لا تكاد أزمة السودان تنفصل عن سؤال النخبة- من يحكم؟ وكيف يحكم؟ ولماذا تفشل محاولات بناء الدولة الحديثة منذ الاستقلال؟ هذه الأسئلة يضعها كتاب “السودان عنف النخبة” في صلب تحليله لينتهي إلى خلاصة مريرة: أن السودان لم يسقط ضحية لعنف المجتمع أو “الفوضى الشعبية”، بل لعنف النخب التي احتكرت السلطة وأعادت إنتاجها في كل مرحلة.
الكتاب لا يقرأ العنف بمعناه الدموي فقط، وإنما كآلية بنيوية تمارسها النخب ضد المجتمع: عنف في توزيع الموارد، عنف في احتكار الحقيقة السياسية، وعنف في صياغة هوية الدولة. بهذا المعنى، يصبح العنف فعلًا مؤسسًا للسلطة لا مجرد نتيجة للصراع. النخبة بين المركز والهامش يرى المؤلف أن النخبة السودانية، منذ فجر الاستقلال، تشكلت في المركز النيلي، وأعادت إنتاج دولة ما بعد الاستعمار على صورتها. لكنها فشلت في تمثيل التنوع الهائل في السودان، فتحولت الدولة إلى جهاز فوقي يفرض تصورات المركز على الأطراف. من هنا تبدأ جذور الحروب الأهلية، وتمردات الهامش، والانقسامات التي انتهت بانفصال الجنوب، وما زالت تهدد ما تبقى من الوطن.
الدين والسياسة واحدة من أبرز محاور الكتاب هي قراءة علاقة النخبة بالدين. فبينما رفعت بعض النخب شعار “الإسلام هو الحل”، وظفته لتبرير الاستبداد، في حين تعاملت نخب أخرى مع الدين كعائق أمام الحداثة. والنتيجة أن الصراع لم يكن بين “الإسلاميين” و”العلمانيين” بقدر ما كان صراع نخب تتصارع على أدوات الشرعية. أما المجتمع، فظل رهينة لهذه الثنائية القاتلة. عنف الفكرة الواحدة أحد أكثر الأفكار التي يلح عليها الكتاب هي أن النخب السودانية لم تتصالح مع التعددية. فكل نخبة تصل إلى الحكم تسعى لفرض فكرة واحدة، سواء كانت قومية عربية، أو إسلامية، أو يسارية. هذا الإصرار على إلغاء التنوع هو الشكل الأخطر للعنف، لأنه يفتح الباب أمام الحروب والانقلابات. البعد الفكري ما يميز هذا الكتاب أنه لا يكتفي بوصف الأحداث، بل يسائل البنية الفكرية التي حكمت سلوك النخبة. فهو يربط بين غياب المشروع الوطني الجامع وبين الانشغال بمشاريع أيديولوجية مغلقة، عسكرية كانت أو مدنية. وهنا تبرز المفارقة: السودان بلد غني بالثقافات والهويات، لكنه فقير في النخب القادرة على تحويل هذا الغنى إلى عقد اجتماعي عادل. راهنية الكتاب أهمية كتاب “السودان عنف النخبة” أنه يضيء اللحظة الراهنة التي يعيشها السودان تحت أهوال الحرب بين الجيش والدعم السريع. فهذه الحرب ليست سوى تجلٍ جديد للعنف البنيوي الذي مارسته النخب منذ الاستقلال. الفارق أن السلاح انتقل هذه المرة من يد الدولة إلى يد مليشيا صارت تنافسها في السلطة. *قراءة هذا الكتاب تضعنا أمام مرآة صعبة: مشكلتنا ليست فقط في الانقلابات أو الحروب أو التدخلات الخارجية، بل في عقل النخبة نفسها. النخب التي استباحت الدولة، وصادرت حق المجتمع في أن يكون شريكًا في صياغة مستقبله. ولعل الدرس الأهم الذي يقدمه الكتاب هو أن الخروج من دوامة العنف لن يتحقق بانتقال السلطة من نخبة إلى أخرى، بل ببناء مشروع وطني يعترف بالتنوع ويؤسس لديمقراطية حقيقية. بدون ذلك سيظل السودان يكرر تاريخه في حلقات عنف لا تنتهي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة