في ظل استمرار النزاع الأهلي في السودان، ومع اشتداد التنافس الإقليمي والدولي على هندسة مستقبل هذا البلد المنكوب، جاءت زيارة رئيس الوزراء السوداني إلى القاهرة كمحطة غير عادية. فهي لم تأتِ في سياق عادي، ولم يُعلن عنها تفصيلًا، بل جرت في ظل تكتّم إعلامي مصري وسوداني لافت، مما يطرح تساؤلات حول فحواها الحقيقية وتوقيتها الحرج. لكن الأهم من ذلك هو: كيف تعكس هذه الزيارة موقف مصر السياسي الفعلي من الحرب؟ وما علاقتها بـ تحولات مواقف القاهرة تجاه اللجنة الرباعية ومبادرة جدة والخوف من تغوّل الدور الخليجي؟ أولًا: زيارة تحت الكتمان... لكن ذات أبعاد استراتيجية زيارة رئيس الوزراء السوداني إلى القاهرة في هذا التوقيت ليست مجرد مجاملة دبلوماسية، بل تدخل ضمن إعادة التموضع السياسي المصري في مواجهة ما تعتبره القاهرة "تهميشًا ناعمًا" لدورها في الملف السوداني. وقد اكتسبت الزيارة وزنًا إضافيًا حين ترافقت مع: تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري الذي أشار فيه لأول مرة بوضوح إلى أن "الحرب في السودان تُهدد كيان الدولة السودانية ذاته". وهي لهجة جديدة تحمل تحذيرًا مبطنًا للفاعلين الدوليين من المسار الذي تسلكه المفاوضات بدون القاهرة.
تجميد فعلي للمشاركة المصرية النشطة في اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، بريطانيا، الإمارات) التي كانت تقود مفاوضات جدة، بسبب ما تراه مصر تحجيمًا لدورها لصالح محور خليجي-أمريكي.
ثانيًا: مصر بين الرباعية و"الواقعية الجيوسياسية" دور محدود في الرباعية رغم انخراط القاهرة مبدئيًا في دعم مسار جدة، إلا أن هيمنة الرياض وواشنطن على هندسة العملية التفاوضية أثارت حفيظة مصر، التي ترى أن أمن السودان لا يمكن فصله عن أمنها القومي.
القاهرة لا ترغب في أن تتحوّل الرباعية إلى غرفة عمليات مغلقة ترسم مستقبل السودان، بينما يُطلب من مصر فقط "مباركة النتائج".
الخوف من الهيمنة الخليجية تمثل السعودية والإمارات اليوم اللاعبين الأكثر تمويلًا ونفوذًا في المشهد السوداني، سواء في دعم بعض المسارات أو الفاعلين. وترى مصر في هذا النفوذ محاولة لتحويل السودان إلى ساحة تنافس استثماري وأمني مغلقة، دون مراعاة اعتبارات الجوار الجغرافي والتاريخي.
وتشعر القاهرة أن واشنطن تُشجع هذا التمركز الخليجي، مما يهمّش دور مصر ويحولها من شريك مفصلي إلى مراقب سياسي.
ثالثًا: قراءة في أهداف الزيارة رسائل مباشرة وغير مباشرة: الهدف الرسالة المحتملة إعادة تموضع مصري في الملف "لن نقبل أن يُدار السودان من خلف ظهر القاهرة" دعم غير معلن للجيش تأكيد انحياز مصر للاستقرار عبر المؤسسة العسكرية تحذير من مبادرات موازية (نيروبي/الإيغاد) مصر ترفض أي مسار إقليمي يُقصي دورها رسالة للخليج والولايات المتحدة "لنا يد في هذا الملف.. ولن تكونوا وحدكم على الطاولة"
رابعًا: كيف تؤثر الزيارة على المفاوضات القادمة؟ إعادة رسم الأولويات المصرية: القاهرة لن تكتفي بموقف المتفرج، بل ستطرح "مطالب ضمنية" لدمج رؤيتها في أي تسوية، ومنها ضمانات للأمن الحدودي، ووجود سياسي للتيار المدعوم من الدولة.
فرملة أي حلول متسرعة: مصر قد تضغط لعدم تمرير اتفاق دولي أو إقليمي "مفروض" على الجيش السوداني أو مؤسسات الدولة دون تفاهم مصري مسبق.
دعم بدائل سياسية مساندة: الزيارة قد تكون تمهيدًا لدعم شخصيات مدنية أو تكنوقراطية مقبولة مصريًا للمشاركة في مرحلة ما بعد الحرب.
خامسًا: دلالات تصريح وزير الخارجية المصري تصريح سامح شكري حول تهديد الحرب لكيان الدولة السودانية ليس تصريحًا عابرًا، بل يحمل دلالات عميقة:
تلميح إلى أن مصر قد تتدخل بشكل أكثر فاعلية (سياسيًا أو حتى ميدانيًا) إذا شعرت أن حدودها مهددة.
رفض لتحويل السودان إلى دولة فاشلة بقرار من فاعلين دوليين أو إقليميين.
رسالة إلى الجيش السوداني: أن القاهرة لا تزال تعتبر المؤسسة العسكرية عمود الاستقرار الأساسي، ولن تدعم حلولًا تُقصيه.
سادسًا: ما بين "مخاوف النفوذ" و"أدوات التحرك" أدوات مصر في الملف السوداني: النفوذ التاريخي واللغوي والديني في الشمال والوسط
زيارة صغيرة.. بأصداء سياسية كبيرة زيارة رئيس الوزراء السوداني إلى القاهرة، وإن لم يُكشف عنها تفصيلًا، فإن دلالاتها الاستراتيجية تتجاوز حجم التغطية الإعلامية لها. إنها رسالة بأن القاهرة لن تبقى على الهامش، وأن أي حل يُفرض على السودان لا يُمكن أن يتم دون التنسيق الكامل مع مصر.
وبين كتمان الدبلوماسية، وتصريحات العتب غير المباشر، تتحرك القاهرة في صمت... ولكن نحو إعادة فرض حضورها في ملف بات جزءًا من معركة النفوذ الإقليمي الكبرى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة