب ! انها حقا قصة تبرز علي سطح الفضاء الاجتماعي اعلي مراخي الوصف اللاانساني والعنف والقهر والاذلال ...قصة تراجيدية لامراة مصادمة ومقاومة وغير مستسلمة لكل نائبات الدهر...امرأة ناحتة الأمل من حجر اليأس ... قصة امراة عملت زُهاء 22 عاما وما زالت تعمل كبائعة شاي علي أزقة وحواري وشوارع الخرطوم من أجل ان تضمن استمرارية العيش لنفسها ولأولادها ! نعم خالة "نفسية " وكغيرها من نساء الهامش أعتصرتها الحياة وبعد تفكير وتامل في قضية الحياة وبعد انعدام أ كل الفرص , والبدائل أمامها قررت اخيرا ان تشتري الكفتيرا والكانون والاكواب وبعد المستلزمات الاخري أملا لتسد حاجتها وحاجة اولادها من عمل يدها ! ولكن هل تستطيع ان تقهر وتقاوم وحوش ومفترسي المحلية بعد ان استطاعت ان تجابه قوانين الجبرية الاقتصادية ؟! عدت هذا المساء لكي أمارس عادتي المفضلة وهي القراءة وقررت قبل ذلك ان أذهب لخالة "نفيسة" لكي احتسي كوب قهوة لأستعيد قوتي التي تشتت في متاهات يوم ممل ورتيب في المحاكم والتي أعتقد انها تصنع الاستبداد تحت شرعنات العدالة ! لماذا هذا القول؟ لان الأشتغال في مجال القانون في ظل دولة تغيب فيها سيادة حكم القانون واستقلال القضاء..يحول المشتغلين فيها الي قطيع يخدمون الاستبداد.... وتلك هي مأساتي ، فالنعد للقصة .... ولكن في هذا اليوم رغم انني كنت منكبا بكل عقلي وحواسي ومسرعا خُطاي صوب تلك المكان لمواصلة قراءة الكتاب الذي بدأته قبل اليوم ...الا ان اليوم قد تُلي لي فصل من فصول كتاب معاناة ستات الشاي ! هكذا تهيات خالة "نفيسة" واخذت مكانها وبدأت تحكي قصتها المؤلمة مع سلطات المحلية قائلة : (قصتي مؤلمة جدا مع الناس الديل انا اكثر من عشرين سنة مطارد زي انا شغالة في حاجة ممنوعة واولادي دايرين ياكلوا ويشربوا .....وانا جلدوني محاكم النظام العام مرات كتيرة دا كلوا اني أشتغل واكل من يدي ...ويا ولدي في دُنيتك لقيت زول بشتغل بيدو بمسكوا بجلدوا قدام الناس كانو عمل حاجة كعبة ؟!) كهذا تساءلت خالة نفسية وهي تستفر كيف يُجلد انسان وهو يمارس فعل مشروع وغير مجرم؟ سؤال الخالة رغم بساطته الا ان له دلالاته العظيمة في مضمار حلبة الصراع الثقافي ...نظام الخرطوم يريد ان يجمل وينظف وجه العاصمة من هؤلاء الفقراء والمحرومين والارامل والثكالي !!! ثم استطردت في الحكي قائلة ( ذات مرة اُحضرت عدد من ستات الشاي لمحكمة النظام العام بما فيهن انا ، وقُدمن للقاضي واصدر القاضي أمرا بمنعن من بيع الشاي والالتزام بعدم عودتهن للعمل مرة ثانية ،فسكتن جميعهن الا انا فرديت للقاضي :انا يا مولانا ما بقدر بكذب عليك لاني بربي في اطفال وما عندي مصدر رزق غير العمل في الشاي ) فصمت القاضي ولم يتكلم ساعة !فهكذا وجد نفسه في مأزق اخلاقي بين القوانين الظالمة الجائرة التي هو منوط بتطبيقها وبين اعتبارات العدالة والانسانية !! وختمت خالة "نفيسة" حديثها قائلة :( ان العمل في مجال بيع الشاي والاستهداف الموجه اليه من قبل سلطات المحلية لاتختلف عن بائعات الخمور البلدية مع شرطة النظام العام ! ولكن رغم اهانتنا ونحن لم تتح لنا فرص التعليم الا اننا نعمل من اجل تعليم ابناءنا والان عندي بنتي اتخرجت في الجامعة وعندي ولدي بقرا في الجامعة وانشاء الله يكمل تعليموا ) . في ظل هذه الظروف المهينة الا انها متفاؤلة في مستقبل ابناءها وتسعي من اجل تعليمهم !. خلاصة القول ان التعاطي مع قضية ستات الشاي يجب الا تكون بمعزل عن السياسات التي تتبناها الدولة حيال الشرائح المحرومة والمعدومة من خلفيات ثقافية واثنية ذات خصوصية جغرافية ، كما يجب الا تكون بمنأى عن سياسات الافقار والقهر الاقتصادي المتبناة حيال مجموعات ثقافية بعينها بغرض تحويلهم لشرائح ضعيفة تعيش علي هامش المجتمع وتقتات من فتات الطبقة المهمينة التي تمثلها الخطاب الرسمي للدولة ، وبالتالي اصلاح الاوضاع الاقتصادية للفئات الفقيرة والمحرومة في السودان يقتضي اجراء مراجعات جوهرية في بنية الدولة وصولا لدولة المواطنة التي تتيح فرص عمل متساوية للجميع مع الوضع في الاعتبار وضع خطط وسياسات لمعالجة الاوضاع الاقتصادية المختلة وسط هذه الفئات الضعيفة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة