البرهان في الرياض: زيارةُ مفترقِ طرق… إمّا “جدة 2.0” وإمّا تمديدُ الحرب بين شرعية الصورة وشرعية الفعل: ما الذي يجب أن ينتج خلال 90 يوماً كي لا تتحول الزيارة إلى خبرٍ عابر؟
ليست الزيارات في زمن الحروب صوراً بروتوكولية تُضاف إلى أرشيف الأخبار، ولا عناوين تُستهلك في نشرات المساء. زيارة المشير البرهان إلى السعودية ولقاؤه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في 15 ديسمبر 2025 ينبغي أن تُقرأ بوصفها اختباراً حاسماً: هل تملك المنطقة إرادة تحويل النفوذ إلى وقف نارٍ قابل للتحقق… أم أننا سنكتفي مرة أخرى ببلاغٍ دبلوماسي مقتضب لا يوقف طلقة ولا يفتح ممراً إنسانياً؟ البيانات الرسمية عادةً تُفضّل اللغة العامة: “استعراض التطورات” و“بحث الجهود لتحقيق الأمن والاستقرار”. لكن السودان اليوم لا ينقصه “الاستعراض”. ما ينقصه شيء واحد: آلية تُجبر الأطراف على الالتزام وتربط الاعتراف السياسي بالحماية الفعلية للمدنيين. فمنذ أبريل 2023 تحولت الحرب من صراعٍ بين قوتين إلى ماكينة تفكيك دولة، وإلى اقتصاد حرب يقتات على النهب وتهريب السلاح والبشر، ويُغذي نزاعات الجوار ويُهدد البحر الأحمر—الشريان الأكثر حساسية للأمن والاقتصاد الإقليميين.
لماذا السعودية؟ ولماذا الآن؟ السعودية ليست وسيطاً بعيداً عن الجغرافيا. هي على الضفة المقابلة من السودان عبر البحر الأحمر، وأي انزلاق سوداني طويل يخلق فراغاً أمنياً تتسرب منه الفوضى: شبكات تهريب، سلاح، جماعات عابرة للحدود، وتهديد متزايد للملاحة والاستثمارات. لهذا السبب لم يكن ملف السودان يوماً تفصيلاً في حسابات الرياض، بل ملفاً أمنياً “ثقيل الوزن” حتى لو جرى التعامل معه دبلوماسياً بلغة ناعمة. ثم إن التوقيت نفسه يحمل رسالة: المناخ الدولي بدأ يرفع كلفة الصمت. خلال الأيام التي سبقت الزيارة أعلنت بريطانيا عقوبات على قادة في الدعم السريع، في خطوة تعكس اتجاهاً متنامياً لربط السياسة بملف الفظائع والانتهاكات. والرسالة هنا ليست أخلاقية فحسب؛ إنها سياسية أيضاً: من يظن أن الحرب يمكن أن تستمر بلا ثمنٍ خارجي، يقرأ العالم قراءةً خاطئة. في المقابل، تتصاعد إشارات الخطر النوعي على الأرض: تقارير عن ضربات طائرات مسيّرة طالت منشآت ذات صلة بالأمم المتحدة وأوقعت ضحايا من حفظة السلام، وأخبار عن اضطراب مسارات الاقتصاد الحيوية في السودان، بما فيها مناطق مرتبطة بالطاقة وخطوط التصدير. قد تختلف تفاصيل كل حادثة، لكن الاتجاه العام واضح: الحرب تتدوّل من حيث النتائج، حتى لو ظلت محلية من حيث الشعارات.
زيارةٌ يمكن أن تصنع السلام… المشكلة ليست في الزيارة؛ المشكلة في كيف تُترجم. لأن الزيارات في الحروب قد تُستخدم بطريقتين متناقضتين: شرعنة الحرب عبر الصورة: أن تُقرأ الزيارة داخلياً كعلامة دعم غير مشروط، فتتحول إلى دفعة معنوية لمزيد من التصعيد، وتُستخدم كدليل على “الغطاء الإقليمي”. أو شرعنة السلام عبر الأدوات: أن تُقرأ الزيارة كمدخل لاتفاقٍ مُحكَم، تُراقَب بنوده، وتُعلن خروقاته، وتُفرض عواقبه؛ أي أن تُخرج الملف من دائرة “البيانات” إلى دائرة “الامتثال”. هنا يقع الامتحان الحقيقي: هل ستتحول الزيارة إلى منصة قرار؟ أم تبقى منصة علاقات عامة؟ الدرس الذي لا يجوز تجاهله: “جدة” لم تفشل لأنها سيئة… بل لأنها بلا أنياب منصة جدة التي انطلقت منذ 2023 (برعاية سعودية–أميركية) أثبتت شيئاً مهماً: يمكن جمع الأطراف على نص إنساني، ويمكن إنتاج تفاهمات أولية. لكن ما أثبتته أيضاً—وبقسوة— أن أي اتفاق بلا آلية متابعة صارمة وعواقب واضحة سيُخرق عند أول اختبار، ثم يُعاد توقيعه، ثم يُخرق… إلى ما لا نهاية. لذلك فإن “المخرج الوحيد” كي لا تصبح زيارة ديسمبر 2025 مجرد حلقة جديدة في سلسلة الإخفاقات هو الانتقال إلى نسخة جديدة: “جدة 2.0”. نسخة لا تُجمّل الأزمة، بل تُمسك بخناقها التنفيذي.
ما الذي يجب أن يخرج من الرياض خلال 30–90 يوماً؟ إذا أردنا قياس الزيارة بميزان الواقع—لا بميزان المجاملات—فهناك خمسة أمور لا بد أن تُرى على الأرض، لا على الورق: أولاً: حزمة إنسانية قابلة للتحقق. ليس إعلان نوايا، بل نقاط عبور محددة، ممرات زمنية معلنة، آلية عمل أسبوعية، وإزالة عوائق معروفة أمام وصول الإغاثة. معيار النجاح هنا بسيط: هل وصلت المساعدات أكثر؟ هل قلّت العراقيل؟ هل أُعلنت أرقام وحقائق يمكن التحقق منها؟ ثانياً: آلية متابعة شفافة وعلنية. فريق متابعة مصغر (سعودي–أميركي–أممي/إفريقي) يرصد الخروقات ويعلنها ويحدد المسؤولية عنها. الصمت هو الوقود الأول لخرق الاتفاقات. والعلن هو الحد الأدنى من الردع. ثالثاً: نظام “عواقب” للخروقات. من دون عواقب، تتحول الاتفاقات إلى كتيبات إرشاد أخلاقية. العواقب قد تكون سياسية (تعليق محادثات/فضح دولي)، مالية (قيود/تجميد)، أو لوجستية (حظر إمدادات)، لكن المهم أن تكون تلقائية ومعلنة وغير قابلة للتأويل. رابعاً: مسار سياسي محدد بزمن، لا شعارات عامة. أي دعم إقليمي أو دولي يجب أن يرتبط بخطوات سياسية ملموسة: إطار انتقالي مدني، ترتيبات أمنية تدريجية، وإجراءات بناء ثقة. الحرب لا تنتهي لأن طرفاً “يرغب”؛ تنتهي لأن كلفة استمرارها تصبح أعلى من كلفة التفاوض. خامساً: لغة صريحة في حماية المدنيين. لا يكفي الحديث عن “الأمن والاستقرار”. يجب تسمية الهدف: حماية المدنيين، منع الاستهداف، وقف التهجير القسري، وضمان وصول الإغاثة. الشرعية في القرن الحادي والعشرين لا تُبنى على السيطرة العسكرية وحدها؛ تُبنى على حماية المجتمع. السعودية أمام اختبار النفوذ: هل تتحول من “راعٍ” إلى “ضامن”؟ الرياض تملك ما لا يملكه كثيرون: القدرة على جمع الأطراف، والتأثير في الحسابات الإقليمية، وربط المسارات الدولية بمسار واحد أكثر انضباطاً. لكن امتلاك النفوذ شيء، واستخدامه في الاتجاه الصحيح شيء آخر. إذا اكتفت السعودية بدور الراعي البروتوكولي، ستبقى الحرب قابلة للتجدد— وسيدفع الإقليم ثمنها على البحر الأحمر والحدود والاقتصاد. أما إذا تحولت إلى “ضامن” لمسار تنفيذي، فإنها لا تُنقذ السودان فقط؛ بل تُحصّن أمنها الإقليمي وتثبت أن الدبلوماسية يمكن أن تكون فعلاً لا بياناً.
لا نريد زيارة مجاملة … نريد نتيجة قاسية وواضحة السودان لا يملك رفاهية “الزيارات الجميلة”. الزيارة التي لا تُنتج وقف نارٍ قابلاً للتحقق، وممرات إنسانية مفتوحة، وآلية متابعة، وعواقب للخروقات—ستكون مجرد فصل جديد من رواية الإطالة، مهما كانت نوايا أصحابها. زيارة البرهان إلى الرياض يمكن أن تكون بداية طريق إنقاذ، بشرط أن يخرج منها تعريف واحد للشرعية: شرعية الفعل لا شرعية الصورة. وإن لم يحدث ذلك خلال 90 يوماً، فسنكون أمام الحقيقة الأكثر مرارة: أن الحرب أصبحت أقوى من الدبلوماسية… لأن الدبلوماسية اختارت أن تكون بلا أدوات.
كيمبريدج 15 ديسمبر 2025
12-16-2025, 02:10 PM
حيدر حسن ميرغني حيدر حسن ميرغني
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 30051
شكرا د. صلاح على هذا التحليل الوافي والقراءة الواقعية لما يجب ان تكون عليه الزيارات وقت الحرب نسال الله ان تكون اخر الزيارات وان تمهد لاحلال السلام ووقف القتال وتنتصر تلدبلوماسية على البندقية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة