يعيش السودان واحدة من أكثر لحظاته تعقيدًا منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. فالصراع لم يعد مجرد مواجهة عسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل تحوّل إلى ساحة اختبار لإرادات إقليمية ودولية تتقاطع مصالحها عند بوابة البحر الأحمر وموارد السودان الاستراتيجية. تسريب تفاصيل المفاوضات، وتوقيتها، وطبيعة الأطراف المشاركة فيها، يعكس أن التفاوض أصبح أداة للصراع السياسي والدبلوماسي أكثر من كونه مسارًا لبناء السلام. تستخدم الولايات المتحدة أسلوب القوة الناعمة عبر التسريبات المتعمدة كوسيلة ضغط سياسي. الإعلان عن مفاوضات غير مُعلنة بين الأطراف السودانية لم يكن عفويًا، بل خطوة محسوبة تهدف إلى كسر دائرة الغموض التي يعتمدها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وتجريده من ورقة الإنكار التي استخدمها طويلًا. هذا التكتيك أجبره على مواجهة تناقضاته أمام الرأي العام، وأضعف قدرته على المناورة داخل المشهد السياسي والعسكري. في المقابل، أظهر الإعلان الأمريكي هشاشة موقف البرهان على المستويين الداخلي والإقليمي. فبينما حاول مجلس السيادة نفي وجود أي مفاوضات، كانت الضغوط الإقليمية من مصر وقطر وتركيا تمنعه من سحب الوفد المشارك، وهو ما يعكس تراجع قدرته على التحكم في القرار السيادي وتحوله من فاعل إلى طرف مقيّد بالتوازنات الخارجية. كما أن الانقسام داخل الدائرة العسكرية والسياسية الموالية له كشف عن أزمة قيادة وفقدان للرؤية الموحدة. داخل الحركة الإسلامية الداعمة للجيش، تسود حالة من الفوضى الفكرية والانقسام بين من يدعو للتفاوض ومن يتمسك بخطاب الحرب والمواجهة. هذه الازدواجية أربكت حتى الوفد التفاوضي الرسمي إذ تشير المعلومات إلى أن بعض أعضائه يتجنبون التواصل مع عائلاتهم خوفًا من المراقبة والعقوبات، في مشهد يعكس أزمة ثقة داخل مؤسسات الدولة نفسها، حيث تصنع القرارات في مناخ من الترهيب لا التشاور. تتحرك الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات) وفق نهج جديد يقوم على فرض أجندة تنفيذية واضحة تشمل وقف إطلاق النار الإنساني، إنشاء آلية دائمة للسلام، حظر الدعم الخارجي، وإطلاق مسار انتقالي مدني جديد. هذا التحول من إدارة الحوار إلى فرض الحلول يعكس رغبة المجتمع الدولي في تجاوز الشخصيات القيادية الحالية، والتعامل مع الأزمة بمنطق مؤسسي يضع الأساس لتسوية مفروضة أكثر من كونها تفاوضية. في الإقليم، تخشى دول الجوار من انفجار الصراع إلى خارج الحدود. فمصر ترى في بقاء الدولة المركزية ضمانًا لأمنها المائي، بينما تسعى الإمارات لحماية مصالحها الاقتصادية في قطاع الذهب والموانئ وتعمل تركيا وقطر على تعزيز حضورها السياسي في شرق السودان. وعلى الرغم من دعوات الرباعية لوقف الدعم الخارجي، إلا أن الإمدادات العسكرية غير المباشرة ما تزال تتدفق، مما يجعل التوازن الإقليمي هشًا ويؤخر فرص التوصل إلى تسوية شاملة.
اختارت الرباعية الإعلان عن خطتها في 12 سبتمبر 2025، قبل انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، في خطوة تهدف إلى تحويل الأزمة السودانية إلى ملف دولي قابل للتداول وإعطاء المفاوضات شرعية أممية. هذا التوقيت الاستراتيجي وضع الأطراف السودانية تحت ضغط مزدوج — دبلوماسي من الخارج وميداني من الداخل — ما قلّص مساحة المناورة السياسية إلى حدود ضيقة. في المحصلة، لا يمكن وصف المشهد السوداني الحالي بأنه عملية تفاوض بالمعنى التقليدي، بل هو إعادة هندسة سياسية قسرية فرضتها القوى الدولية والإقليمية عبر أدوات القوة الناعمة والدبلوماسية النشطة. فقد كشفت الأزمة عن تصدعات داخل المؤسسة العسكرية، وانقسامات حادة بين التيارات الإسلامية، وتراجع قدرة الدولة على اتخاذ قراراتها السيادية بشكل مستقل. وفي المقابل، نجحت القوى الدولية في فرض مسار سياسي جديد مستفيدة من إنهاك الحرب وتآكل شرعية الأطراف. إن مستقبل السودان اليوم يتحدد ليس وفق إرادة المتحاربين، بل وفق قدرة القوى الإقليمية والدولية على فرض تسوية واقعية قد تُوقف الحرب مؤقتًا، لكنها لن تُنهي جذور الصراع على السلطة والثروة، التي ما زالت تمثل لبّ الأزمة السودانية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة