في فضاء افتراضي يضجّ بالصوت، تنهض "جمهورية الكلام بلا حدود"، لا شبيه لها إلا بسوق عطبرة الرقمي، حيث لا تُقايَض السلع، بل تُتداوَل الثرثرة الخاوية بعملة الوهم. هنا، الضجيج هو شهادة الوجود، والصمت انتحار بطيء. ميكروفونية الحكم والعبث تحكم هذه الجمهورية حكومة ذات شعار بارد مهم جدا هو "الكلامُ ما بيُسخّن عيشًا". يُتَوّجُ على رئاستها "المايكروفون المتجوّل"؛ كيانٌ صَوتيٌّ ينتقل بين الحناجر بلهفة النحلة، لكنه لا يلقّحُ فكرًا، بل يوزّع لسعاتٍ كلاميّة تترك حكة في الأذن وعُقمًا في المعنى. ويَشغل "العارف بكل شيء" منصب وزير التبجّح الرقمي، هذا الكاهن الذي لا يكتفي بإصدار الفتاوى في شؤون الأرض، بل يتعداها ليُقْسِمَ على عدد شعرات لحية السيّد المسيح لو طال عهدها! أما وزارة النصائح غير المُجدية، فتُديرها يدٌ حكيمة تسكن غرفة في أم درمان، تنهمك في تقديم خططها العبقرية لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي من شباك النسيان، ضاربةً بعرض الحائط الفارق بين شباك غرفتها وشبّاك وول ستريت. الكومبارس والعابرين في مسرح الصوت في هذه الحفلات الصوتية، يتحول المستمع إلى "كومبارس إجباري" تحت وطأة قواعد النفاق الاجتماعي وأنا بس داخل أسمع": قَسَمٌ يماثل كذب الأعراب، ينطق به المستمع وهو يُعِدُّ الشاي ويُدير موقدَه، مُتظاهرًا بالانغماس فيما روحه بعيدة عن الساحة. "عندي نقطة صغيرة" جملةٌ تبدأ بلمحةٍ خاطفة، لكنها لا تلبث أن تتحول إلى "رحلة حجّاج" تبدأ من مكة الفكرة لتنتهي في طوكيو التفاصيل التي لا تهم أحدًا. "خلّينا نسمع رأي الإخوة" ليست دعوةً للحوار، بل هي مُناوَرةٌ حربية، يَتَقَنّعُ بها المتحدث لجمع أنفاسه، ثم العودة بهجوم كلامي كاسح. مفارقات الغربة والوجود تتجسد المفارقات الوجودية هنا في أبهى صورها العبثية: يتباحثون في مأساة انقطاع الكهرباء في الخرطوم وهم يشحنون هواتفهم من مقابس أوروبا المضيئة، أو يتغنون بعذابات "الغُربة" من مقعد فاخر في مقهى "ستاربكس" بوسط لندن، حيث الغربة الحقيقية هي غربة الروح عن المكان والزمان. ويُلقون مواعظ الزهد والتقشّف، بينما فواتيرهم الشهرية للإنترنت تتجاوز تكلفة معيشة شهر في قرى البساطة! كهنة المنفى الافتراضي في ركنهم المظلم، تعقد المعارضة الصوتية العليا اجتماعاتها؛ قادة المنفى الافتراضي الذين "أسقطوا" عشر حكومات وهم متقوقعون في بجاماتهم المريحة. يصدرون بياناتهم النارية في منتصف الليل، ثم يختفون عند الفجر، وكأنهم "جهاز إنذار بطاريته فارغة" لا يطلق صيحة إلا ليُسكَتَ سريعًا. يرفعون شعار "نحن الشعب"، لكن جمهورهم لا يتجاوز عدد أعضاء مجموعة واتساب العائلة؛ صوتٌ عالٍ في فراغ صاخب. حجّ الكلام إن "الكلوب هاوس" في جوهره أشبه بموسم الحجّ الدائم، حجّ الكلام لا حجّ الأجساد- الجميع يريد الحضور وإثبات الذات. الجميع يتحدث بلغة يفهمها هو فقط. الجميع يعود من الرحلة بنفس العقلية التي ذهب بها. الامر الاخير هو إذا اضطررت لدخول هذه الجمهورية الصوتيّة، فلتكن الصمت أجمل تحية تُلقيها على أصواتها... أو على الأقل، الفعل الأقل إزعاجًا. (مع تحيات الطيبات لكل ناجٍ من تسونامي الكلمات المرة والمجنونة في الكلوب هاوس ، و وجد في الصمت ملاذًا).
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة