عقب اجتماعات "زووم" التي يعقدها سودانيو المهجر في أميركا، والتي تناقش قضايا نبيلة كوقف الحرب ودفع الإغاثة، يطفو على السطح سؤال جوهري غالباً ما يتم تجاوزه: هل تُبنى المشاريع الوطنية من الأدوات إلى الغايات أم أن النجاح مرهون بوضوح المنطلقات الفكرية والتأسيسية أولاً؟ الواقع يشير إلى أن كثيراً من جهود النخب في المنافي تبدأ من "كيف" نعمل (الأدوات) قبل أن تحدد "لماذا" وما "الرؤية" التي تقود عملنا (المنهج والغايات). هذه المعالجة بالمسكنات لأزمة السودان المزمنة لن تنتج إلا حلولاً هشة، أشبه ببناء قمة برج دون أساسات. الدرس الأمريكي التأسيس بالدم والتضحيات، لا بالاستجداء نعيش هنا في الولايات المتحدة، التي لم تصل إلى ما هي عليه اليوم بانتظار مساعدات إنسانية من أوروبا أو بضغوط خارجية. بل أسسها آباؤها بتضحيات جسورة خلال حرب أهلية دامية (١٨٦١-١٨٦٥). لم تكن تلك الحرب مجرد صراع عسكري، بل كانت معركة وجودية حول سؤال تأسيسي: "هل يمكن لأمة تؤمن بالمساواة أن تبقى منقسمة بين نصف حر ونصف عبد؟". كما أدرك الرئيس أبراهام لينكولن، كان ذلك اختباراً لأخلاق الأمة وجوهرها. لقد أدرك القادة الأمريكيون، من لينكولن إلى المفكرين الأحرار مثل فريدريك دوغلاس – المحرر من العبودية – أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بنضال داخلي جريء. دوغلاس نفسه لخص الدرس بقوله: "من دون كفاح، لا توجد تقدم". هذه التجربة تذكرنا بأن بناء الدول يتم من الداخل، عبر مواجهة التناقضات العميقة وحسم الأسئلة التأسيسية، وليس بالرهان على عطايا الآخرين. المفارقة الصارخة- ازدواجية التمتع بالعلمانية هنا والدعوة للتمييز هناك المفارقة التي تصل إلى حد النفاق السياسي والأخلاقي، هي أن كثيراً من السودانيين في المهجر يعيشون في كنف دستور أمريكي علماني يضمن لهم مواطنة كاملة بغض النظر عن الدين أو العرق أو القبيلة. يتمتعون بحماية قانونية تمنع التمييز ضدهم. لكن بعضهم، عندما يتحدث عن مستقبل السودان، يتراجع إلى خطاب يدعو بشكل مباشر أو غير مباشر إلى دستور ثيوقراطي أو يحافظ على امتيازات تاريخية قائمة على الهوية. إنها ازدواجية مذهلة: التمتع بالمساواة هنا، والسعي لإدامة مواطنة منقوصة هناك. نحو لحظة تأسيس ثانية للسودان: العلمانية واللامركزية والعدالة ما يحتاجه السودان اليوم هو "لحظة تأسيس ثانية" على غرار ما أنتجته الحرب الأهلية الأمريكية، والتي أدت إلى إلغاء العبودية وتوسيع مفهوم المواطنة. لقد كانت، كما يصفها المؤرخ ديفيد بلايت، إعادة تأسيس للدولة على أسس أكثر عدالة. حرب السودان الحالية ليست مجرد نزاع على السلطة، بل هي صراع على الإجابة عن سؤال: ما معنى أن تكون مواطناً سودانياً؟ هل الدولة لكل أبنائها بالتساوي، أم هي حكر لفئة أو هوية معينة؟ لذلك، يجب أن يكون أي مشروع لوبي أو ضغط سياسي من السودانيين الأمريكيين موجهاً نحو دعم رؤية تأسيسية واضحة تقوم على: العلمانية- فصل الدين عن الدولة كضمانة وحيدة للمواطنة المتساوية. اللامركزية الفعالة- توزيع عادل للسلطة والثروة بين كل أقاليم السودان. العدالة التاريخية- الاعتراف بحقوق الأقليات والنساء والنازحين، واعتبارها أساساً للعقد الاجتماعي الجديد. من مجموعات "زووم" إلى لوبي تأسيسي فاعل إن تشكيل مجموعة للسياسيين السودانيين الأميركيين يجب أن يكون فرصة تاريخية للانتقال من النقاشات التكتيكية حول الإغاثة – رغم أهميتها الإنسانية – إلى بلورة رؤية استراتيجية. الرؤية التي تستلهم الدرس الأمريكي الأعمق: لا استقرار بلا عدالة، ولا وحدة بلا مساواة.
الواجب الوطني يستدعي تحويل هذا اللوبي إلى أداة تدعم مشروعاً تأسيسياً يجيب على أسئلة السودان الجوهرية، مستفيداً من التجربة الأمريكية التي يعشون في ظلها. آن الأوان لإنهاء "اللف والدوران" ومواجهة جذور الأزمة بشجاعة. فالمسألة ليست في "كيف" نوقف الحرب فقط، بل في "أي سودان" نريد بناءه بعد إطفاء الحرائق. فقط بتبني هذا المنطلق التأسيسي نكون قد تعلمنا الدرس الحقيقي من البلد الذي استضافنا.
09-26-2025, 02:05 AM
Biraima M Adam Biraima M Adam
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 34305
أبو الزوز نحن نعيش في غيبوبة سياسية .. مثلاً كامل إدريس يتحدث عن دولة فلسطينية مستقلة أمام الجمعية العامة .. وتحرير الفاشر فوراً ... وغيرها الكثير. .. أشبه بمن يؤذن في مالطة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة