من سيرة فاطنة بت عثمان: (لم تكن فاطنة بت عثمان بالنسبة لأهل قريتنا مجرد امرأة عادية. بل كانت نعمة ساقها الله لهم. كانت كذلك كنخلة سامقة تؤتي أكلها خيرا وبركة في كل المواسم. جاءت إلى قريتنا غريبة عنها لكنها انغرست في جذورها، وأصبحت جزء عزيزا منها. كنا نراها نحن كشجرة تفاح تفوح رحيقا وثمرا في عز موسمها، لكنها ثمارها عصية على القطف). فاطنة: لم تكن فاطنة من قريتنا ولكنها جاء بها القدر إليها يوما وأصبحت أصيلا جزأً منها. كانت فاطنة في حوالي نهاية الثلاثينات من العمر، وكنا نحن شبابا ناضجين. كانت ملامحها تطل منها البساطة وتضفي عليها بحة الصوت والابتسامة التلقائية مزيدا من الجاذبية والألق. رغم ذلك لم تكن فاطنة شخصية هشة أو ضعيفة بل كانت لها شخصية قوية وصرامة تظهر عندما تشعر بأن (الحال مايل) كما تقول أو عندما يتعدى أحد حدوده. لم فاطنة تنل سوى تعليما أوليا إلا أن ذكاءها الفطري لم يخذلها يوما في كل المواقف.
رغم قصة علاقتها بالجن وزواجه منها لم يمنع ذلك أهل القرية من تقبُّلِها ولم يمنعها هي من الاندماج في الاندماج في الحياة اليومية لبلدتنا. بمرور الأيام صارت فاطنة تشارك في كل مناسبات القرية، بكل تفاصيلها بدءً من الإعدادات والترتيبات الأولية وحتى مراسم استقبال الضيوف وتقديم الطعام. اعتاد الناس أن يرونها في هذه المناسبات وهي تقف شامخة وسط الجميع بقامتها الفارعة أو وهي منهمكة في الحركة يمنة ويسرة خلال الترتيبات. ولا تكتسب الحفلات ومناسبات الفرح بهجتها إلا في وجودها، ولا يكتمل ألق المناسبات إلا بمشاركة فاطنة فيها بالغناء أو الرقص أحيانا أو القيام بالمساعدة في الترتيبات وواجبات الضيافة. رغم ذلك، كانت النساء يعملن لها ألف حساب. ففي وجودها لا تغيب الغيرة من قلوب الكثيرات. فكثيرا ما كان النساء يلاحظن بريق الإعجاب يسطع في عيون أزواجهن وعيون الرجال الآخرين. في المناسبات كانت فاطنة تثير إعجاب كل من ينظر إليها وتجذب الانتباه. في زخم الاحتفال كانت العيون تلاحقها وهي تمشي في رشاقة، أو وهي ترسم ابتسامتها الخجولة على وجهها الوضيء حتى ولو توارت أحيانا بعيدا خلف الصفوف. كثيرا ما كان الرجال لا يستطيعون وإن حاولوا، كتم إعجابا طلَّ في أعينهم، وكثيرا ما كان يرى لمعَه نساؤهن من بعيد، فتثور في نفوسهن غيرةُ كتوم. بخلاف النظرات العابرة والمعجبة والمتلصصة كان بعضهم يستبيه غرور اللحظة والفتون معا لكي يبدي إعجابا فرض نفسه مُمنَّياً إياها بتجاوبٍ عابرٍ يُرضي غروره. وبالطبع هناك من تدفعه الجرأة لأبعد من ذلك. ولكن لكل من هؤلاء وهؤلاء كانت نظرة واحدة منها كافية ليرتد إليهم إعجابهم وهو حسير. وكانت هي تحس بكل ذلك بحاسة امرأة فطِنة تعرف ما يجب عليها في ظروف وضعها الحساس. فكانت هي تتجاوز مثل تلك الموقف بكل لباقة، دون إحراج للطرف الآخر إلا إذا تجاوز حدود اللياقة. كثيرا ما كان يحاول بعضهم في أول أيام وصولها للقرية بشيء من المكر والدهاء إرسال رسائل إعجاب مبطَّنة، ولكنها سرعان ما تردهم على أعقابهم خائبين. وفي حالات استثنائية أخرى كانت تلجأ لأساليب أكثر صرامة لإيقاف التصرفات المتجاوزة، ليس أقلها تلك النظرة الزاجرة التي عُرِفت بها والملامح الحازمة التي ترتسم على ملامحها حينئذ فيحس هو كأن كل الكون قد وقف ليشاهد انكساره. لذلك كان معظمهم يكتفي فقط بنظرات الإعجاب دون أن يجرؤ على أن يتعدى الحدود التي فرضتها على الجميع خاصة الرجال منهم. في كل الأحوال كانت قد تعودت أن تتصرف بما يبعد عن أي شك أو ارتياب، فوضعها في القرية حساس، كما أنه لم يكن يشغلها أصلا بالرجال شاغل كما كانت تردد دائما عندما تُسأل. يتذكر أهل قريتنا جيدا كيف أن عبد الصمد أحد رموز القرية لمجرد أن فاتحها بشكل مباشر وعلني في موضوع الزواج اضطرته لأن يسحب طلبه ويغادر وهو كظيم. بالرغم من كل ذلك كان هناك من يملك جرعة إضافية من الجرأة فيسألها لماذا لا تتزوج أو غير ذلك من تلك الأسئلة التي تعتبرها أسئلة خاصة. وكانت هي تحس بأن مثل الأسئلة حول الزواج تحس بها تخنقها وتثير هدوء أعصابها فيكون ردها عليها بصمت حرون والتفاتة وإشاحة بالوجه بعيدا للجهة المعاكسة. عرف عنها الجميع ذلك فصاروا يتحاشون طرح مثل تلك الأسئلة. ولكن الأدهى من ذلك أن بعضا ممن ذاق حرج ردِّها كان يعزي ذلك، كذبا وبهتانا لأنها لازالت على ذمة ذلك الجني.
بالطبع كان ردة فعلها تجاه سؤال النساء لها عن الزواج أقل حدة بكثير من حدة ردها للرجال. فغالبا يكون ردها حينئذ شبح ابتسامة خفيفة أو الرد بعبارة "إن شاء الله ..سأفكِّر" أو "إذا جاء النصيب من الله " وغير ذلك من الردود الدبلوماسية.
أما نحن الذين كنا نصغرها سنا فكنا نجد مساحة من الحرية والأمان في توجيه الأسئلة المازحة ومداعبتها أحيان دون خوف رد فعلها: -كم عمرك يا فاطنة؟ فتبتسم ولا ترد.. فنحاول استدراجها للرد: -نقول لها أربعين؟؟ فترد بحزم مفتعل: -لا لا -طيب كم؟ -؟؟ -قولي - يمكن عشرين... يمكن ثلاثين. ثم تنفجر ضاحكة. - يعني ما متأكدة؟ - لا ما متأكدة ثم تضحك مرة أخرى. كانت تعرف أن السؤال مفخخا، لكنها تتجاوزه بذكائها وخفة دمها.
12-18-2025, 05:07 AM
محمد عبد الله الحسين محمد عبد الله الحسين
تاريخ التسجيل: 01-02-2013
مجموع المشاركات: 11955
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة