|
Re: # البوح والحميميّة الرقمية خلف الشاشة (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
البوح والحميميّة الرقمية خلف الشاشة
زهية الحربي
في مساءٍ عاديّ، كتبت لصديقتي رسالةً طويلة لم أجرؤ يومًا على قول نصفها وجهًا لوجه؛ كتبتها بطمأنينةٍ غامضة. وحين ضغطتُ زر الإرسال، أدركت أنني قلت أصدقَ ما في قلبي، ولكن لأقرب شاشة، لا لأقرب إنسان.
تتكرّر هذه الظاهرة يوميًّا في حياتنا الرقمية؛ بوحٌ يتدفق خلف الشاشات، بينما تختنق الكلمات في اللقاءات الحقيقية. نتحدّث بحرية مع الغرباء أكثر مما نفعل مع المقربين، ونكتب عن وجعنا للعالم، بينما نعجز عن قوله لمن يعنيهم الأمر. فما الذي يجعل العالمَ الافتراضي مسرحًا أصدق من العالم الواقعي؟
يفسِّر علماء النفس هذا الميل بما يُسمَّى «تأثير إزالة الكوابح على الإنترنت» (Online Disinhibition Effect)، وهو شعور الفرد بالتحرر من الرقابة الاجتماعية حين يتحدث عبر الوسائط الرقمية. فالكتابة تبعدنا عن التوترات غير اللفظية، عن النظرات والوجوه والتوقعات. إنّها مساحة «آمنة» لممارسة الصدق دون خوف من الرد الفوري أو الانفعال المباشر.
ولعلَّ هذا ما يفسر جرأة البعض في الاعتذار، أو الاعتراف، أو حتى الانفصال عبر رسالة نصية. فالإنترنت لا يوفر الحقيقة، لكنه يزيل رهبتها، يجعلك تقول ما لم تكن لتجرؤ على قوله في الضوء، فقط لأنّك مختبئ خلف شاشة تشعرك بأنك غير مرئي.
غير أن هذا النوع من البوح الرقمي يخلق علاقاتٍ جديدة، حميمية مجرَّدة من اللمس والصوت واللقاء، مبنية على النصوص والصور والمحادثات الطويلة. علاقات دافئة في ظاهرها، لكنها هشَّة في عمقها، تفتقر إلى ملمس الواقعية، إلى حرارة الجسد البشري الذي لا يمكن أن تحاكيه الإشعاعات الضوئية للشاشات.
في دراسة أجرتها مجموعة باحثين أستراليين على 687 فردًا، تبيَّن أن «إحساس الفرد بأنه محمي أو غير مرئي على الإنترنت» يفسِّر 42.2% من الاختلاف في مستويات التصرف بلا كوابح رقمية. يبدو أننا نلجأ إلى المسافة الإلكترونية لا لنتقرَّب، بل لنحمي أنفسنا من القرب الحقيقي، ومن المواجهة، ومن الضعف الذي يتكشَّف حين ننظر إلى عيون الآخرين مباشرة.
قد يكون البوح عبر الكتابة محاولة لاستعادة السيطرة على المشاعر؛ فنحن حين نكتب، نختار المفردات، نراجعها، ونحذفها أو نجمِّلها، ثم نرسلها في اللحظة التي نشعر فيها أنها «صالحة للعرض»، بينما في الحديث الحقيقي لا وقت للتنقيح، ولا مجال للهروب. لهذا يبدو العالم الرقمي أكثر أمانًا من العفوية التي تربكنا في الواقع.
لكن هذا الأمان ليس بريئًا تمامًا؛ فالمنصات الاجتماعية نفسها متواطئة مع هذه الحميمية الجديدة. إذ تشجعنا خوارزمياتها على القول أكثر من الاستماع؛ فنحن نكتب، نشارك، نعبِّر، نعلق، ننشر، لكنّنا نادرًا ما نصغي. وبينما نظن أننا نبوح بصدق، نكون في الحقيقة نصوغ ذواتنا كما نريد أن تُرَى، لا كما هي فعلًا. وهنا يتقاطع البوح مع النرجسية الرقمية، وتتحول الكلمات إلى وسيلةٍ لتجميل الألم، لا لمواجهته.
في هذا الفضاء المفتوح، تتَّسع دائرة الإفصاح وتضيق مساحة الفهم. نُرسِل نصوصًا مطوَّلة عن وجعنا الشخصي، فتأتي الردود مقتضبة مؤتمتة: «لا تكبِّر الموضوع» أو «الله يعينك» ثم نعود إلى وحدتنا بالثقل نفسه الذي كتبنا به، وربّما أكثر. فقد صارت الحروف تُطفئ الألم مؤقّتًا، مثل المسكِّن الذي لا يُعالج الجرح، فقط يهدّئه.
تشبه الكتابة خلف الشاشة الحديث في غرفةٍ مظلمة؛ نسمع الصدى أكثر مما نرى الوجوه، نثق لأننا لا نُرى، ونبوح لأننا نختبئ. نمنح الآخرين خريطةً لمشاعرنا، لكننا لا نمنحهم طريق الوصول إلينا. وحين تنطفئ الشاشة، لا يبقى من البوح إلّا أثره، كرسالةٍ قديمة في بريد شخصٍ أُمِّي، لن تصل إلى وجهتها قط.
ولعلَّ أبلغ ما في هذه الحميمية الرقمية أنها تكشف هشاشتنا المعاصرة: فنحن جيلٌ يتقن التعبير أكثر من التواصل، يكتب كي يُفهَم لا كي يُجاب، نُفضِّل المسافات على القرب، والصمت المرقمن على الضجيج الحقيقي للعلاقات.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنّ الكتابة أنقذت كثيرين من الانعزال التام. فقد وُلدَت خلف الشاشة صداقاتٌ عميقة واعترافاتٌ مخلِصة وحوارات لم تكن لتحدث في العالم الواقعي؛ لقد منحتنا الوسائط نافذة نحو أرواح تشبهنا، حتى لو كانت مؤقتة.
لكن، هل يكفي أن نكتب كي نُفهَم؟ ربما آن الأوان لنسأل أنفسنا: ماذا بعد الإرسال؟ ماذا بعد آخر رسالة تغلقها بالتمرير إلى الأعلى؟
إذا كانت الشاشات تمنحنا الجرأة، فلتكن وسيلة عبور نحو تواصلٍ أكثر أصالة، لا بديلًا عنه. فلنستخدمها كجسر، لا كجدار؛ لأن الحميمية الحقيقية لا تُقاس بعدد الكلمات التي كتبناها، بل بقدرتنا على قولها وجهًا لوجه دون خوف من عيون من يرانا.
| |
 
|
|
|
|