17 أغسطس 2025 (وكالتنا الإخبارية) – الخرطوم بحري في بيت متضرر جزئياً بفعل القصف، يجلس ياسين النور (25 عاماً) محدقاً في صحن بلاستيكي يحتوي على كمية ضئيلة من عدس بلا رغيف. هي وجبته الوحيدة خلال الـ 48 ساعة الماضية، وربما القادمة أيضاً. هذه ليست حمية اختيارية، بل واقع مرير يُجسّد كفاح جيل كامل محاصر بين الحرب والجوع. الجوع رفيق يومي لا يُطاق يقول ياسين، بينما ترتجف يده وهو يرفع الملعقة الأولى: "لم أعد أتذكر طعم الشبع. جسدي يعتاد على الألم، على الدوخة الدائمة، على هذا الضعف الذي يمنعني حتى من صعود السلالم بسهولة." شعره خفيف وبشرته شاحبة، علامات لا تخفى على جسد كان رياضياً قبل عامين. اليوم، تحوّل كل همّه إلى البحث عن أي مصدر للطعام يكفي لإبقاء شعلة الحياة متقدة. 48 ساعة.. دورة حياة جديدة يروي ياسين تفاصيل يوميه اليوم الأول بعد الوجبة "أحاول أن أكون نشيطاً قدر الإمكان. أساعد في جلب الماء أو البحث عن حطب للطهي. أحارب الدوخة والغثيان." اليوم الثاني "يتحول كل شيء إلى كابوس. التركيز مستحيل، الصداع قاتل، كل حركة تكلف جهداً خارقاً. أفكاري لا تترك وعاء الطعام الفارغ." الوجبة – بقايا خبز يابس، أو قليل من البليلة أو العدس كما اليوم – تتحول إلى حدث مهيب. "أمضغ كل لقمة مئات المرات، كأنني أحاول استخلاص كل ذرة طاقة منها. حتى حلمي باللحم أو الفاكهة أصبح بعيداً كحلم السفر للقمر." الحرب تقتل الأحلام قبل الأجساد كان ياسين طالباً في السنة الأخيرة بكلية الهندسة، يحلم ببناء مساكن آمنة. الآن، تحول حلمه إلى مجرد البحث عن مكان ينام فيه بسلام. "كيف أفكر في مستقبل وأنا لا أعرف إن كنت سأعيش حتى نهاية الأسبوع؟ الحرب سرقت شبابي، صحتي، وحتى قدرتي على أن أكون عائلاً لأسرتي في يوم ما." صمود في مواجهة المجهول رغم اليأس، تشتعل في عينيه جذوة تحدٍّ -"نحن لسنا أرقاماً. نحن بشر. نأكل لنعيش، نعيش لنأمل. كل وجبة انتصار صغير على الموت. أتمسك بالحياة لأنها أغلى ما نملك." أحياناً يقسم وجبته الضئيلة مع جار مسنّ لا يقوى على الحركة، في فعل تضامن يبقيه إنساناً وسط واقع لا إنساني. خلفية المأساة يعيش عشرات الآلاف من شباب الخرطوم واقعاً مشابهاً لياسين بسبب ندرة الغذاء والدواء، وتحكّم جماعات مسلّحة في دخولها. دمار البنية التحتية من مخابز، مصانع، وأسواق. أزمة اقتصادية خانقة جعلت البطالة تتجاوز 90% وأفقدت العملة قيمتها. تعثر وصول المساعدات الإنسانية، وقلة ما يصل منها. ياسين النور ليس مجرد اسم في تقرير، بل وجه لجيل كامل يعيش على حافة البقاء. قصته تذكير صارخ بأن الحرب لا تقتل بالقذائف فقط، بل تقتل أيضاً بالجوع البطيء، بسرقة المستقبل، وبجعل البقاء على قيد الحياة إنجازاً يومياً معجزياً. السؤال الذي يظل معلقاً إلى متى يمكن لجسد الإنسان وروحه أن يصمدا أمام هذه الدورة الجهنمية؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة