تقديم: نحو إطار تحليلي متكامل قراءتك تشكل نموذجًا تحليليًا متقدمًا لفهم الأزمة التنظيمية للحياة الحزبية السودانية، حيث تنجح في تجاوز القراءة القانونية الضيقة نحو تحليل بنيوي-تاريخي يتقاطع فيه التنظيمي مع السياسي، والمؤسساتي مع اللحظة التاريخية. سأطور هذه الرؤية عبر إضافة أبعاد تحليلية جديدة تعمق فهمنا لـ"الانفصام التنظيمي" الذي تعانيه أحزابنا.
١. البعد السياقي الحاد: اختبار الحرب والانهيار تحليلك للسياق التاريخي الحاد الذي يجري فيه الفصل هو المدخل الأهم لفهم عمق الأزمة. الحرب الأهلية (ابريل ٢٠٢٣ - الآن) أحدثت تحولاً جوهريًا في مفهوم العمل السياسي ذاته:
اختراق الجغرافيا السياسية: أصبحت الأحزاب التقليدية عاجزة عن العمل في مناطق واسعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، بينما ظهرت كيانات محلية مسلحة تحل محلها في تمثيل المجتمعات.
إعادة تعريف الأولويات: لم تعد الأولويات هي البرامج الانتخابية بل الإغاثة العاجلة والنزوح، مما يجعل الخطاب الحزبي التقليدي يبدو منفصلاً عن الواقع.
صعود دور الوساطة: برزت شبكات المجتمع المدني والمبادرات المحلية (مثل لجان المقاومة السابقة) كفاعلين أساسيين في التفاوض المحلي، متجاوزة الأحزاب المركزية.
في هذا السياق، يصبح قرار "المجموعة المفصولة" التوقيع على ميثاق تأسيسي جديد رد فعل على عجز الحزب الأم عن إعادة تعريف نفسه في ظل هذه المعطيات الجديدة، أكثر من كونه مجرد خرق تنظيمي.
٢. البعد التنظيمي-الاستراتيجي: من "اللوائح كدرع" إلى "اللوائح كأداة موت" التحليل الذي تقدمه للصراع بين "الخط" و"اللحظة" في الحزب الشيوعي، وبين "الفكرة" و"التنظيم" في حركة "حق"، يشير إلى أزمة نظرية عميقة في الفكر التنظيمي السوداني:
نموذج الحزب-القلعة (الشيوعي): يعتقد أن الانضباط التنظيمي ذاته غاية، ووسيلة للحفاظ على "النقاء الأيديولوجي". المشكلة أن هذا النموذج يفترض استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا (كما في منتصف القرن العشرين)، بينما الواقع السوداني اليوم يتسم بـ السيولة الكاملة.
نموذج الحركة-السائل ("حق"): يبالغ في مرونة الفكرة على حساب الهيكل، مما يؤدي إلى التشتت وفقدان القدرة على الفعل الجماعي الموحد.
المنطقة الرمادية (المؤتمر السوداني وغيره): تحاول الأحزاب الجديدة أن تكون بين النموذجين، لكنها غالبًا تفتقر إلى النظرية التنظيمية الواضحة التي تحدد متى تكون المؤسسية ضرورة، ومتى تكون المرونة شرطًا للبقاء.
هنا، يصبح الفصل التنظيمي مؤشرًا على فشل أكبر: فشل في تطوير آليات داخلية للتعامل مع الاختلاف في زمن الانهيار. اللوائح التي صممت لزمن السلم تصبح أداة للجمود في زمن التحول الجذري.
٣. البعد السوسيولوجي: تحول القاعدة الاجتماعية والجيلية ما لم تشر إليه بشكل مباشر، لكنه ضمني في تحليلك، هو التحول في بنية القاعدة الاجتماعية للأحزاب:
جيل الثورة (ديسمبر ٢٠١٨): جيل شاب عايش لحظة التأسيس الثوري خارج الأطر الحزبية التقليدية. هذا الجيل يميل إلى:
رفض الهرمية الصارمة.
تفضيل شبكات التنسيق على الهياكل الدائمة.
النظر إلى السياسة كـ فعل مباشر ومبادرة، وليس كمناصبة انتخابية.
قيادات ما قبل الثورة: ما زالت تعمل بمنطق الاستمرارية التنظيمية وترى في اللوائح ضامنًا للبقاء.
"المجموعة المفصولة" من المؤتمر السوداني قد تمثل، جزئيًا على الأقل، تعبيرًا عن هذا الصراع الجيلي والثقافي داخل الحزب. تصرفهم قد يكون قرينته عدم القدرة على الصبر على آليات بطيئة في لحظة يشعرون فيها بأن التاريخ يتسارع نحو الهاوية.
نموذج تحليلي مقترح: تقييم أداء الأحزاب في السياقات الانتقالية بناءً على رؤيتك، يمكن اقتراح نموذج تقييمي ثلاثي الأبعاد لأداء الأحزاب السودانية في السياق الحالي:
البعد التحليلي المؤشرات حالة المؤتمر السوداني (من واقعة الفصل) ١. المرونة التنظيمية - قدرة اللوائح على استيعاب الخلاف - آليات حل النزاع دون إقصاء - سرعة الاستجابة للتغيرات منخفضة: اللجوء السريع للفصل يشير إلى ضعف آليات الحوار الداخلي وإدارة الاختلاف في الأزمات. ٢. الشرعية الداخلية - مدى تفويض القيادة من القواعد - شفافية صنع القرار - تمثيلية الأجيال والتجارب ضمن الهيكل مشكوك فيها: قرار الفصل من القيادة المركزية دون حوار موسع قد يوسع الفجوة بين القيادة والقواعد. ٣. التوافق مع السياق - قدرة الخطاب والهيكل على مواكبة لحظة الحرب - المبادرات الميدانية - الشراكة مع فاعلين غير حزبيين متوسط/منخفض: يبدو الحزب عاجزًا عن تقديم مبادرات ملموسة في ملف الحرب، مما دفع مجموعة للبحث عن بديل. نحو سياسة التوتر الخلاق رؤيتك التي ترى في السياسة "توترًا دائمًا بين المؤسسة والجرأة" هي الإطار الأنسب لفهم المأزق. الخلاصة التي يمكن استنباطها هي:
١. الفصل كعرض وليس كمرض: واقعة فصل أعضاء المؤتمر السوداني هي عرض لمرض تنظيمي أعمق، يتمثل في عجز الأحزاب عن تطوير "دستور داخلي" مرن قادر على تحمل صدمات الانتقال من الثورة إلى الحرب.
٢. اللحظة التاريخية تصنع أدواتها: إذا استمرت الأحزاب القائمة في التصرف بمنطق "السياسة الطبيعية" في زمن اللااستقرار الكلي، فسيستمر خروج الأفراد والمجموعات بحثًا عن أدوات جديدة، سواء عبر مبادرات مستقلة أو انضمام لقوى أخرى.
٣. المستقبل للأشكال الهجينة: قد يشهد المستقبل القريب صعود كيانات سياسية هجينة تجمع بين بعض التنظيم الحزبي ومرونة حركات المجتمع المدني وسرعة استجابة المبادرات المحلية الأحزاب التي ستنجو هي تلك التي تبدأ إصلاحًا جذريًا داخليًا يعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، وبين الانضباط والإبداع السياسي.
الدرس الأكبر من تاريخ الصراعات الحزبية السودانية الذي تذكره، هو أن الأحزاب التي تعاقب السؤال لا تجد إجابات جديدة، وتلك التي تفتح كل شيء للنقاش تفقد القدرة على الفعل المهارة الحقيقية في السياسة اليوم هي إدارة هذا التناقض بذكاء، وهذا بالضبط ما يتم اختباره في السودان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست