لم يكن اعتراف إسرائيل بجمهورية "أرض الصومال" (Somaliland) اليوم، السادس والعشرين من ديسمبر 2025، مجرد طلقة دبلوماسية في فضاء القرن الإفريقي، بل هو صافرة إنذار مدوية لزلزال جيوسياسي بدأت ارتداداته تضرب بعنف جدران "الشرعية" المترنحة في بورتسودان. ففي اللحظة التي تشرعن فيها القوى الدولية كياناً انفصالياً مقابل "أدوار وظيفية" أمنية، يصبح لزاماً علينا أن نتساءل: أين يقف السودان من هذه المقايضة الكبرى؟ وهل يدرك القائمون على الأمر في بورتسودان أن جدار "السيادة الوطنية" الذي يتحصنون خلفه لرفض مبادرات السلام بات أوهى من بيت العنكبوت أمام خرائط "الواقعية السياسية" الجديدة؟
إن المشهد اليوم يتجاوز حدود الجغرافيا الصومالية؛ فهو يمثل تدشيناً لنموذج "الانفصال عبر الصفقات". وهنا يكمن الخطر المحدق بالسودان؛ فالدولة التي تعيش حالة انقسام فعلي بين سلطة في الشرق وأخرى في الغرب والوسط، باتت "خاصرة رخوة" تغري القوى الدولية بتكرار نموذج "هرجيسا". إن التصلب السياسي الذي يبديه "حلف بورتسودان"، ورفضه المستمر للانخراط في تسويات سياسية جادة لإنهاء الحرب، لا يخدم سيادة الدولة كما يُروج، بل هو في الحقيقة يوفر الغطاء السياسي والمبرر الأخلاقي للقوى الطامحة في التفتيت. فالعالم الذي لا يجد "دولة مركزية" مرنة وقادرة على تأمين مصالحه، لن يتردد في البحث عن "وكلاء محليين" يمنحهم اعترافاً واقعياً مقابل الاستقرار الأمني على ضفاف البحر الأحمر.
إن المراهنة الحالية لحلف بورتسودان على الدعم المصري والتركي، رغم أهميته الاستراتيجية، تظل مراهنة قاصرة إذا لم تصحبها رؤية سياسية داخلية. فمصر وتركيا، اللتان تدافعان اليوم عن وحدة الصومال والسودان باعتبارها "خطاً أحمر"، تجدان نفسيهما في موقف دفاعي حرج أمام تمدد المحور (الأمريكي-الإسرائيلي-الإماراتي) الذي يتبنى منطق "تفكيك الدول الفاشلة" لصالح الكيانات الوظيفية. إن الاستمرار في "لاآت" بورتسودان ورفض الجلوس على طاولة التفاوض، يُحرج الحلفاء الإقليميين ويجعل من معركتهم الدبلوماسية لحماية نظام ( البرهان) تحت ذريعة حفظ وحدة السودان معركة خاسرة بالنقاط أمام عالم لا يحترم إلا الأقوياء أو "المرنين".
لقد استيقظنا اليوم على حقيقة أن الخرائط لم تعد مقدسة، وأن اعترافاً دولياً واحداً لكيان انفصالي قد ينسف عقوداً من التوازنات. وإذا كان انفصال جنوب السودان في 2011 قد تم عبر مسارات قانونية وتحت غطاء دولي بعد مفاوضات السلام و بصناديق الاقتراع، فإن "انفصالات 2025" تتم عبر صناديق الرادارات الإسرائيلية واتفاقات الموانئ المشبوهة. إن القوات المسلحة والقوى المتحالفة معها في بورتسودان مطالبة اليوم بـ "شجاعة سياسية"؛ فالتمسك برفض السلام في ظل وجود بدائل انفصالية جاهزة في "سوق الاعترافات" هو انتحار استراتيجي سيقود السودان حتماً إلى مصير الصومال: عاصمة معترف بها دولياً بالأمر الواقع بلا سيادة حقيقية، وأقاليم "مستقلة" واقعياً تديرها عواصم الخارج.
إن الدرس القادم من "بربرة" اليوم هو أن السيادة تُنتزع بالشرعية الوطنية والتوافق الداخلي، ولا تُحمى بالهروب للأمام أو بانتظار معجزات من حلفاء إقليميين يصارعون هم أنفسهم للبقاء في اللعبة. على بورتسودان أن تخرج من خندق الرفض لتقبل بمبادرة سلام وطنية تقطع الطريق على "تجار التقسيم"، وإلا فإن التاريخ سيسجل أن وحدة السودان ضاعت بين مطرقة الطموحات الانفصالية وسندان الجمود السياسي في "العاصمة
12-27-2025, 05:23 PM
Hassan Farah Hassan Farah
تاريخ التسجيل: 08-29-2016
مجموع المشاركات: 13926
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة