عن العامية الوسطسودانية وقواعدها وفصاحتها المستقلة، والغناء السوداني وفن الحقيبة
ملاحظة استباقية: ليس المقصود بفصاحتها الإحالة إلى العربية الفصحى، بل فصاحتها الذاتية التي تستمد جوهرها من داخلها ولا تحيل إلى خارجها.. للتأكيد.
العامية الفصيحة (نعم، الفصيحة) هي دومًا عامية الريف أو البادية الأصيلة، تمامًا كما كانت فصاحة اللغة العربية في تاريخها متجذرة في بيئات البادية. فالأصالة والعمق اللغوي لا يتعارضان مع بساطة وواقعية التعبير، بل هما وجهان لعملة واحدة.
لا وجود لما يُسمى "لغة عامية أقرب إلى اللغة الكلاسيكية"، إذ أفضل استخدام مصطلح "الكلاسيكية" بدلاً من "الفصحى" لما يحمله الأخير من دلالات تعالي. فالعامية هي نتاج بيئتها في كل زمان ومكان، ولا يمكن قياسها بمدى قربها أو بعدها عن اللغة الكلاسيكية. إنها تعبير حي ينبع من واقع المتحدثين وظروف تواصلهم، وليست نسخة مصغرة أو متلاشية من الكلاسيكية. .
العاميات العربية، ومنها العامية السودانية الوسطسودانية، لم تأتِ من فراغ أو صدفة، بل تطورت تاريخيًا عبر قرون طويلة استجابةً لضرورات النطق والتواصل اليومي. وقد ساهمت هذه التطورات في تخفيف الأعباء اللغوية من خلال التخلص من القواعد الثقيلة، واستبدال الحروف الصعبة بحروف أخف وأقرب إلى اللسان العامي.
وتجدر الإشارة إلى أن الأحرف الثقيلة مثل الثاء، والذال، والقاف، والهمزات قد اختفت تدريجيًا منذ العهد العباسي، وهو العصر الذي شهد تحولات لغوية واسعة شملت جميع مناطق العالم العربي من الحجاز إلى الأندلس. لم يكن هذا الإقصاء عبثيًا، بل كان تطورًا طبيعيًا يهدف إلى تيسير النطق وسلاسة التواصل، مما ساهم في انتشار العامية واستخدامها اليومي.
فعلى سبيل المثال، تحولت الثاء إلى تاء أو سين أو صاد، والذال إلى دال أو زاي أو ظاء، والقاف تُنطق g في السودان واليمن، أو همزة في مصر والشام، في حين تُسقط الهمزات أو تُلين في العديد من الكلمات. إن هذه التغيرات لم تؤدِّ إلى فساد اللغة، بل أكدت حيويتها وديناميكيتها.
وتزداد حيوية العاميات، والوسطسودانية مثالنا، بتعدد مصادر كلماتها، إذ تحتوي على مفردات مستلفة من اللغات المحلية السودانية المتنوعة، إضافة إلى كلمات ذات أصول يونانية قديمة، وتركية، وإنجليزية. هذا التفاعل اللغوي يعكس تاريخ السودان الغني وتجاربها الثقافية، ويدل على مرونة العامية وقدرتها على التطور المستمر.
ولذا، أصبحت العاميات مجال الغناء والأدب الشعبي الواسع، حيث يتجلى التعبير الحقيقي عن هموم الناس وأفراحهم وأفكارهم بحرية وعفوية، لا تقيدها قواعد اللغة الكلاسيكية الصارمة.
تُعبر فصاحة العامية (في الريف لا المدينة) عن التزامها بأصلها، وبخفة نطقها وأصالة معانيها، وليس في إخضاعها لقوالب النحو والإعراب التي قد تفسد وزنها وقوافيها وبنيتها الصوتية، خصوصًا في الشعر والغناء الشعبي، ومنه فن الحقيبة الذي يعتمد بالكامل على قواعد العامية الوسطسودانية. ويتطلب الأداء الفني الالتزام بقواعد صوتية خاصة، كتحريك السواكن المتقابلة لتسهيل النطق والحفاظ على إيقاع سلس ومتناغم. ولهذا السبب اهتممتُ منذ عدة سنوات باستكشاف قواعد العامية الوسطسودانية، والآن العمل شبه مكتمل وقد نشرت بالفعل جزءًا منه.
إن لكل من العامية والفصحى فضاءه الخاص ووظيفته المتميزة، وفرض دمجهما قسرًا على النصوص العامية يخلّ بطبيعة كل منهما، ويحدّ من حرية التعبير وثراء الأداء الشعبي. ولذلك، فإن حماية العامية تقتضي الحفاظ على بنيتها وقواعدها وأسلوب نطقها المتداول بين أهلها، مع السماح لها بالتطور الطبيعي الذي يعكس حياة الناس وتغيراتهم.
ختامًا، إن الاعتراف بأهمية العامية وحمايتها ليس فقط حفاظًا على تراث لغوي وحضاري، بل هو أيضًا دعم لثقافة شعبية حية نابضة، تحكي تاريخ الناس وحاضرهم، وتفتح آفاق المستقبل. لهذا، يجب أن يُمنح الأدب الشعبي، والغناء العامي خصوصًا، مساحة الاحترام والرعاية التي يستحقانها، باعتبارهما ركيزة من ركائز الهوية الثقافية واللغوية للسودان.
ولهذا، فإن المشروع الثقافي السوداني وضع العاميات السودانية واللغات المحلية الأقدم في مركزية اهتمامه.
مرفق روابط ذات علاقة مباشرة بالموضوع، لمن شاء وعنده الصبر الجميل.. وشكرا يا زول يا سمح يا زين
(1) ابقوا عشرة على الحقيبة: رسالة إلى المغنين الأصيلين الجادين وكل المبدعين في بلادي.. لا تعرب الملحون ولا تلحن المعرب
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة