حالة السويد والسعودية.. نماذج مقارنة: بين دولة المواطنة الصاعدة والدولة الإنموذج.. والتبشيع المغرض!
عند تناول موضوع دولة المواطنة، كثيرًا ما تُستدعى نماذج (جاهزة) من التجارب الغربية بوصفها مثالية، ويُقارن بها الواقع العربي والأفريقي في سياق يُوحي بالفشل البنيوي أو التأخر القيمي. لكن هذا النمط من المقارنات يتجاهل فروقًا جوهرية تتعلق بالتاريخ، والبيئة، والبنية الاجتماعية والدينية، ويقع أحيانًا في فخ الاستعارة غير المنضبطة.
من هنا، تأتي أهمية هذه المقارنة التي لا تهدف إلى تبرير واقع أو نفي نجاحات، بل إلى مساءلة المعايير المستخدمة في تقييم (العدالة)" وبيان أن دولة المواطنة لا تتولد فقط من مؤشرات شكلية، بل من فهم عميق للسياق وبناء عقد اجتماعي حيادي.
في المقارنة بين السويد والسعودية:
السؤال الجوهري: هل المقارنة بين السويد والسعودية مُنصفة أو ذات معنى؟ وهل يمكن استخدامها كمعيار لإدانة دولة أو شعب؟
1. السياق التاريخي والاختلاف الجذري السويد كيان سياسي يعود إلى القرن السادس الميلادي، 600م، نعم التاريخ يقول بذلك، وقد مرت بمراحل تطور طويلة حتى وصلت إلى الملكية الدستورية، بينما المملكة العربية السعودية، في صيغتها الحديثة، لم يُعلن تأسيسها إلا عام 1932. هذا الفارق الزمني لا يعكس فقط عدد السنوات، بل طبيعة المسارات: فالأولى تحرّكت داخل مناخ أوروبي علماني، والثانية نشأت في بيئة دينية وقبلية، صحراوية وذات موارد محدودة.
كما أن السويد تنتمي إلى منظومة حضارية قامت جزئيًا على استعباد واستعمار شعوب أخرى، ما وفّر لها ثروات ساعدت في بناء مؤسساتها الحديثة، بينما السعودية لم تمارس هذا النمط من الهيمنة، بل نشأت على صراعات داخلية وتحديات توحيد جغرافي واجتماعي كبير.
2. معايير المقارنة والإشكالية الأخلاقية من غير الدقة استخدام معايير مثل (حرية التعبير) أو (الشفافية الإدارية) كأدوات وحيدة للمقارنة دون مراعاة:
السياق الثقافي والديني: السعودية مجتمع محافظ يحمل منظومة قيم مختلفة عن العلمانية السويدية مثله وبلدان كل المحيط.
الزمن التاريخي للتطور: السويد مرت بقرون من التراكم المؤسساتي، بينما السعودية في طور تحول سريع وعميق (رؤية 2030).
العدالة في المقارنة: من الإنصاف مقارنة السعودية بجوارها الإقليمي، لا مع نموذج أوربي من بيئة مختلفة كليًا.
3. الهجوم الانتقائي والتعميم الخاطئ في بعض الخطابات الإعلامية، يُصور أي خلل إداري أو حقوقي في السعودية على أنه بنية شاملة من الظلم، بينما يتم تجاهل التقدّم الملحوظ في:
البنية التحتية والخدمات العامة.
تمكين المرأة وفتح المجال العام.
الحضور الإسلامي العالمي، مثل تنظيم الحج وخدمة المسلمين.. وهذه مهمة من الخطورة بمكان.
كما تُغفل التحديات التي تواجه السويد، مثل تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين، وتمييز بعض المؤسسات ضد المهاجرين، وفشل سياسات الاندماج.
4. الرسائل الرمزية والانحياز الضمني الاستشهاد بقصص مثل حصول طفل لاجئ على جنسية سويدية يُستخدم في كثير من الأحيان كمثال على (العدالة المطلقة)، لكنه لا يعكس سياسات شاملة. بل تُوظف هذه الحالات أحيانًا لتعزيز السردية الغربية كأنموذج عالمي، مقابل (إدانة) النموذج السعودي، بما يُشبه الخطاب الاستشراقي الكلاسيكي في أزمانه الأولى.
5. هل السعودية قادرة على التطور؟ نعم، لكن وفق شروطها الزمنية والثقافية والسياسية. ليست العدالة نسخة واحدة، ولا المواطنة تُفرض من خارج السياق. ما تقوم به السعودية اليوم من تحولات اجتماعية واقتصادية يمثل محاولة لإعادة تعريف العقد الاجتماعي ( لا عبر تقليد الغرب) بل عبر اجتهاد داخلي، قد يُفضي إلى تجربة هجينة تحمل خصوصيتها الذاتية والمختلفة ربما كلية.
الخلاصة هذه المقارنة تكشف ما يلي: أن استخدام النماذج الغربية كمعيار أخلاقي وحيد فيه تبسيط. أن العدالة لا تتجسد فقط في المؤشرات، بل في القدرة على إدارة التنوع، وتحييد الامتياز، وتوسيع الحقوق.
أن دولة المواطنة العادلة والرفاهية لا تتولد من محاكاة، بل من وعي بالسياق، وتفكيك الأساطير المؤسسة للسلطة، وبناء عقد حيادي من داخل المجتمع ذاته.
في النهاية، ليست الدولة الغربية نهاية التاريخ، وليست الدولة العربية أو الأفريقية أو الأسيوية نموذجًا منغلقًا بطبيعته. بل إن الصراع الحقيقي اليوم هو بين دولة تُمأسس الامتياز، وأخرى تُحيّد الهويات الجزئية لصالح المواطنة في معادلة الزمن والخطط الإستراتيجية.. وهو ما تفعلة المملكة العربية السعودية بجدارة.. في نظري.
محمد جمال الدين.. باحث مختص في علم الأنثروبولوجيا.. مقيم بلاهاي/هولندا
07-25-2025, 00:37 AM
محمد جمال الدين محمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 6004
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة