إذا استوعبنا جيداً أن الآثرة، التي لا نسعى إلى زحزحة معانيها المعقدة، أو لتفكيك أبنيتها المتداخلة، في سردنا لهذه القصة، التي أياً كانت ملابساتها، ومخاطرها، فإن ما تمخض عنها، يمنحنا مبرراً قوياً، لإعادة النظر فيها، وطرحها على بساط البحث من جديد، فهدفنا الذي ننشده، ليس هو قصة نحكيها لطرد الضجر، أو لاستعطاف النوم، ولكن لتوطيد قناعتنا الراسخة، التي تذهب إلى أن "الأنانية" هي باعث الحماقة الإنسانية، التي تكفل نصوصها المشددة، الطعن، والانتهاك، والتحريف، والتشويه، والتضليل، وكل ذميم له خطره، وأثره، في الوصول إلى الغاية المبتغاة، إنطلاقاً من تصورات، وتهويمات، مآلها قدح الوقائع، والقفز على الحقائق، فالأنانية تلك الخصلة التي تحررت من منزعها الإيماني، تحتاج في الحق، إلى ذهنية متقدة، ومبتكرة، بوسعها أن تنتج ابداعات فكرية مدهشة، وخارقة، تستدعي الاعجاب، رغم ملامحها البربرية، وممارساتها الاستبدادية. الشبلي" المزارع الثري، الذي طرح شعار التجديد في آخر أيامه، من الطائفة التي تمرع الأرض بالخصب، ومن الزمرة التي تعشق الحقول وتعيش من أجلها، وتموت في سبيلها، تزوج في مقتبل عمره من" التاية" بنت عمه، التي كان دأبها، أن تثور في وجه من لا يستحق منها إلا التقدير، وكانت ثمرة هذا الزواج، الذي كانت تتحكم التاية في مصائره، أربعة بنات، وولد واحد، توفي وهو في ميعة الصبا، والسعادة التي كان يحدد الشبلي أغراضها، ويرسم أشكالها، قبل أن يقترن بالتاية، ضاعت بعد زواجه منها، فلم يهتدي إليها، أما الحب فقد "قٌبِرْ" قبل أن تنبعث فيه الحياة، والمودة التي كانت تفر منه، وتنأى عنه، انحرف عنها تفكيره وتقهقر، بعد عدة سنوات أمضاها في سوح الوغى، فلم يعد يناضل وينافح في سبيلها، لقد كانت الصفات التي تحتفظ بسمتها وطابعها، طوال مراحل زواجه البائس، الذي حفت التاية طريقه بالمكاره، وزعزعت أركانه بالكيد، وهدمت معبده بالنكد، هي الكرب، والضيق، والشقاء، حتى حلت بالتاية النهاية المحتومة، التي لم يكن بد من مجيئها إما اليوم، وإما غداً، لقد مانت التاية، "العبوة الناسفة" التي كان الشبلي يتجنب القرب منها، والاحتكاك بها إلا مضطراً، بعد أربعة عقود من الرهق والمعاناة، وبعد موتها، خاض الشبلي مسار صراع طويل وشرس، مع بناته الأربعة حتى استطاع أن يحسر موجة الانتقاد، المنددة بفكرة ارتباطه، كانت الشول، وست النساء، وشامة، والرضية، يستهجنون فكرة زواج الشبلي وينكرونها، ويستخفون بدوافعها، ويعتبرونها عمل غير عقلاني، تتعارض فلسفته مع" السيماءات الاجتماعية" التي تقتضي من أبوهم، إظهار الوفاء لزواجه الأول، والعيش على ذكراه. وبنات الشبلي، كنا يبغضن أن يقدم والدهم على اتخاذ هذه الخطوة، حتى لا يجر صنيعه هذا عليهم بنتائج مهلكة، وهذا ما حدث تماماً، فقد تزوج والدهم من "العازة" السيدة التي سبق لها الزواج من قبل، ولكنها لم تنجب من "زيجاتها" السابقة، فالشول التي تلقت اللوم والتوبيخ من شقيقاتها، اعتقدت واهمة أن العازة قد تجاوزت دوائر الانجاب، خاصة أنها قد تخطت الأربعين، ووفق هذه التصورات المسبقة، أصرت الشول أن تكون العازة هي المرأة التي يقضي معها والدها بقية أيامه، و"حِمل" العازة الذي تألمت منه الشول، وخافت منه، كان يمثل لها ولشقيقاتها، الكدر الذي الذي لا يشابهه كدر، والذعر الذي لا يضاهيه ذعر، لأن" حٍمل" العازة يشكل معنى مشترك، ويمثل حقيقة جامعة، تتبلور سياقاته في شريك طارئ، يجعل "التركة" تطرح وتصاغ من جديد. و"الهميم" الذي أتى إلى الدنيا، بعد أن أدرك والده الضعف والوهن، لم يكن يرسل نفسه على سجيتها، حتى ينقب في الأسباب التي دفعت شقيقاته لبغضه، ومقت أمه، ولكن الشيء الذي حطم آماله، وصدّع قلبه، أن الشول وشقيقاتها قد استأنفوا ما فعلوه قبل عدة أعوام، فقد عكفوا عند احتضار والده، على حبك الخطوب الكارثة، والمصائب المتوالية، التي تحقق لهم أقصى ما يطمحون إلى تحقيقه، والعازة التي سئمت من رميها بكل سوءة شنعاء، ومعرة دهماء، وضاقت بهذه الحرب التي لا يخمد لها لهيب، قررت قراراً حاسماً سريعا، أشاع في نفسها القوة والنشاط، فبعد وفاة الشبلي، الذي مضى وتركها بلا سور يحميها، أظهرت الشول جانباً عظيماً من الجهل والانحطاط، فقد سمعت نداءها الرقيق الشجي، في عتمة ليل بهيم، وهي تنادي "جابر" الذي تتصاغر نفسه أمام جمالها، لقد كانت الشول التي تضطرم طمعاً، وتفيض غدراً، حسناء، يخلب حسنها وجمالها كل من رأها، ولكن سحرها المتعاظم هذا، كان يعطي أدق صورة وأصدقها، للمرأة الشؤم التي يتحاشاها الرجال، ويزوروا عنها ازورارا عظيما، رغم فتنتها الطاغية ، فكل من اتخذ الشول زوجة له، ترجل من صهوة جواده، و طوته الغبراء، وجابر المتمم لأصحابه الثلاث، أوعزت إليه الشول، أن يذيع في القرية، أن العازة قد ألقت برقعها، وبدأت تراوده عن نفسه، ولكنه رفض واستعصم، ولم ينساق وراء رغبتها الجامحة، لأنه يعشق الشول التي بهرته واستأثرت بقلبه، كان هذا هو ديدن الشول معها، فهي لا تنشد شيئاً في حياتها الماضية، والحاضرة، والمستقبلية، غير أن تحيل العازة وابنها المراهق "الهميم" إلى كوكب آخر، وتستأثر هي وشقيقاتها بكل إرث الشبلي، وفي الحق أن كيد الشول لم يكن قاصراً على إشانة سمعتها، فالرمي الذي يحبه الناس، ويكلفون به، كان جزءاً من سلسلة طويلة من الدسائس التي دونتها سجلات البلاغات في مراكز الشرطة، تلك الترهات والآراجيف التي تصدت لها محاميتها" مهيرة" وأدحضت كل مباحثها وتقاريرها، لقد أزمعت العازة الرحيل، وفضلت أن تهنأ بعيشها، وتترك كل إرث زوجها، لبنته الشول التي تتلذذ بكل مأثم ومحرم. لم ترضخ العازة لتوسلات مهيرة، التي عابت عليها هذا التطري والضعف، ولكن العازة وعدتها بأنها سوف تعود بعد أن يلبي الله دعواتها التي تبتهل بها إليه، آناء الليل، وأطراف النهار، ولم تمضي عدة سنوات، حتى ساءت العازة خصومها وحسادها، بتلك الثروة الطائلة التي ورثتها من عمتها الوحيدة، التي أنفقت كل عمرها في العمل الدؤوب، عمتها "دار السلام" اخصائية جراحة المخ والأعصاب، التي لم يسبق لها الزواج، توفيت في عاصمة الضباب، وأوصت أن تنتقل جميع ممتلكاتها إلى العازة وأبنها الهميم، والشول التي أدركها الاضطراب، شرعت تفكر في مآلات هذا الصراع بينها وبين نفسها، بعد هذا التغيير الذي طرأ على حياة العازة، فاستدعت شقيقاتها اللائي أسرفن في توبيخهن لها، ونقدهن إياها، وانكارهن عليها، وطلبن منها في وضوح، أن تؤثر العافية، وتميل إلى المهادنة، وتحرص على أن تحسن صلاتها بزوجة أبيها. والشول التي انحرفت عن سلوكها المعتاد، انحرافاً منكرا، صورت ندمها على تعاملها مع العازة، في شكل دموع تقاطرت على خدها، والعازة التي نزعت شجاها، ونفست كربتها، أخبرتها في أدق تصوير، وأصدق عناية، بأنها قد تغاضت عن كل تصرفاتها، وأنها قررت أن تكافئ كل صورة من هذه الصور القاتمة، وكل وجع من تلك الأوجاع المضنينة، التي أتحفتها بها الشول بالتغاضي والغفران، لقد صار صفح العازة وابنها الهميم، وتجاوزهم لضغائن الشول وشقيقاتها، وتنازلهم بمحض اختيارهم عن نصيبهم في الميراث، مثلا يحتذى في تلك القرية الوادعة من قرى الجزيرة. د.الطيب النقر الأربعاء 23/7/2025
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة