رحل جيمي كليف… لكن من يستطيع أن يقول إن الرجل غاب حقاً؟ فهذا النوع من الفنانين لا يختفون بالموت، بل يتحوّلون إلى جزء من البنية الخفية للعالم في موجة بحر، في خفقة قلب، في إيقاع بعيد، أو في أغنية تشق ليل الروح وتقول للإنسان البسيط انهض… فما زال هناك أمل. جيمي كليف لم يكن مغنياً فحسب، بل كان ضمير جزيرة صغيرة جرى على ظهر أمواج الكاريبي ثم عبر القارات، ليعلّم العالم معنى أن تكون فقيراً لكن مرفوع الرأس، مهمشاً لكن ممتلئاً بالكرامة، متعباً لكن ثابتاً على قدم الإرادة. ولد جيمس تشامبرز، ثم سمّته الحياة جيمي كليف، ثم سمّاه الإيمان الحاج نعيم البشير. لكنه ظل في النهاية اسماً واحداً: اسم إنسان صدح بما آمن به، فصار صوته أوسع من هويته وأكبر من بلاده رجلٌ خرج من الكنيسة في طفولته بغناء بسيط، ودخل العالم كرجل يحمل على كتفيه موسيقى جديدة لم يرَ أحد قبلها الضوء الكامن فيها. في رحيله… نسمع العالم أكثر لا نودّع جيمي كليف كما نودّع النجوم العابرين، بل كما نودّع رفقاء الروح الذين شاركونا الطريق دون أن نعرفهم عن قرب. نودّعه كما نودّع معنى، لا كشخص. نودّعه ونحن نسمع في الخلفية-: Many rivers to cross… ونفهم فجأة أن الأنهار التي غنّى عنها لم تكن أنهره وحده، بل أنهارنا جميعاً. أنهار الخوف، والضياع، والخذلان، والبحث الطويل عن مكان آمن في هذا العالم. كان يغنّي عن الوحدة، لكنه في وحدته كان يضمّ ملايين من البشر. وكان يغنّي عن الألم، لكنه كان يزرع في داخله بذرة قوة، يوقظها بالصوت، ويعجنها بإيقاع الريغي حتى تصبح قدرة على الوقوف بعد السقوط. الطريق الذي فتحه لن يغلق حين ظهر جيمي كليف في فيلم The Harder They Come لم يكن يعرف أنه يكتب تاريخاً ثقافياً جديداً للبشرية. كان يروي قصة شاب فقير، لكن العالم رأى من خلاله جزيرة كاملة تُولد من جديد، وثقافة أفريقية ترفع رأسها في وجه قسوة العالم. معه لم تعد جامايكا جزيرة منسية… صارت قلباً نابضاً بإيقاع منتظم، بطيء، لكن لا يمكن مقاومته. إيقاع الريغي. جيمي… حامل البشارة كان الفنان الراحل يؤمن بالسلام، بالناس البسطاء، بقدرة الأغنية على إيقاف حرب وإيقاظ ضمير. في «فيتنام» لم يغنّ عن بلد بعيد، بل عن كل أم فقدت ابنها، وكل جندي مات وهو لا يعرف لماذا قُتل، وعن كل الحرب التي تشتعل على الأرض وتطفئ في القلوب نوراً لا يعود. صوته كان رسالة. وليس كل صوت يصبح رسالة. في رحيله… نعرف ما الذي فقدناه فقدنا صوتاً يملك براءة طفل وحكمة شيخ. وفقدنا موسيقياً يكتب أحلام الفقراء على وتر واحد. وفقدنا رجلاً كان عابراً بين الأديان والثقافات والهويات… لكنه ظل دائماً إنساناً أولاً. إنه آخر جيل الروح العظيمة في الريغي، آخر الكهنة الذين كانوا يغنون للسلام بلا ادّعاء، ويقفون على المسرح كمن يقف على قلوب الناس، لا على خشبتها. لكنه لم يمت يبقى جيمي كليف حيث يجب أن يبقى: في الأغنية التي تعود إلينا حين نشعر بالضعف، في المقهى البعيد الذي يصدح فيه “You Can Get It If You Really Want”، في الخطوة التي نخطوها ونحن نتعثر ثم ننهض. يبقى في الهواء الدافئ الذي يحمله البحر الكاريبي، وفي الريح التي تمرّ على المدن البعيدة وتقول: إن العالم رغم كل قسوته… ما يزال فيه موسيقى. وداعاً يا جيمي… أيها الرجل الذي علّمنا كيف نعبر الأنهار الثقيلة، وكيف نردّد خلفك — في وجه الحياة كلها — أننا سنمضي… مهما كان الطريق طويلاً الي الخلاص الابدي وموسيقك في خاطرنا مدي العمر #.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة