الجذور التاريخية للصراع في السودان: رحلة في ذاكرة الانقسام
ليس ما يجري اليوم في السودان وليد اللحظة، بل هو امتداد لسلسلة طويلة من الانقسامات والصراعات التي توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل. من ممالك النوبة القديمة، مرورًا بالاستعمارين التركي–المصري والبريطاني–المصري وصولًا إلى الدولة الوطنية بعد الاستقلال، ظل السودان يواجه نفس السؤال: كيف يمكن أن يبني دولة تسع الجميع؟ تنوع قديم بلا إطار جامع عرف السودان منذ القدم ممالك قوية في الشمال مثل كوش ومروي، في حين ظل الجنوب والأطراف يعيش في مجتمعات زراعية ورعوية متفرقة. هذا التباين الجغرافي والثقافي لم يتحول إلى قوة، بل بقي هشًا، وأرسى أول بذور المركز والهامش. الاستعمار التركي–المصري: الدولة بوصفها غنيمة حين دخل الأتراك–المصريون السودان عام 1821، نظروا إلى الأطراف كمخزن للذهب والعاج والعبيد. هكذا ترسخت صورة الدولة ككيان غريب ينهب الخيرات ويترك خلفه المظالم. الحكم الثنائي البريطاني–المصري: صناعة سودانين مع دخول البريطانيين عام 1899، جرى تطبيق سياسة "فرق تسد" بذكاء بارد. تم عزل الجنوب رسميًا عبر "قانون المناطق المقفولة"، وتشجيع التبشير المسيحي والتعليم الإنجليزي فيه، بينما استمر التعريب والأسلمة في الشمال. النتيجة: ميلاد سودانين متوازيين داخل خريطة واحدة. الاستقلال: حلم ضائع حين نال السودان استقلاله عام 1956، كان الإرث ثقيلاً. النخبة الشمالية ورثت دولة غير متصالحة مع نفسها. ففرضت سياسات التعريب والأسلمة في الجنوب، لتشتعل أول حرب أهلية استمرت سبعة عشر عامًا. لم يكن الصراع مجرد ديني أو عرقي بل هو معركة حول معنى أن تكون سودانيًا. نميري والنفط: من الهوية إلى الثروة أوقف اتفاق أديس أبابا (1972) الحرب مؤقتًا، لكن اكتشاف النفط في الجنوب فتح الباب لصراع جديد: صراع على الموارد. النفط، بدل أن يكون نعمة، تحول إلى لعنة غذّت الانقسامات وأعادت النزاع من جديد. دارفور: نسخة أخرى من المأساة في مطلع الألفية، انفجرت دارفور. الأرض والموارد كانت الشرارة، لكن السلطة المركزية حولتها إلى حرب هوياتية عبر استخدام الميليشيات المسلحة. هنا تكررت المأساة: التهميش يولد غضبًا، والغضب يولد حربًا، والحرب تجلب التدخلات الدولية. ثورات وانقلابات: حلقة مفرغة من أكتوبر 1964 إلى أبريل 1985 إلى ديسمبر 2019، ظل الشارع السوداني يثور بحثًا عن الحرية. لكن الانقلابات العسكرية كانت دائمًا تقطع الطريق. وهكذا استمرت الحلقة: ثورة، انقلاب، قمع، ثم ثورة جديدة. أزمة دولة لم تكتمل
الصراع في السودان ليس خلافًا عابرًا، بل أزمة ممتدة:
هوية لم تُحسم: من هو السوداني؟ عربي، إفريقي، مسلم، مسيحي… أم مزيج من كل ذلك؟
ثروة لم تُوزع بعدل: النفط والذهب والأرض بقيت رهينة المركز.
سلطة لم تشمل الجميع: الحكومات المتعاقبة فشلت في تمثيل كل الأقاليم.
الطريق إلى المستقبل لن يمر إلا عبر عقد اجتماعي جديد يعترف بالتنوع ويعيد توزيع السلطة والثروة بعدل، بعيدًا عن إرث الهيمنة والاستعلاء.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة