شهدت الساحة السودانية خلال الأيام الماضية تغييرات واسعة في قيادة الجيش وجهاز الأمن والمخابرات، شملت إحالات وترقيات، بالتزامن مع إقالة النائب العام وتعيين قاضٍ على رأس المحكمة الدستورية. هذه التطورات تُقدَّم رسميًا على أنها جزء من إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة، لكن في الواقع يظل السؤال الجوهري مطروحًا: هل نحن أمام خطوات إصلاحية حقيقية تمهِّد لانتقال ديمقراطي، أم أن الأمر لا يعدو كونه عملية تجميل سياسي لحكومة ما زالت عاجزة عن الخروج من عباءة الجيش؟ رمزية بلا سلطة فعلية الحكومة الحالية، التي تُقدَّم على أنها مدنية، لا تزال محصورة داخل الهامش الذي يتيحه العسكر. القرارات الجوهرية المتعلقة بالحرب أو السلام، والاقتصاد أو الأمن، تصنع في غرف الجيش. وبالتالي فإن تعيين قاضٍ دستوري أو إقالة النائب العام، برغم أهميتهما الرمزية، يبقى بلا أثر عملي في ظل غياب مؤسسات منتخبة أو استقلال قضائي حقيقي. براغماتية عسكرية ـ إسلامية؟ ما يثير الانتباه أن هذه التغييرات تبدو أقرب إلى البراغماتية الإسلامية – العسكرية: أي تقديم صورة “إصلاحية” شكلية لطمأنة الداخل والخارج، مع الإبقاء على جوهر السلطة في يد الجيش . إنها محاولة لإعادة تدوير المشهد السياسي عبر واجهة مدنية هشة، بينما يظل القرار الفعلي في يد من يملكون السلاح والموارد. حكومة مدنية أم واجهة سياسية؟ الحكومة الحالية نفسها تعكس هذا التناقض: فهي تُقدَّم كـ"خط مدني"، لكنها بلا أدوات حقيقية لممارسة السلطة. الوزراء أشبه بموظفين تنفيذيين، ورئيس الوزراء محاط بقيود واضحة، بينما القوة الفعلية لا تزال بيد المؤسسة العسكرية. لذلك يُخشى أن تكون هذه التغييرات مجرد مكياج سياسي لتجميل صورة الحكومة أمام الرأي العام، أكثر من كونها إصلاحًا جوهريًا. إعادة إنتاج النظام القديم الواقع أن التغييرات الأخيرة لا تمثل قطيعة مع الماضي بقدر ما تشكل استمرارًا له بوسائل جديدة. فالجيش يسعى لأن يظهر كشريك في "الحلم الديمقراطي"، لكنه شريك يمسك بكل الخيوط. إنها نسخة جديدة من العلاقة المدنية ـ العسكرية المشوهة التي عرفها السودان منذ الاستقلال، ولكن هذه المرة تحت شعار "حكومة الأمل". ما يحدث اليوم في مؤسسات الجيش والأمن والقضاء لا يخرج عن كونه إعادة ترتيب للمشهد بديكور جديد. فإذا لم تُترجم هذه الخطوات إلى تنازل فعلي عن السلطة، وتمكين مدني حقيقي، واستقلال للقضاء، فإنها ستبقى مجرد عملية تجميل لوجه العسكر.
والسؤال الذي يفرض نفسه هو هل سيكتفي الشعب السوداني والعالم الخارجي بهذا الإصلاح "الرمزي"، أم سيطالبان بما هو أعمق من مجرد تغيير أسماء في كراسي السلطة؟
08-26-2025, 09:20 PM
حيدر حسن ميرغني حيدر حسن ميرغني
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 29536
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة