منذ الاستقلال، ظل السودان يعيش على مفترق ثلاثية مأزومة: القبيلة، الهوية، والدولة. غير أن هذا التثليث لم يكن مجرد انعكاس لبُنى اجتماعية تقليدية، بل نتاج لتاريخ طويل من الإخفاق في بناء مشروع وطني جامع، حيث ظلت الدولة الحديثة أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الثقافية والسياسية. أولاً: القبيلة.. بين الاستيعاب والإقصاء غالباً ما جرى تصوير القبيلة كعقبة في وجه الحداثة السياسية. لكن الدراسات المعاصرة، مثل ما يقدمه عطا البطحاني في "الدولة السودانية: جدلية السلطة والهوية"، تبيّن أن القبيلة ليست بنية جامدة، بل أداة مرنة استخدمتها النخب الحاكمة لتثبيت سلطتها عبر الزبائنية السياسية. من مظور جديد، يمكن قراءة القبيلة كبنية وسيطة تتيح إعادة توزيع السلطة محلياً، شرط أن تُفكك منطق "العصبية" لتصبح مكوّناً من مكوّنات الحكم اللامركزي التوافقي، لا منافساً للدولة أو بديلاً عنها. ثانياً: الهوية.. من جوهر ثابت إلى مشروع مشترك تأرجحت الهوية السودانية بين ثنائية العروبة/الأفريقانية والإسلام/الحداثة. وقد نبّه المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل إلى أن إشكالية الهوية في السودان نتجت عن "تغليب بعدٍ واحد على حساب التعدد". أما جون قرنق فقد طرح في رؤية السودان الجديد أن الهوية يجب أن تُبنى على مبدأ "الوحدة في التنوع"، أي جعل التعدد الثقافي مصدراً للغنى لا للانقسام. من هذا المنظور، تصبح الهوية مشروعاً تعاقدياً يتجدد عبر العيش المشترك، لا معطى موروثاً يفرضه الأصل أو الثقافة المهيمنة. ثالثاً: الدولة.. أزمة الشرعية قبل أزمة المؤسسات يرى حيدر إبراهيم علي في كتابه أزمة الإسلام السياسي أن الدولة السودانية منذ الاستقلال فشلت في أن تكون محايدة، وتحولت إلى "دولة غنيمة" تتقاسمها النخب عبر العسكر أو الطائفية. هذا الفشل تعمّق مع سياسات الأسلمة والتعريب القسري، خصوصاً في عهد الإنقاذ، حيث فُرض نموذج ثقافي-ديني أحادي باسم الهوية الوطنية. هذه السياسات لم تنتج سوى مقاومة مضادة من الأقاليم المهمشة (الجنوب، دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق)، مما قاد إلى حروب طويلة وانفصال الجنوب. بالتالي، الأزمة ليست مؤسسية فقط، بل أزمة شرعية ناجمة عن غياب مشروع وطني يساوي بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم. نحو أفق جديد: التوليف الثلاثي لكي نخرج من هذه الحلقة، لا بد من مقاربة تتجاوز الثنائيات التقليدية: القبيلة تتحول إلى أداة للتنمية المحلية وبناء السلم الأهلي، لا مجرد قاعدة للولاء السياسي.
الهوية تعاد صياغتها على أساس المواطنة التعددية، بعيداً عن فرض العروبة أو الأسلمة كمعيار إجباري. الدولة تستمد شرعيتها من عقد اجتماعي جديد يقوم على العدالة والمساواة وتوزيع السلطة والثروة. إن استعادة السودان من أزماته لا تكمن في إلغاء التنوع، بل في تحويله إلى قوة، وهو ما يتطلب شجاعة سياسية وفكرية لتفكيك إرث الهيمنة الثقافية وبناء مشروع سودان جامع يلتقي فيه الناس على أساس العيش المشترك لا الانتماء القسري.
* تم الاستناد لهذه المراجع المعاصرة في صياغة الورقة - عطا البطحاني، الدولة السودانية: جدلية السلطة والهوية. محمد أبو القاسم حاج حمد، السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل. جون قرنق، رؤية السودان الجديد. حيدر إبراهيم علي، أزمة الإسلام السياسي. فرانسيس دينق، صراع الرؤى في السودان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست